انقسامات جديدة وخلافات بين مكونات المعارضة السورية تطفو على السطح مجددًا، وذلك خلال لقاء جمع أطرافًا سياسية وعسكرية في المعارضة أبرزها: الائتلاف الوطني والحكومة المؤقتة وذراعها العسكرية فصائل الجيش الوطني.
دفعت هذه الخلافات فصيل “الجبهة الشامية”، الذي يعتبر رأس حربة الفيلق الثالث في الجيش الوطني، إلى تجميد تعاونه مع الحكومة السورية المؤقتة التي يترأسها عبد الرحمن مصطفى، وطالب بإحالته إلى القضاء وحجب الثقة عن حكومته، وتشكيل حكومة رشيدة ترقى إلى شرف تمثيل الشعب السوري الحر وثورته العظيمة.
قرار الفصيل جاء بعد مشادات كلامية بين قائده عزام غريب الذي يعرف بأبو العز سراقب، ورئيس الحكومة عبد الرحمن مصطفى، ضمن اجتماع عقد في مدينة غازي عينتاب التركية بدعوى من السلطات التركية.
وأصدرت “الجبهة الشامية” بيانًا أكدت فيه أن “عبد الرحمن مصطفى خص الجبهة الشامية بسيل من الافتراءات العدائية السياسية والجنائية المعهودة ضدها من مصطفى وغير المسبوقة خلال الاجتماع الأخير، إضافة لاختلاق جرائم بحقها، محاولًا تشويه صورتها أمام المسؤولين الأتراك واستعداءهم عليها لمصلحته الخاصة، ومهددًا بسحب الشرعية عنها، بسبب ما اقترحته الشامية من خطة عمل تستجيب لمطالب الشعب في الإصلاح والتغيير”.
وحسب مصادر إعلامية فإن مصطفى اتهم الجبهة الشامية بسرقة ملايين الدولارات خلال توليها إدارة معبري باب السلامة والحمران، كما اتهمها بتأليب وتحريض سكان الشمال السوري على حكومته، والوقوف وراء موجة التظاهر ضدها، ليرد زعيم “الشامية” على مصطفى بأنه فشل في إدارة المناطق التي تسيطر عليها الفصائل المعارضة في الشمال السوري.
ووفق وصف سراج الدين العمر، مدير العلاقات الإعلامية في “الجبهة الشامية”، فإن عبد الرحمن مصطفى سار في الحكومة نحو نهج مختلف وهو العدائية نحو مؤسسات الثورة، فهو المعروف بتلك العدائية نحو فصيل الشامية، إلا أن الأمر تطور إلى الهجوم ضمن اجتماعات رسمية بحضور الجانب التركي، في حين كان من الممكن أن يكون هذا النقد ضمن اجتماع مصغر باعتبار أن الشامية جزء من تكوين وزارة الدفاع التابعة للحكومة.
وأضاف العمر أن الجبهة اعتبرت الهجوم سياسيًا عليها ويتطلب محاسبة رئيس الحكومة الذي لم يستطع إدارة مواقفه السياسية وآرائه الشخصية بشكل منعزل عن طريقة إدارته للسياسة العامة.
نهج عدائي
ليس مستغربًا أن يظهر الخلاف والتباين في وجهات النظر بين الطرفين للعلن، فلكل كيان غاياته وسياقاته، وهو ما أدى إلى تضارب كبير في الرؤى، لا سيما أن كل طرف لا يعمل بأجندة واحدة ووفق جبهة عمل واحدة، ما أدى بطبيعة الحال إلى سعي الأطراف لحماية أنفسها بتحالفات أو بعلاقات دولية أو بمكاسب معينة.
الخلاف حول آلية إدارة مناطق المعارضة وقيادتها إلى جانب أسباب أخرى هو أهم ما يمكن استشفافه وهو الذي سيُلقي بظلاله على مستقبل التعاون بين “المؤقتة” و”الشامية”، فالانقسام الواضح والاصطفافات الجلية ما هي إلا نتيجة سلسلة تراكمات تنافسية بين الطرفين، الأمر الذي حاول مصطفى استثماره ضمن الاجتماع بالسؤال عن الأموال التي دخلت خزينة “الشامية” في فترة إدارتها معبري باب السلامة والحمران، وحالة الحراك الشعبي الذي وصفه بـ”التخريبي والإرهابي”.
ويرى مدير البحوث في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، معن طلاع لـ”نون بوست” أن “الاجتماع أتى في سياق موقف حرج جدًا ومفصلي، خاصة إذا ما ربط بثلاثة متغيرات: وهي قضية اللاجئين في تركيا، وأحداث 1 يوليو/تموز التي أدت إلى انقسامات واضحة في المشهد السياسي السوري وخلق علاقات مضطربة بين شمال سوريا وتركيا، وأخيرًا سياسة التطبيع مع النظام وما رافقه من قضية فتح معبر أبو الزندين”.
وحسب طلاع فإن جذر الإشكال يتناول أربع قضايا الأولى: “هي عدم اقتناع الفصائل العسكرية بضرورة الانخراط في إطار سياسي موحد ذي مرجعية سياسية واحدة ينقلهم من حالة الفصائلية إلى حالة الدفاع عن الوطن الكامل، والثانية: هي طريقة إدارة ملف الحوكمة ووجود عدة مرجعيات مع وضوح المرجعية الأكبر وهي المجالس المحلية المرتبطة بالولايات التركية لصالح تقليل مساحات عمل الحكومة المؤقتة وعدم وجود حافز تركي لنقلها إلى أماكن متقدمة.
أما القضية الثالثة “هي العلاقة ما بين هؤلاء الفواعل وعدم تشكيل مظلة جامعة وطاولة حوار بينها، وبطبيعة الحال فقد غابت سابقًا علاقة إيجابية بين السياسي والعسكري، فقضايا عدم الاعتراف المتبادلة كانت بارزة نوعًا ما، في حين تكمن القضية الرابعة في القطاع المدني نفسه وفكرة المسؤولية العامة، فرغم وجود الحراك والمواقف السياسية الداعية لرؤى تنفيذية قائمة، فإنه ما زال مستعصيًا بسبب تراجع دور المجتمع المدني وزيادة استحقاقات القضايا التنموية وتشكيلها ضغطًا على سبل العيش في المنطقة.
“المعبر والحراك” صلب الخلاف
بالنظر إلى الاتهامات المتراشقة بين الجبهة الشامية ورئيس الحكومة يمكن استنتاج أن قضيتي فتح معبر أبو الزندين والحراك المدني (اعتصام الكرامة) هما شعرة معاوية التي انقطعت بين الطرفين، فالمعبر الذي تسعى الحكومة لإعادة فتحه باتجاه مناطق النظام ومن خلفها تركيا الراغبة بالتقدم في مسار التطبيع مع النظام هو الإجراء المرفوض كليًا من قبل الفصيل العسكري، يؤيدها طيف واسع من الحاضنة المدنية كان قد شكّل خيمة اعتصام بالقرب من المعبر.
ويمكن القول إن مصطفى الذي يوصف بالفشل في تحقيق أي إنجاز على الصعيد السياسي والمدني خلال فترة توليه رئاسة الائتلاف والحكومة يريد إدخال الشامية وحلفائها في صدام مع المؤيدين لفتح المعبر وداعميهم من الفصائل وخلفهم تركيا لإظهارهم بأنهم “طرف معطل” لأي اتفاقات توقعها تركيا، مستفيدًا من بيانه في اجتماع غازي عنتاب الذي أشار فيه إلى أن أهمية “أبو الزندين” تأتي من كونه معبرًا حيويًا إنسانيًا واقتصاديًا يؤثر إيجابًا على الوضع الاقتصادي والإنساني في المنطقة، ولا علاقة له بأي من ملفات التطبيع مع النظام.
أما الحراك فقد لفت إليه بيان “الشامية” بالقول، إن “مصطفى تعمد الإساءة لبعض الفصائل الثورية منها فصائل الشرقية التي اتهمها بالتخريب والإرهاب”، إضافة لاعتباره الحراك المعارض لحكومته ونشاط النخب الثورية شمال سوريا “مؤامرة تخريبية على حكومته وانقلابًا عليها”.
الحراك الذي وصفه مصطفى بالتخريبي كان ناتجًا عن حالة احتقان شعبي تجاه مؤسسات المعارضة السورية والدور التركي في سوريا، إذ اندلع في الأول من يوليو/تموز الفائت، ضمن عدة مناطق بريف حلب من بينها أعزاز معقل الجبهة الشامية ومكان مقر الحكومة المؤقتة، وكان من نتاج ذلك الحراك إطلاق بيان يحمل عدة مطالب من بينها: فتح تحقيق قضائي في حوادث إطلاق النار على متظاهرين في عفرين، رفض التطبيع ومنع فتح المعابر، تحديد دور الحليف التركي بالتواجد ضمن القواعد العسكرية وعدم التدخل في إدارة المنطقة، وقف حملات الكراهية ضد اللاجئين السوريين في تركيا، إلغاء الائتلاف والمؤسسات المنبثقة منه، والعمل على تشكيل هيئة عليا لقيادة الثورة.
وحسب تقييم حالة أصدره مركز حرمون للدراسات المعاصرة، فإن من بين الأسباب التي أدت إلى حراك الكرامة تزايد قناعة بعض الفصائل العسكرية في المنطقة بأن هناك سياسة تركية تهدف إلى تقليص دورها، لصالح تعزيز أدوار فصائل أخرى أكثر قربًا من تركيا، ومن أبرز هذه الفصائل “الجبهة الشامية” و”حركة التحرير والبناء”.
ويضيف المركز، أن من بين السمات العامة للاحتجاجات هي “اختلاف صيغ البيانات الصادرة عن الفصائل”، فيمكن ملاحظة تشابه في البيانات الصادرة عن كل من الفيلق الثاني والقوة المشتركة، من حيث إدانة أعمال العنف العنصري، والتشديد على الأخوّة مع الأتراك، ورفض بعض السلوكيات التي ظهرت في الأول من يوليو/تموز، فيما يظهر في بيان “الجبهة الشامية” إيحاءٌ بدعمها الاحتجاجات، من دون الإشارة إلى طبيعة العلاقة مع تركيا.
“الشامية” في عين العاصفة
تعد “الجبهة الشامية” أحد أشهر فصائل المعارضة السورية المسلحة وتندرج ضمن مرتبات “الفيلق الثالث” التابع لوزارة الدفاع في الحكومة المؤقتة، ويعتبر الفصيل الامتداد الشرعي للواء التوحيد أحد أعرق الفصائل الثورية المقاتلة.
ومرت الشامية بسلسلة تطورات كانضمام تكتلات وانشقاق شخصيات، إلا أن أهم مرحلة انحدار لها كانت في أكتوبر/تشرين الأول 2022، بعد انسحابها من عفرين وريفها إلى معقلها في أعزاز لصالح فصيلي: “سليمان شاه” و”فرقة الحمزة”، المدعومين آنذاك من هيئة تحرير الشام.
انسحابٌ وصف بـ”المفاجئ” رغم أن اقتصاديات الجبهة الشامية التي ساعدتها في بناء قوة عسكرية لا يستهان بها قد اقترنت بقدرة مالية ضخمة، انطلقت هذه القدرة من سيطرة كاملة على معبر باب السلامة الحدودي مع ولاية كلس التركية، ومعبر الحمران (الداخلي) مع مناطق قسد على الرغم من تسليمها لمعبر باب السلامة أواخر العام 2017 إلى الحكومة المؤقتة، ما طرح سلسلة تساؤلات عن كيفية عجزها عن مجابهة الفصيلين المدعومين من تحرير الشام رغم وجود حليفين قويين لها وهما: “حركة البناء والتحرير” و”جيش الإسلام” الذي يتمتع أيضًا بخزينة مالية ضخمة وعتاد وتجهيزات كبيرة.
صمتُ الجانب التركي عن ذلك التوغل وتجاهل مطالب الشامية بإعادة التمركز ضمن مناطقها التي انسحبت منها في عفرين وريفها، هو ما دعاها للتحفظ على سياسة الحليف التركي الذي لا يمكن نكران دعمه أكثر لبقية الفصائل الأكثر ولاءً له كفصائل “السلطان مراد” و”سليمان شاه” و”فرقة الحمزة”، ولم تتوانَ تلك الفصائل عن الانخراط في ممارسات رسمية لتجنيد سوريين للقتال خارج سورية لصالح تركيا.
ويبدو أن قراءة الشامية لمجمل السياسات التركية تجاه الفصائل تشير إلى تخوفها من رؤية تركية تستهدف تحجيمها، عبر تجفيف مصادرها الاقتصادية بالتحكم في المعابر، وتخفيض حجمها العسكري من خلال دعم خروج بعض المجموعات العسكرية من هذه الفصائل والتحاقها بالفيلق الثاني والقوة المشتركة.
يرى رشيد حوراني، الباحث في الشؤون العسكرية، أن بيان الشامية رسم موقفها من خلال نقطتين: الأولى هي دعوة الجانب التركي أن يأخذ بعين الاعتبار مصالح السوريين وأهدافهم في الثورة على قدر المساواة التي تسعى فيها تركيا تحقيق مصالح لها في سوريا، إضافة إلى حمله دعوة إيجابية بأن السوريين الثائرين على النظام هم إلى جانب الدولة التركية في تحقيق مصالحها دون التنازل عن مطالب السوريين، ودون توجيه أي اتهامات لأي فصيل.
أما النقطة الثانية فتتلخص في أن الجبهة تعاملت مع القضية كشأن “سوري- سوري” بدعوتها الائتلاف لحجب الثقة عن الحكومة، دون توجيه أي اتهامات لمصطفى.
ولا يتوقع حوراني في حديثه لـ”نون بوست”، أن تنجرّ “الشامية” إلى حرب بعد بيانها، خاصة أن المطالب السورية في الاجتماع مع الجانب التركي ركزت في معظمها على تأمين المنطقة وتنميتها، عدا عن تجاربها السابقة للاستفزازات في حال وقوعها إذ ستعمل على استيعابها ومعالجتها سلميًا.
مشيرًا إلى أن الجبهة الشامية تستفيد من الحاضنة الشعبية الموالية لها وهذه نقطة قوة بالنسبة لها، وتقدّم مشروعًا يقبل به الغالبية العظمى من تلك الحاضنة وتعول عليهم إلى جانب التحالف مع الفصائل المستهدفة باتهامات عبد الرحمن المصطفى، والتوجه للتنسيق مع هيئة تحرير الشام.
مصطفى رقم صعب
يحظى عبد الرحمن مصطفى، رئيس الحكومة المؤقتة بدعم لا محدود من الأجهزة الأمنية التركية، ووزارة الخارجية، وحزب الحركة القومية التركي، لا سيما بعد انتخابه نائبًا لرئيس الائتلاف الوطني رياض سيف في 2018، مستفيدًا من الصراع الذي دار بين سيف وخالد خوجة في انتخابات رئاسة الائتلاف، قبل أن يعلن سيف استقالته من الائتلاف، ويحل مصطفى في فبراير/شباط 2018 بدلًا عنه في رئاسة الائتلاف ريثما يجري انتخاب رئيس جديد، وفي مايو/أيار من العام ذاته، انتخب مصطفى رئيسًا للائتلاف من دون وجود منافسين له على المنصب.
في سبتمبر/أيلول 2019 انتقل إلى رئاسة الحكومة السورية المؤقتة التابعة له، خلفًا لجواد أبو حطب، مُتبادلًا المنصب مع أنس العبدة الذي كان اسمه مطروحًا على الطاولة، ليبقى العبدة برئاسة الائتلاف وينتقل مصطفى لرئاسة الحكومة.
حسب تقرير لموقع “سوريا على طول”، فإن مصطفى يملك أعلى نسبة من الأصوات داخل الائتلاف، ضمن خطة ممنهجة، بدأت به من المجلس التركماني وأوصلته إلى ما هو عليه اليوم، فهو يملك الآن أصوات المجلس التركماني والفصائل والمجالس المحلية ومجالس المحافظات داخل الائتلاف، ويشكلون 30% تقريبًا من إجمالي أصوات الائتلاف.
مضيفًا وفق ما نقل عن مصادر ثلاثية، أن “تمكين عبد الرحمن مصطفى يأتي ضمن استراتيجية أنقرة الهادفة إلى خلق ورقة تفاوض بيدها في حال توصلت إلى اتفاق مع النظام السوري”.
ختامًا.. يبقى المشهد مُنتظرًا لتحول كبير قد يكون له تداعيات كبرى على المنطقة، ما بين الاستجابة لبيان “الشامية”، وما يمكن أن يعزز ذلك من موقفها أكثر أمام الحاضنة المدنية التي ترى فيها مشروعًا يحيي آمالها بتصحيح مسار الثورة، أو انتصار تيار المؤقتة وحلفائها العسكريين الماضين برتم متناسق مع أهداف الطرف التركي.