يقترب العراق من إعلان تطهير البلاد بشكل تام من مخلفات اليورانيوم المنضب التي تراكمت على أراضيه نتيجة الحروب السابقة، وذلك بعد سنوات من الجهود المتواصلة التي بذلتها السلطات العراقية، بالتعاون مع جهات دولية، لمعالجة التلوث البيئي الناجم عن تلك المخلفات.
وأعلن رئيس هيئة الطاقة الذرية العراقية ووزير التعليم العالي والبحث العلمي، الدكتور نعيم العبودي، أن العراق يقترب من التخلص الكامل من مخلفات اليورانيوم المنضب، وذلك خلال زيارته لمقر الهيئة العربية للطاقة الذرية في تونس، وسط تأكيده على استمرار جهود هيئة الطاقة الذرية العراقية التي شارفت على الانتهاء من تطهير ما تبقى من المناطق بشكل كامل.
لكن خبيرًا تحدث إلى “نون بوست” شكك في الوعد الذي أعلنه المسؤول العراقي، وعدّه مبالغة لا تستند إلى الوقائع.
تطهير العراق من مخلفات اليورانيوم
كانت وزارة البيئة العراقية قد أعلنت في وقت سابق عن الخطة الوطنية لإزالة التلوث الإشعاعي في العراق، التي أقرّها مجلس الوزراء وحدد فيها أدوار الجهات الوطنية المسؤولة عن الخطة الوطنية وتوفير مستلزمات إنجاحها.
وتهدف الخطة الوطنية إلى إعلان العراق خاليًا من آثار التلوث الإشعاعي باليورانيوم المنضب الذي نتج عن الحروب وتجارب النظام السابق وإزالة آثاره عن البيئة والإنسان، في سعي حكومي جاد لمعالجة هذه الآثار.
وأعلن مركز الوقاية من الإشعاع، مطلع العام الجاري، عن تحديث الخطة الوطنية لإزالة التلوث الإشعاعي في العراق، فيما نقلت وكالة الأنباء العراقية (واع) عن مدير المركز، صباح الحسيني، بأنه “كانت هناك عشرات المواقع الملوثة في العراق، ما استدعى وضع خريطة للوصف الإشعاعي منذ عام 2004، ومنذ ذلك الحين بدأ العمل لتطهير تلك المواقع”.
ورجّح الحسيني إمكانية الإعلان عن خلو العراق من التلوث وإشعاع اليورانيوم المنضب خلال أقل من سنة، مستدركًا بالقول: “لكننا قد نجد مواقع أخرى خارج الخطة الوطنية ملوثة بالإشعاع، وسنتعامل معها حين اكتشافها، والعمل يسير بشكل جيد في المواقع المؤشرة لدينا في الخريطة الإشعاعية”.
تنتشر بقايا ذخيرة اليورانيوم المنضب والمخلفات المشعّة في 1100 موقع بعموم مناطق العراق.
وكانت وزارة البيئة العراقية قد أعلنت في مارس/آذار 2023 تخصيص نحو 5 مليارات دينار عراقي (3.8 مليون دولار) لإزالة التلوث الإشعاعي في عموم محافظات البلاد.
من جانبه، يبدي الكاتب والباحث العراقي صادق الطائي استغرابه من إعلان وزير التعليم العالي العراقي بشأن اقتراب التخلص الكامل من مخلفات اليورانيوم المنضب، بسبب حجم الكارثة البيئية التي يعاني منها العراق، إذ إن عدد المواقع الملوثة كبير جدًا، ونسب التلوث فيها عالية.
ويضيف الطائي، وهو مهندس سابق في منظمة الطاقة الذرية، خلال حديثه لـ”نون بوست”، أنه لم يصرح أي مسؤول عن ماهية الآليات وطرق معالجة التلوث التي استخدمتها الكوادر العراقية أو الأجنبية العاملة في هذا المضمار، معربًا عن اعتقاده بأن “تصريح الوزير فيه مبالغة وربما تقف خلفه دوافع إعلامية محضة”.
كميات كبيرة
تشير تقديرات سابقة لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة إلى أن نحو 2000 طن من اليورانيوم المنضب ربما استُخدِمت في العراق، وأن قدرًا كبيرًا من هذه الكمية لم يتم تنظيفه بعد.
وبحسب التقارير فإن بقايا ذخيرة اليورانيوم المنضب والمخلفات المشعّة كانت تنتشر في 1100 موقع بعموم مناطق العراق.
وكشف تقرير نشرته منظمة المجتمع العلمي العربي، عام 2015 عن تعرّض العراق خلال الحربين 1991 و2003 إلى كمية هائلة من ذخائر اليورانيوم خلفت أكثر من 2200 طن متري من اليورانيوم المنضب، وهو ما يعادل 250 قنبلة ذرية.
التحالف الدولي بقيادة أمريكا نشر 1700 طن متري من المعدن السام في العراق
وبحسب برنامج الأمم المتحدة للبيئة، والوكالة الدولية للطاقة الذرية، فإن الأرقام المستمدة من دراسات تخمينية مختلفة تقدر أن التحالف الذي قادته الولايات المتحدة ضد العراق نشر ما قد يصل إلى 1700 طن متري من المعدن السام، ويقدّر الخبراء أن حجم التلوث العراقي باليورانيوم المنضب كان أكبر بـ50 مرة من التلوث في البلقان.
وأشار الطائي إلى أن الجهات المعنية عملت طيلة العقدين الماضيين على إيجاد وسائل آمنة للتخلص من النفايات المشعة، وكان آخرها الزيارة التي قام بها فريق فني من مركز الوقاية من الإشعاع إلى المنشآت الفرنسية للتخلص النهائي من النفايات المشعة.
ويؤكد الطائي أن العراق عانى خلال السنوات الماضية من وجود عشرات المواقع الملوثة بالإشعاع وأكثر من 10 آلاف طن حديد للعجلات العسكرية المدمرة بقذائف اليورانيوم المنضب، ومئات الأطنان من السكراب الملوث، والمخلفات العسكرية، ومواد مشعة من بقايا البرنامج النووي العراقي السابق.
آثار خطيرة
نتجت عن استخدام اليورانيوم المنضب في العراق خلال الحروب الماضية آثار صحية وبيئية خطيرة ما زالت تعاني منها البلاد حتى اليوم. وتتنوع الطرق المحتملة لتعرض سكان العراق لليورانيوم، لتشمل الابتلاع والاستنشاق والاتصال الجلدي والشظايا المدفونة، حيث يولّد اليورانيوم المستخدم كسلاح سحابة من جزيئات أكسيد اليورانيوم ذات قابلية ذوبان متفاوتة.
وتؤكد الدراسات بأن التعرض لأكاسيد اليورانيوم عن طريق الاستنشاق أو الابتلاع يسبب تأثيرات مسرطنة وتشوهات خلقية، ورغم تخلص الجسم من معظم اليورانيوم الممتص في غضون 24 ساعة، لكن ما يتبقى يتم تخزينه في العظام والكلى والكبد، كما أن اليورانيوم قادر على الوصول إلى المخ واختراق حاجز المشيمة.
البؤر الملوثة تهدد حياة نحو 1.7 مليون عراقي مع آثار اقتصادية واجتماعية مدمرة، وخسائر إجمالية تقدر بنحو 1.5 مليار دولار كل عام.
وحذّرت منظمة الصحة العالمية من أن أطفال العراق أكثر عرضة للتعرض للإشعاع عن طريق الابتلاع بسبب نقل الغبار وجزيئات أكسيد اليورانيوم من اليد إلى الفم، وتشمل المخاطر الفئات الضعيفة الأخرى مثل عمال الخردة المعدنية والمدنيين الذين يعيشون بالقرب من المناطق الملوثة.
وتسببت مخلفات اليورانيوم في ارتفاع الإصابة بالأمراض السرطانية في البلاد، وازدياد التشوهات الخلقية بين الولادات، فضلًا عن أمراض جلدية وتنفسية خطيرة.
وتشير تقديرات البنك الدولي إلى أن البؤر الملوثة تهدد حياة نحو 1.7 مليون عراقي مع آثار اقتصادية واجتماعية مدمرة، وخسائر إجمالية تقدر بنحو 1.5 مليار دولار كل عام.
ويحذّر الطائي من أن خطورة المواد المشعة وتأثيراتها الصحية لا تنتهي بمجرد رفعها ودفنها، لأن التخلص من هذه المخلفات الملوثة إشعاعيًا يحتاج إلى خبراء في هذا المجال. ويشير إلى أن الدول غالبًا ما تتخذ من الصحاري البعيدة مناطق لطمر المخلفات النووية، وبخلاف ذلك، فإن جميع السكان القريبين من تلك المناطق ستكون حياتهم معرضة للخطر، فضلًا عن التأثيرات الجينية التي قد تصيب الأجيال القادمة.