ما إن يذكر اسم ليبيا حتى يذكر معه الفوضى وانعدام الأمن والاستقرار، حيث عرفت البلاد في السنوات الأخيرة انتشار الميليشيات المسلحة المحلية والأجنبية، وانتشار السلاح والفوضى والعنف نتيجة أسباب عدة، في هذا التقرير سنلقي الضوء على دور منطقة الجنوب في عدم استقرار هذا البلد العربي الممزق، والأطراف الرئيسية المتسببة في ذلك.
الجنوب.. تنوع عرقي
يتميز الجنوب الليبي بتنوعه الإثني والعرقي والقبلي الكبير، حيث تنتشر على مساحة صحراوية شاسعة العديد من التجمعات القبلية والعرقية المختلفة، والممتدة على فضاء جغرافي مفتوح ومتداخل مع 5 دول كاملة هي النيجر والتشاد والسودان ومصر والجزائر من الأطراف.
ويعيش بجنوب ليبيا قرابة 400 ألف نسمة، 97% منهم من القبائل العربية و3% الباقية من مكوني الطوارق والتبو، وتنتشر القبائل العربية في منطقة الشاطئ وسبها وسمنو وزيغن والبونيس وأوباري ومرزق والقطرون وغات وتمسه وزويلة وراغن وأم الأرانب.
ويتركز مكون التبو في مناطق مرزق والقطرون وأم الأرانب، كما يوجدون بقلة في مدينة سبها، فيما يعيش الطوارق في منطقة أوباري وغات ومكنوسة والعوينات وتقرطين، حيث يعتبر الجنوب من ناحية الكثافة السكانية الأضعف في ليبيا ولا يشكل أكثر من عشر سكان البلاد.
ثروات طبيعية هائلة
يحتوي الجنوب الليبي بحسب دراسات المسح الجيولوجي الحديثة التي قامت بها شركات نفط أوروبية وأمريكية، على احتياطي هائل من النفط والغاز، ويوجد به حقل الشرارة للغاز والنفط الذي تعمل به شركة إيني الإيطالية.
وتوجد في غرب سبها منطقة خصبة تسمي وادي الحياة تحتوي على أهم احتياطات النفط والماء في ليبيا، وهناك حقل نفط تديره شركة ريبسول الإسبانية يشكل وحده 15% من إنتاج النفط الخام، بينما تنشط أيضًا شركات طاقة أخرى في المنطقة.
غياب سلطة القانون في الجنوب الليبي أدى إلى انتشار الميليشيات الإفريقية
يوجد في الجنوب خزانات المياه الجوفية العميقة التي توفر المياه للنهر الصناعي العظيم، أحد إنجازات نظام القذافي القليلة، وتوفر أيضًا نحو ثلثي إمدادات المياه في البلاد، كما يعد الجنوب الليبي واعدًا في مجال إنتاج الطاقة الشمسية، وقامت مجموعة شركات ألمانية بدراسات قدمتها للحكومة الليبية إبان رئاسة عبد الرحيم الكيب لها، إلا أن الوضع الأمني حال دون ذلك.
انهيار مؤسسات الدولة
في الجنوب الليبي لا يوجد لمؤسسات الدولة مكان، فقد عوضت المجتمعات المحلية التي تعيش في الجنوب من العرب والأمازيغ والأفارقة حكومة الوفاق الوطني التي يرأسها فائز السراج، فحتى المؤسسات التي تعلن ولاءها للحكومة، لها أن تعلن ولاءها لأي طرف ثاني في أي لحظة، فالولاء لمن يدفع أكثر.
وعزز الانقسام السياسي في ليبيا ضعف سيطرة الحكومات على المنطقة الجنوبية، وقد انعكس الصراع بين الشرق والغرب على الجنوب الليبي، ليكون الانقسام السياسي محركًا رئيسيًا للصراع في هذه المنطقة من البلاد الغنية بالموارد الطبيعية.
انتشار للمليشيات الإفريقية
غياب سلطة القانون في الجنوب الليبي أدى إلى انتشار الميليشيات الإفريقية التي شاركت في الاقتتال الداخلي الذي تشهده المنطقة منذ سنوات، وفرض سلطتها على الجميع دون تدخل سلطات البلاد الشرعية، ومن أبرزها مجموعات تشادية وأخرى من النيجر والسودان.
يتمتع الجنوب بموارد طبيعية كبيرة
من أبرز الجبهات التشادية والسودانية والمالية المسلحة الموجودة في الجنوب الليبي: الحركة من أجل الديمقراطية والعدالة في تشاد والقوات الثورية المسلحة من أجل الصحراء وجبهة الوفاق من أجل التغيير في تشاد والمجلس العسكري لإنقاذ الجمهورية وتجمع القوى من أجل التغيير في تشاد، إضافة إلى حركة العدل والمساواة السودانية وحركة تحرير السودان وحركة العدل والتحرير، وحركات المعارضة المالية والنيجرية.
صراع مستمر
عرف الجنوب الليبي عقب سقوط نظام القذافي سنة 2011 العديد من الصراعات المحلية، أبرز هذه الصراعات صراع قبيلة التبو ضد قبيلة أولاد سليمان العربية، وقد اندلع هذا الصراع أول مرة سنة 2012 وتجدد القتال بينهما سنة 2014.
وفي شهر مارس/آذار الماضي تجدد الصراع بين الطرفين، حيث هجمت مجموعات مسلحة من قبيلة التبو مستعينة بمرتزقة أفارقة، خاصة من القوات التشادية والسودانية المتمردة، على مدينة سبها جنوب البلاد، في محاولة منها لاحتلال المنطقة والسيطرة على مؤسسات الدولة الليبية هناك، من ذلك المطار والمعسكرات، وتصدت لها قبلية أولاد سليمان.
من بين أبرز هذه الصراعات أيضًا صراع القذاذفة ضد أولاد سليمان، ففي سنة 2014 دار القتال بينهما في سبها، ومرة أخرى سنة 2016، وتناصر قبيلة القذاذفة اللواء المتقاعد خليفة حفتر الذي يعادي الحكومة الشرعية في طرابلس، فيما توالي قبلية أولاد سليمان حكومة الوفاق الوطني التي يقودها فائز السراج.
تستند فرنسا في محاولة بسط نفوذها على المنطقة على إرث تاريخي استعماري
كما عرف الجنوب الليبي أيضًا صراع التبو ضد الطوارق، واندلع الصراع بينهما في مدينتي أوباري وسبها في عامي 2014 و2015، وتحول التبو والطوارق في أغسطس/آب 2014 إثر الانقسام الذي حصل في البلاد وتشكيل حكومتين وبرلمانين من كونهما حليفين وثيقين إلى خصوم.
المخابرات الأجنبية
فضلًا عن الميليشيات الإفريقية، يمثل الجنوب الليبي مكانًا خصبًا لعمل المخابرات الأجنبية، فدول عديدة تنشط هناك بحرية كاملة دون أن يعرقل عملها أحد، فالسلطة الشرعية في طرابلس منهمكة في تثبيت سلطتها الوهمية، والسلطة الموازية في الشرق مهتمة بمصالحها الشخصية المتقاطعة مع مصالح المخابرات الأجنبية.
وتنشط المخابرات الإيطالية بكثرة هناك، وتوظف إيطاليا – المستعمر السابق لليبيا التي تريد وقف نزيف الهجرة غير الشرعية نحو سواحلها وأخذ حصة من كعكة النفط الليبي – كل الأوراق لكسب الرهان، من ذلك اللعب على التناقضات القبلية، لا تتوانى عن التدخل في كل تفاصيل المشهد الليبي ومحاولة التأثير في كل مجريات العملية السياسية في البلاد.
ويمثل الجنوب الليبي أهمية كبرى لإيطاليا، فهو أحد أهم منابع الثروة في البلاد وأهم نقطة عبور وبوابة رئيسية لأفواج المهاجرين القادمين من إفريقيا، لذلك تسعى روما لتكون فاعلاً مهمًا في ساحة ليبيا الجنوبية، وهو ما دفعها على سبيل المثال إلى رعاية المصالحة بين التبو وأولاد سليمان.
وكانت وسائل إعلام إيطالية تحدثت عن اتفاق عقد بين رئيس حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج ووزير الداخلية الإيطالي ماتيو سالفيني، لإقامة قاعدة عسكرية إيطالية في مدينة غات جنوب ليبيا، تتمركز بها قوات خاصة وشرطة حدود إيطالية لمكافحة الهجرة.
تنتشر قوات أجنبية عديدة في جنوب ليبيا
إلى جانب إيطاليا، تنشط فرنسا كثيرًا في الجنوب الليبي، وتحاول باريس استمالة قبائله العربية والعرقية خاصة قبلية التبو لوضع قدمها في الجنوب، باعتباره منفذًا مهمًا من الناحية الاقتصادية، ومدخلًا أكثر أهمية إلى العمق الإفريقي، أرض الثروات الطبيعية.
وتستند فرنسا في محاولة بسط نفوذها على المنطقة إلى إرث تاريخي استعماري، حيث كان إقليم فزان لفترة طويلة قابعًا تحت السيطرة الفرنسية، وتستعمل فرنسا فزاعة الجماعات المتشددة كذريعة للسيطرة على جنوبي ليبيا، وتراهن السلطات الفرنسية التي تمتلك قواعد عسكرية شمال النيجر قرب الحدود الجنوبية الليبية على هذه المنطقة كأحد مصادر الثروات الباطنية من نفط وغاز ومعادن.
وتسعى الولايات المتحدة الأمريكية أيضًا إلى وضع يدها على الجنوب الليبي الذي ترى فيه مصدرًا للإرهاب وبيئة خصبة لتنامي الجماعات المسلحة، وترى واشنطن أن ملاحقة فرع تنظيم داعش في الصحراء الكبرى يجب أن ينطلق من جنوب ليبيا الذي يمثل مصدر خطر كبير للمنطقة.
وتعتبر روسيا أبرز لاعب دولي جديد في الجنوب الليبي، وقد دخلت موسكو بقوة إلى المنطقة حيث تعمل على دعم قوات حفتر المتمركزة هناك للظفر بنصيب من الموارد الطاقية الموجودة بكميات هائلة في الجنوب ولا يقع استغلالها.
عربيًا تنشط كل من مصر ودولة الإمارات العربية المتحدة في الجنوب الليبي، لكن نفوذهما يبقى ضعيفًا مقارنة بالدول الأوروبية وأمريكا، فكلاهما يبحث له عن موطن قدم خلف إحدى هذه الدول القوية، فليس باستطاعتهما حاليًّا أن يضاهيا نفوذ هذه الدول.
ازدهار الاتجار غير المشروع
سيطرة عصابات تهريب النفط والبشر على منطقة الجنوب كانت سببًا في ازدهار عمليات الاتجار غير المشروع، حيث يتيح ضعف مراقبة الحدود لأسواق السلاح والبشر والمخدرات أن تزدهر، مع ما يترتب على ذلك من عواقب وخيمة على المنطقة ككل.
انعدام الاستقرار في الجنوب انعكس سلبًا على كامل ليبيا
في السنوات الأخيرة أصبح جنوب ليبيا المنفذ الأكبر لهجرة غير النظاميين نحو أوروبا، إذ تعمل عصابات منظمة من مختلف مكوناته الاجتماعية (العرب والتبو والطوارق) على جلب المهاجرين غير النظاميين من دول إفريقية جنوب الصحراء، وإيصالهم إلى منافذ بحرية عدة بطرابلس وزوارة وتاجوراء وسرت.
كما أصبحت تجارة السلاح رائجة بجنوب ليبيا حيث تذهب هذه الأسلحة إلى عدة دول إفريقية ومجموعات مسلحة متشددة وعرقية بمالي وتشاد والنيجر، إضافة إلى تجارة الرقيق والمخدرات وتهريب السلع التموينية والوقود من ليبيا إلى هذه الدول، وجلب التبغ والمخدرات إليها.
غياب الأمن والاستقرار
هذه العوامل أدت جميعها إلى غياب الأمن والاستقرار في الجنوب الليبي، حتى أصبح مصدر قلق لكامل البلاد، وقد أقر وزير الداخلية الليبي عبد السلام عاشور مؤخرًا أن جميع مشاكل بلاده الأمنية تأتي من حدودها المنتهكة خصوصًا الجنوبية.
انتشار تجارة البشر في جنوب ليبيا
ففي مقابلة له مع وكالة أنباء الصين “شينخوا” بثتها، قال الوزير إن الجنوب الليبى أصبح يعاني كثيرًا، والحدود من ناحية الجنوب أصبحت منتهكة، معتبرًا أن الجنوب تم استغلاله بشكل سيء جدًا من العصابات الإجرامية التابعة للمعارضة في بعض البلدان وغيرها من التشكيلات المعارضة الإفريقية التي كانت توجد خارج الحدود الليبية“
انعدام الاستقرار في الجنوب انعكس سلبًا على كامل ليبيا حيث أصبح من أبرز الأسباب التي أدت إلى تدهور الوضع في البلاد وصعوبة السيطرة عليه، خاصة مع تنامي حدة الانقسام بين الفرقاء الليبيين واختلاف وجهات النظر بينهم واصطفاف كل طرف وراء دولة أجنبية يستقوي بها ضد أبناء شعبه.