مؤخرًا شهدت العملة اليمنية تراجعًا فظيعًا في قيمتها أمام الدولار والعملات الأجنبية، حيث بلغ سعر الصرف في سوق العملة خلال الأسبوعين الماضيين مستوى قياسي وصل إلى 550 ريالاً للدولار الواحد، وهو أكبر تدهور يصل إليه الريال اليمني في تاريخه.
يأتي هذا بعد أن كان الريال اليمني قد حقق تحسنًا طفيفًا بعد إعلان المملكة العربية السعودية في بداية نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي إيداع مبلغ ملياري دولار في البنك المركزي اليمني لإنقاذ العملة اليمنية التي شهدت حينها تراجعًا مشابهًا.
المليارا دولار التي قدمتهما المملكة العربية السعودية كوديعة في البنك المركزي اليمني، لم تكن كافية إلا بالقدر اليسير في تعافي الريال اليمني من أزمته، مقارنة بالوضع الكارثي الذي وصلت إليه العملة المحلية التي كانت السعودية طرفًا مسببًا في تدهورها من خلال الحرب التي تقودها في اليمن.
بدأ التدهور في قيمة العملة اليمنية نهاية عام 2014 بعد سيطرة جماعة الحوثي على مقاليد السلطة في العاصمة صنعاء
إلا أنها في كل الأحوال ساهمت بقدر ضئيل ومؤقت في إيقاف نزيف الريال اليمني، حيث استقر بعدها سعر الصرف عند 480 ريالاً للدولار الواحد، وظل كذلك حتى نهاية يوليو/تموز الماضي، نتيجة لتراكم عدة عوامل اقتصادية وسياسية على مدى 4 سنوات ولا سيما أن اليمن يعتمد على الخارج في توفير ما يقارب 90% من غذائه.
أسباب التدهور
بدأ التدهور في قيمة العملة اليمنية نهاية عام 2014 بعد سيطرة جماعة الحوثي على مقاليد السلطة في العاصمة صنعاء في سبتمبر/أيلول من العام نفسه، حيث كانت احتياطات البنك المركزي حينها تُقدَّر بأكثر من 4 مليارات دولار، أما سعر الدولار فكان يساوي 215 ريالاً يمنيًا، ثم شهد الدولار بعدها قفزات كبيرة ومتتالية مقابل تراجع الريال الذي ترافق مع اندلاع الحرب المستعرة منذ 3 سنوات، حتى وصل إلى ما هو عليه اليوم.
أما ما يتعلق بالهبوط القياسي الذي وصلت إليه العملة اليمنية نهاية يوليو/تموز الماضي يُعزى إلى أسباب عديدة أهمها انخفاض احتياطات البنك المركزي من النقد الأجنبي التي تراجعت من 4 مليارات دولار إلى أقل من مليار دولار، وتحول السوق المحلية إلى سوق سوداء، وعودة آلاف العمال اليمنيين من السعودية، واحتياج التجار إلى العملة الصعبة استعدادًا لعيد الأضحى، إضافة إلى سحب الحجاج اليمنيين مبالغ كبيرة من الريال السعودي من السوق، فضلًا عن توقف الصادرات النفطية لليمن في ظل الحرب.
مخالفات حكومية وإدارة عقيمة
إلى جانب ذلك يرى اقتصاديون أن السبب المحوري يتعلق بمخالفات حكومية في خرق قانون البنك المركزي اليمني مثل الاقتراض الحكومي غير الرشيد وتسييل الاحتياطات النقدية الأجنبية إلى الريال اليمني لصالح الحكومة في الوقت الذي كانت فيه الاحتياطات النقدية لدى البنك المركزي اليمني تقدر بنحو 4 مليارات دولار قبل 4 سنوات.
لإعادة قيمة الريال إلى ما كانت عليه قبيل 4 سنوات يقتضي توفير 11 مليار دولار من العملة الأجنبية كاحتياطي نقدي للبنك المركزي
أعقب ذلك سلسلة مخالفات غير محسوبة العواقب تسببت في انحدار قيمة الريال التي كانت حينها تساوي 215 ريالاً للدولار، حيث تمت طباعة مئات المليارات من العملة المحلية وضخها إلى السوق، بلغت في مجموعها خلال الأعوام الـ4 الماضية نحو ترليوني و200 مليار ريال، أي بزيادة نسبتها 150% على ما كانت عليه نهاية عام 2014.
وهو ما يقتضي بالضرورة انخفاضًا عكسيًا للعملة اليمنية نسبته 150%، وفي حال قمنا بإضافة نسبة انخفاض قيمة غطاء الريال بالعملات الأجنبية فإن نسبة انخفاض قيمة الريال تصل إلى 500% ما يعني أن الريال مرشح أن يصل سعره إلى ما يتجاوز 1000 ريال للدولار الواحد خلال الشهور القادمة.
ولتقليص هذه الهوة المخيفة لإعادة قيمة الريال إلى ما كانت عليه قبيل 4 سنوات يقتضي توفير 11 مليار دولار من العملة الأجنبية كاحتياطي نقدي للبنك المركزي، وفي كل الأحوال فإن هذا المبلغ ليس بمقدور الحكومة اليمنية توفيره خصوصًا في الوقت الحاليّ، ولسوء الحظ فإن المعطيات التي بين أيدينا تشير أن العملة اليمنية ستشهد مزيدًا من التدهور في الفترة المقبلة.
زيادة الأسعار تقصم ظهر اليمنيين
في هذه الدوامة الاقتصادية تشير التوقعات إلى اتساع مستمر في الفجوة بين الريال والدولار، فبحسب خبراء اقتصاديين فمن المتوقع أن يصل سعر الدولار الواحد إلى 1000 ريال يمني بنهاية العام الحاليّ 2018، الأمر الذي يصحبه زيادة موازية في لهيب الأسعار والحاجيات الحياتية الأساسية، في ظل واقعٍ تراجعت فيه القدرة الشرائية لليمنيين أكثر من أي وقت مضى.
شهدت العاصمة صنعاء ومحافظات يمنية أخرى زيادة إضافية في أسعار المواد الغذائية والحاجيات الأساسية والمواصلات والمشتقات النفطية التي وصلت إلى مستويات لا يطيقها المواطن اليمني
إضافة إلى أن الحركة التجارية في البلاد أصيبت بالركود، نتيجة الأزمة الاقتصادية التي قصمت ظهر ذوي الدخل المحدود، وما صاحبها من أزمات متلاحقة جعلت اليمنيين على المحك، بعد أن وصل تراجع الريال إلى الدرك الأدنى في تاريخه، حيث أصيبت القطاعات الاقتصادية الصغيرة في اليمن بموت سريري.
سوق العقارات أيضًا شهدت زيادة موازية رغم الضائقة المالية التي يمر البلد ولا سيما في العاصمة صنعاء، بسبب تدفق النازحين عليها ممن فر من المواجهات المحتدمة بين الحوثيين قوات التحالف في الحديدة والساحل الغربي لليمن، ما أضاف أزمة جديدة تضاف إلى جملة الأزمات القاصمة التي تعصف بالبلاد.
كما شهدت العاصمة صنعاء ومحافظات يمنية أخرى زيادة إضافية في أسعار المواد الغذائية والحاجيات الأساسية والمواصلات والمشتقات النفطية التي وصلت إلى مستويات لا يطيقها المواطن اليمني في ظل انقطاع مرتبات الموظفين في القطاع العام لقرابة عامين، والأزمات الخانقة المستفحلة التي تجر البلاد إلى هاوية المجاعة الشديدة.
هذا الواقع يقتضي في ظلّ الحصار وإجراءات التفتيش التي تخضع لها جميع الواردات، زيادةً في تكاليف التأمينات والنقل والتوزيع، فضلاً عن ترشيد عملية الاستيراد من جانب التجار بسبب أوضاع الحرب في البلاد، في النهاية تُضاف كل تلك التكاليف إلى السعر الإجمالي للسلع التي أصبحت بمعظمها بعيدة عن متناول السواد الأعظم من اليمنيين، حيث ارتفعت أسعار الدقيق وغاز الطبخ بنسبة 300% ووصل سعر البترول إلى حدود 1400% وفقاً لتقارير منظمات إغاثية دولية.
في محاولةٍ يائسة في الوقت بدل الضائع لإيقاف تدهور الريال اليمني أمام العملة الأجنبية شرعت السلطات اليمنية نهاية الأسبوع الماضي في إغلاق العشرات من محلات الصرافة غير المرخصة
يأتي هذا في الوقت الذي تشير فيه إحصاءات شبه رسمية إلى أنّ نسبة البطالة تتجاوز 50% من إجمالي القوى القادرة على العمل، يضاف إلى ذلك آلاف العمال والموظفين الذين خسروا وظائفهم بسبب توقف الشركات العاملة في اليمن وإغلاق السفارات، وتكاد تنعدم البدائل التي تضمن مصادر أخرى للدخل، وهو ما يسهم في تفاقم الوضع الإنساني، في البلد الفقير.
تدابير حكومية في الوقت بدل الضائع
في محاولةٍ يائسة في الوقت بدل الضائع لإيقاف تدهور الريال اليمني أمام العملة الأجنبية شرعت السلطات اليمنية نهاية الأسبوع الماضي في إغلاق العشرات من محلات الصرافة غير المرخصة، كما تنفذ الأجهزة الأمنية حاليًّا حملة مداهمات على محلات الصرافة في أكثر من محافظة يمنية لإغلاق محلات الصيارفة غير الحاملين للتراخيص القانونية، مع إيقاف منح التراخيص للمحلات التي تستأنف نشاطها بعد صدور قرار إيقاف عملها غير المقنن.
حيث أعلنت السلطات في مدينة عدن إغلاق 50 محلًا للصرافة، وفي تعز تم إغلاق نحو 30 محلًا حتى الآن من تلك التي لا تملك تراخيص رسمية، لتفادي استمرار التلاعب بأسعار الصرف وتقليل المضاربات بالعملة الأجنبية، كما أُغلقت عشرات المحلات في محافظات مأرب وذمار والضالع.
عملت الإمارات على استمرار توقف الصادرات النفطية للبلاد رغم إمكانية تصديرها
هذه الإجراءات تمت بموجب قرارات أقرتها إدارة البنك المركزي اليمني قبل أيام، وتضمنت العديد من أدوات السياسة النقدية والإجراءات الحاسمة لحماية العملة الوطنية من عمليات المضاربة غير القانونية التي تتم خارج إطار النظام المصرفي، إضافة إلى تفعيل الرصد والرقابة الدورية على المحلات الجديدة.
دور سلبي للتحالف العربي
التحالف العربي أيضًا كان له دور سلبي في صناعة الأزمة الاقتصادية وتراجع قيمية الريال خاصة الإمارات العربية المتحدة التي تسيطر على المنافذ البحرية ومنابع النفط في المحافظات المحررة، حيث عملت على استمرار توقف الصادرات النفطية للبلاد رغم إمكانية تصديرها، خصوصًا أن الاقتصاد اليمني يعتمد بنسبة تتجاوز 70% على عائدات النفط، الأمر الذي أدى إلى تعقيد الأزمة الاقتصادية في البلاد التي تهدد بإفلاس البنك المركزي.
ومن غير المستبعد أن سلوك الإمارات العربية المتحدة المشاركة في التحالف العربي والموجودة عسكريًا على الأراضي اليمنية، تعمّدت صناعة هذا الواقع، كون الشواهد تؤكد أنها ترى أن من مصلحتها إضعاف الحكومة الشرعية وتفتيت الوحدة اليمنية ودعم وإسناد الكيانات الشطرية التي تخدم أجندتها الرخيصة في اليمن، البعيدة كل البعد عن كسر شوكة الانقلابيين وإعادة الشرعية.