ترجمة وتحرير: نون بوست
لو أن إسبانيا حصلت في إحدى تصنيفات البرنامج الدّولي لتقييم الطلبة “بيزا” على نتائج تضاهي تلك التي تحققها اليابان، فسيكون من غير المستبعد أن يقدم وزير التعليم الياباني على تأدية طقوس الانتحار ثم يرمي بنفسه من نافذة مكتبه. ففي آخر نسخة من تصنيف “بيزا”، حصلت اليابان على 558 نقطة في مجال العلوم، متجاوزة بذلك سنغافورة التي حصلت على 556، ومسجلة نتيجة بعيدة جدا عن إسبانيا التي حققت 493 نقطة.
أما في مجال القراءة، فقد حصلت اليابان على 516 نقطة، فيما حققت إسبانيا 496. وتمثل مادة الرياضيات أيضا نقطة قوة اليابانيين، حيث حققوا فيها 532 نقطة، فيما حصلت إسبانيا على 456. كما تعد اليابان في طليعة البلدان من حيث حجم الإنفاق على قطاع التعليم. ومن أبرز ملامح هذا النظام؛ التميز والعدالة، وهو أمر جلب للتعليم الياباني إعجاب وتقدير العالم أجمع.
في ظل هذه النتائج الممتازة، قد يعتقد البعض أن هذه التصنيفات العالمية المعترف بها من قبل جميع الدول يمكن أن تجعل اليابانيين يشعرون بالفخر والرضا. ولكن خلال الأعوام الماضية، انتشرت الآراء السلبية في صفوف اليابانيين حول نظامهم التعليمي، خاصة في الصحافة المحلية. في هذا الصدد، نشرت جريدة “جابان تايمز”، مقالا بقلم إيكوكو تسوبويا نيويل، مدير إحدى المدارس في طوكيو، روى فيه حادثة غريبة. وقد قال المدير أنه في إطار جلسة عشاء جمعته بوزير التعليم الهولندي، كشف له الوزير أنه عند زياراته لليابان لأخذ فكرة عن قصة نجاح نظام التعليم الياباني، حصل على ردود أفعال غريبة من اليابانيين، حيث اكتشف أنهم هم من يشعرون بالغيرة من التعليم الأوروبي.
خلال الأعوام الأخيرة، واصلت اليابان تغيير مناهجها من أجل مواجهة الأزمة الاجتماعية والاقتصادية غير المسبوقة، وهو ما يظهره التقرير الذي أصدرته مؤخرا منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بعنوان “سياسة التعليم في اليابان”
في السياق ذاته، اشتكى البعض منهم على سبيل المثال مما يعتبرونه غياب الانضباط في المدارس اليابانية، وهناك آخرون على غرار ميكيو تاكاجي، مالك إحدى الأكاديميات الخاصة، الذين ذكروا أن طلبتهم جيدون جدا لدرجة أنهم يقدمون أجوبة جديدة لمشكلات رياضية محلولة أصلا. من جانبه، يعتقد إيكوكو تسوبويا نيويل أن المشكلة هنا تتعلق بالثقة في النفس وتقدير الذات، إذ يشير إلى أن بيانات رسمية من المعهد الوطني لتعليم الشباب تعتبر أن 72.5 بالمائة من الطلبة اليابانيين يعتبرون بلا فائدة، فيما لا تتجاوز هذه النسبة في الولايات المتحدة مثلا 45.1 بالمائة.
في الواقع، ربما قد يعكس هذا تخوّف الكثيرين من التخلف عن الركب، خاصة وأن حجم الإنفاق على التعليم الخاص في اليابان هو ضعف ما يتم إنفاقه في الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. وتبلغ نسبة الإنفاق في اليابان 31.9 بالمائة فيما تبلغ في بقية الدول 16 بالمائة، يتم تخصيصها كلها لدروس الدعم التي تقدم خارج المناهج المدرسية، أو ما يُطلق عليها باليابانية “جوكو”، وهي مدارس خاصة مدفوعة الثمن تقدم دروس إضافية وتحضيرية للطلبة.
خلال الأعوام الأخيرة، واصلت اليابان تغيير مناهجها من أجل مواجهة الأزمة الاجتماعية والاقتصادية غير المسبوقة، وهو ما يظهره التقرير الذي أصدرته مؤخرا منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بعنوان “سياسة التعليم في اليابان”. ويضمّ التقرير التغييرات التي سيتضمنها البرنامج الأساسي الثالث لتطوير التعليم، الذي سيكون جاهزا في سنة 2022.
من بين أهداف هذا التغيير العميق؛ إحداث نقلة على المستوى الوطني في المناهج الدراسية، وتحسين مهارات المدرسين من خلال التدريب المستمر، وتقوية الروابط داخل المدارس، وتقديم الدعم المالي للتعليم ما قبل المدرسي. كل ذلك إلى جانب مساعدة الطلبة الذين يعانون من محدودية الموارد على الوصول إلى مرحلة الدراسة الجامعية، باعتبار أن مصاريف الجامعة تمثل واحدة من أكبر المشاكل في البلاد.
قال مدير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، أندرياس شلايخر، إنه “في الوقت الذي تظهر فيه نتائج اختبارات “بيزا” أن اليابان تتفوق بشكل واضح على بقية الدول، في معيار نتائج الطلبة والتوزيع العادل لفرص التعليم، لا يشعر السياسيون في هذا البلد بالرضا
في الحقيقة، تهدف كل هذه الإجراءات التي اتخذتها الحكومة اليابانية إلى مواجهة العاصفة الاجتماعية التي تقبل عليها البلاد، والتي بدأت بنفس أصداء الأزمة الاقتصادية التي ضربت اليابان في بداية التسعينات، وفاقمت حينها عدد المنتمين للطبقة الكادحة والفقيرة، علاوة على الأزمة الديموغرافية التي تسببت في تراجع حجم القوى العاملة. ولكن الهدف الأهم في الوقت الحالي يبقى معالجة غياب ثقة الأولياء في نظام التعليم العمومي في اليابان.
إصلاحات شينزو آبي
في تقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية حول برنامج التعليم “بيزا”، قال مدير هذا البرنامج، أندرياس شلايخر، إنه “في الوقت الذي تظهر فيه نتائج اختبارات “بيزا” أن اليابان تتفوق بشكل واضح على بقية الدول، في معيار نتائج الطلبة والتوزيع العادل لفرص التعليم، لا يشعر السياسيون في هذا البلد بالرضا. وهم يحللون بكل حذر التهديدات التي يواجهها التعليم الذي يمثل نقطة قوة بلدهم”.
وفقا لشلايخر، فإن أهم ميزة اكتسبها التعليم في هذا البلد هو التقاليد الكبيرة التي يتمتع بها فيما يخص التعليم الشامل، الذي تم تطويره على مدى عقود عديدة. وتعني عبارة التعليم الشامل أن اليابان توفر تدريبا وتعليما يشمل أيضا تطوير الجانب الأخلاقي والنفسي في شخصية الطالب، وليس فقط المحتوى العلمي. ودائما ما يمزج هذا النظام بين المدرسة والمجتمع وعالم الوظيفة.
طلبة يابانيون في فوكوشيما أثناء استماعهم للأمين العام السابق للأمم المتحدة، بان كي مون.
في اليابان يُدعى هذا المفهوم “توكاتسو” وهي عبارة تشمل كل ما يتجاوز مجرد المعرفة العلمية. وقد أصبحت هذه الكلمة تعتبر مرادفا للنموذج الياباني في التعليم المتكامل للطفل الذي يشمل كل الجوانب. وعلى سبيل المثال، فإن خبراء منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الذين زاروا هذا البلد، يروون أنهم شاهدوا مدرسين يشرفون على قيام التلاميذ بتنظيف المدارس، وإنجاز مهام العناية بالمدرسة أو تحضير الطعام.
في هذا الإطار، يلعب تعاون الأولياء دورا هاما، ليس فقط فيما يتعلق بمنح الدرجات، بل أيضا في سلوك أبنائهم. وتعود هذه المقاربة اليابانية إلى سنوات إعادة الإعمار إثر الحرب العالمية الثانية، عندما كان الشعب الياباني مجبرا على ابتكار منظومة جديدة قبل الطفرة الصناعية التي حققها هذا البلد.
على الرغم من هشاشة وضعية المعلمين الآن في اليابان، إلا أن العمل التربوي يلاقي تقديرا كبيرا في الدولة اليابانية
يمثل المنهج التعليمي الجديد في اليابان مركز البرنامج الإصلاحي الذي قدمه الحزب الليبيرالي الديمقراطي بقيادة رئيس الوزراء الحالي، شينزو آبي، والذي يهدف لجني ثماره مع مطلع سنة 2030. ويشير هذا البرنامج الإصلاحي إلى أنه “بالنسبة لليابان يمثل التعليم أولوية، وهو ما يعكسه أيضا الالتزام المشترك للطلبة (نسب التمدرس العالية في كل مراحل التعليم) والأولياء والعائلات (إستثمار أموال وجهود كبيرة في التعليم). إلى جانب المنظمات التي تعنى بالتعليم والمدرسين، والمدارس التي تقدم التعليم الشامل لتلاميذها، حيث لا تغطي فقط التعليم الأكاديمي، بل أيضا القيم والأنشطة التي يحتاجها الطالب بعد إنهاء الدراسة”.
على الرغم من هشاشة وضعية المعلمين الآن في اليابان، إلا أن العمل التربوي يلاقي تقديرا كبيرا في الدولة اليابانية، كما أن الحصول على هذه الوظيفة يتطلب منافسة وكفاءة كبيرة، خاصة خارج المدن اليابانية الكبرى. وتعد اليابان من أكثر دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التي تكون فيها ساعات التدريس طويلة، بالإضافة إلى ثماني ساعات من الدعم في المنزل، علما وأن أجور المعلمين منخفضة مقارنة بالأجور في بقية دول المنظمة.
فضلا عن ذلك، لا يشعر عدد كبير من المدرسين اليابانيين باستعداد كبير لممارسة مهنة التعليم، خاصة أنهم يرون أن ساعات التدريس الطويلة تعيق تطوير مهاراتهم كمعلمين. والجدير بالذكر أن حوالي 58 بالمائة فقط من المدرسين يختارون هذه المهنة مجددا لو أتيحت لهم فرصة الاختيار مرة أخرى.
اختبار القبول بالجامعة اليابانية الذي سيحدد مصير الطلاب
ليس هناك أمر أفضل لفهم الجانب المظلم للتعليم الياباني من النظر إلى ما يحدث في الجامعات. فقد تلقى حوالي نصف اليابانيين في سن العمل تعليما جامعيا، في حين لم يتجاوز متوسط الجامعيين العاملين في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية نسبة 35 بالمائة. ومن المتوقع أن ترتفع نسبة الجامعيين في اليابان إلى 71 بالمائة في الأجيال القادمة. بعبارة أخرى، أضحى التعليم الجامعي شرطا ضروريا للحصول على عمل، وهو ما زاد من وطأة الضغط على المدرسين والأولياء.
زيارة ميلانيا ترامب إلى أحد المعاهد اليابانية خلال تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي.
تعليقا على هذه المسألة، صرحت الكاتبة، آن أليسون، التي خصت اليابان بكتابين وهما “الرغبات المباحة والمحظورة” وكتاب “اليابان غير المستقرة” أن “التعليم الذي اعتمدته اليابان بعد الحرب العالمية الثانية هدف بشكل أساسي إلى توفير اليد العاملة الفعالة للاقتصاد الصناعي المتنامي القائم على الرأسمالية”. وأشارت أليسون إلى أن “انضباط الطلاب وحصولهم على درجات علمية جيدة ضروري لبلوغ هذا الهدف”. ومن بين السبل التي اعتمدتها اليابان لتحقيق هدفها هو امتحانات القبول بالجامعة، التي تحولت إلى فرز قائم على تقسيم المجتمع الياباني إلى قسمين.
في هذا السياق، جاء في تقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن “طبيعة امتحانات القبول بالجامعات تتطلب أيضًا الضغط على النظام التعليمي بشكل عام، ويمكن أن تقوض نطاق إصلاح المناهج الدراسية”. من جهة أخرى، وفي الوقت الذي يحاول فيه هذا الإصلاح تعزيز تطوير الكفاءات الجديدة بين الطلاب، يواصل نظام الدخول الجامعي التركيز مرة أخرى على المعرفة فحسب.
ساهمت شكاوى الأولياء، على وجه التحديد، في التقليص من عدد ساعات التدريس، بعد أن تم الرفع فيها مجددا في ظل الإصلاح السابق للمناهج الدراسية
نتيجة لذلك، وخلال السنوات الأخيرة، عمدت “جوكو”، وهي مجموعة مدارس خاصة، إلى تدريس ساعات إضافية خلال العطل تحضيرا لامتحانات القبول في الجامعة، مع العلم أن هذه الدروس يمكن أن تكلف الأسرة الواحدة حوالي 2500 يورو سنويا. علاوة على ذلك، يجعل هذا النظام المعتمد في اليابان اجتياز الامتحانات هدف الطلاب وليس تطوير مهاراتهم من قبيل الإبداع. لهذا السبب، عمدت اليابان إلى إدخال بعض التعديلات على نظامها التعليمي على غرار حذف 30 بالمائة من المنهج الدراسي وتقليص عدد أيام الدراسة من ستة إلى خمسة أيام فقط أسبوعيا، منذ بداية العقد الماضي.
في الواقع، ساهمت شكاوى الأولياء، على وجه التحديد، في التقليص من عدد ساعات التدريس، بعد أن تم الرفع فيها مجددا في ظل الإصلاح السابق للمناهج الدراسية. على الرغم من ذلك، لا تزال الدروس الإضافية للمدارس الخاصة “جوكو”، جزءا أساسيا من المدارس اليابانية. ووفقا للبيانات الصادرة عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فإن أكثر من نصف طلاب المعاهد الثانوية يحضرون هذه الدروس بانتظام. ويشعر الأولياء اليابانيون بخوف كبير من ألا يجد أبنائهم وظائف تناسبهم في المستقبل، لذلك كرسوا جميع جهودهم للاستثمار في الدروس الإضافية.
على الرغم من ذلك، يجب القول إن نسبة جيدة من الشعب الياباني راضية عن المؤسسات التعليمية العمومية. وقد أشار التقرير إلى أن نسبة الطلاب اليابانيين الراضين على نمط حياتهم لا تتجاوز 61 بالمائة، أي أقل بنسبة 10 بالمائة مقارنة ببقية دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. كما أن اليابان تعتبر واحدة من الدول التي يشعر فيها المدرسون بأعلى درجات القلق تجاه العمل المدرسي.
المصدر: الكونفيدينسيال