ترجمة وتحرير: نون بوست
ثلاثة أصوات ارتطامات مدوية، يتبعها دوي صفارات سيارات الإسعاف. لقد تم قصف “المنطقة الآمنة” التي حددها الجيش الإسرائيلي لإيواء النازحين داخليًا. وفي غضون النصف ساعة القادمة، ستمتلئ غرفة الطوارئ بالمرضى المحترقين والمقطّعة أوصالهم والمنزوعة أحشاؤهم، وكثير منهم أطفال، تمامًا مثل المرة السابقة والمرة التي سبقتها.
كل ما يمكننا فعله هو الاستعداد تحسبًا لما سيحدث، فنحن نعلم أننا سنواجه ضغطًا شديدًا قريبًا، ولا يمكن للكثير من المستشفيات هنا التعامل مع التدفق المفاجئ لمئات المصابين نتيجة الانفجارات، خاصةً في ظل حرمانهم المستمر من الإمدادات الطبية كما هو الحال.
في خضم هذه الفوضى؛ سمع أحد زملائنا من أطباء التخدير المحليين أن ابن عمه وجاره قد قُتلا في الغارة الجوية الأخيرة التي أصابت مئات الأشخاص الذين لجأوا إلى مدرسة مهجورة، لكنه واصل عمله مطمئنًا لأن زوجته وأبناءه لم يصابوا بأذى. ولم يتعرف على ابن عمه الراقد في غرفة العمليات إلا في وقت لاحق، بعد أن توفي أثناء الجراحة، وقد تشوهت جثته لدرجة أنه لم يتعرف عليها في البداية.
وبعد يومين؛ قُتل أحد أبناء عمومته في الغارة الجوية التالية على “المنطقة الآمنة” الإنسانية في المواصي، بعد أن أمرتهم القوات الإسرائيلية بإخلائها. وبعد فترة وجيزة، أصابت غارة جوية أخرى المنزل المجاور لمنزله ودمرت ممتلكاته الثمينة وهاتفه المحمول – وسيلته الوحيدة للاتصال، والتي اشتراها بثمن باهظ للغاية. وبعد يومين، يضطر هو نفسه إلى الإخلاء بسبب الهجوم الأخير على خان يونس، وليس لديه مكان يذهب إليه.
إنه أمر لا هوادة فيه
لقد كُتب الكثير عن غزة في الأشهر الأخيرة، غالبًا ما تكون مقالات تقنية، وأحيانًا عاطفية، تصف الدمار الواسع النطاق للبنية التحتية ومرافق الرعاية الصحية، والمجاعة، وأهوال الحرب. وعلى الرغم من أن صمود الشعب الفلسطيني يحظى بالاحترام والإعجاب على نطاق واسع، إلا أن ما شهدناه هو شعب يعاني من صدمة وإنهاك شديدين؛ إنه شعب يُشرَّد وينزح المرة تلو الأخرى وتتم مطاردته حول قطعة أرض مدمرة؛ حيث لا يوجد مكان آمن حقًا.
إن ما نشهده في غزة هو مثلث الموت: مثلث المجاعة والجفاف والمرض، مع ظهور الأوبئة المعدية – مثل التهاب الكبد الوبائي “أ” والآن شلل الأطفال – بسبب سوء الظروف الصحية ونقص التطعيمات للأطفال.
لقد فقد العديد من زملائنا الفلسطينيين أفرادًا من عائلاتهم خلال القصف، ولم يتوقفوا عن عملهم إلا لفترة وجيزة لاستيعاب ما فقدوه. فمعظمهم لم يتقاضوا أجورهم منذ أشهر ومع ذلك لا يزالون يأتون إلى العمل؛ وبعضهم لا يتوقفون حتى عن مغادرة المستشفى، بينما تكافح عائلاتهم للبقاء على قيد الحياة في مبانٍ مدمرة أو خيام بدون صرف صحي في ظل الحرارة والرطوبة القاتلة.
هذا بالإضافة إلى المخاوف المستمرة حول السلامة، والحاجة إلى تنظيم الطعام والماء والحطب، مما يدفع الكثيرين إلى الحافة. يحتاج هؤلاء العاملون في مجال الرعاية الصحية، إلى جانب مليوني فلسطيني آخر، إلى المساعدة، وهم يحتاجونها بشكل عاجل.
إن القوانين التي تحكم الحرب خالية من العاطفة ولكنها تهدف إلى الحفاظ على قدر من الإنسانية، حتى في حالات النزاع، ونحن أطباء ولسنا محامين، لكن المبدأ القانوني للتناسب يبدو غائبًا في هذه الهجمات الأخيرة. والتناسب أمر بالغ الأهمية في تحديد مشروعية العمل الحربي. إن قتل 100 مدني وجرح مئات آخرين من أجل القضاء على شخص واحد يشتبه في أنه ناشط في حماس يبدو أمرًا مبالغًا فيه مقارنة بالميزة العسكرية المكتسبة، وهذا يعطي مؤشرًا على القيمة التي يوليها الجيش الإسرائيلي لحياة الفلسطينيين.
تختلف الأطراف المتحاربة في وجهات نظرها بشكل افتراضي، ونحن لا نهدف إلى الانحياز إلى طرف على حساب الآخر. ولكن مما لا شك فيه أن السكان المدنيين في غزة محاصرون ويتعرضون لمعاناة غير عادية وغير إنسانية. ومما لا شك فيه أيضًا أن معظم المصابين هم من المدنيين من النساء والأطفال. وفي فترة زمنية قصيرة، شاهدنا جميعًا الكثير من الجثث المحطمة والمحترقة والمشوهة؛ والعائلات المدمرة؛ والأطفال المشوهين والأيتام؛ والمستقبل المحطم.
قد تروي الحرب عطش الانتقام بالنسبة لإسرائيل، أو تؤجج نار المقاومة بالنسبة لحماس، لكنها لن توفر الأمن لأي من الطرفين. وفي الوقت نفسه، يترنح سكان غزة من مذبحة إلى مذبحة دون نهاية في الأفق.
لقد انهار نظام الرعاية الصحية في قطاع غزة، وهو في حالة سقوط حر، فهناك نقص في المواد الاستهلاكية والأدوية والمعدات اللازمة لعلاج الإصابات الجماعية المتعددة بالإضافة إلى المشاكل الطبية البسيطة التي يمكن علاجها بالفعل. على سبيل المثال، هناك العديد من المرضى الذين تم إدخالهم إلى وحدة العلاج المكثف كانوا في غيبوبة بسبب نقص الأنسولين لعلاج مرض السكري.
وعلاوة على ذلك، تم اختطاف العديد من كبار الأطباء من قبل الجيش الإسرائيلي واحتجازهم في ظروف غير إنسانية لأشهر طويلة، في انتهاك للقانون الإنساني الدولي. وغالبًا ما يكون العاملون الذين تُركوا خلفهم من الأطباء المبتدئين وطلاب الطب المتطوعين.
إن التطلع إلى المستقبل يبدو شبه مستحيل هنا، فجهود إعادة الإعمار المطلوبة لمكان تحول إلى أنقاض ستكون هائلة، وكذلك احتياجات الرعاية الصحية؛ حيث سيحتاج العديد من الناجين إلى عمليات جراحية متخصصة متعددة لعلاج إصابات الأطراف المعقدة والحروق؛ وسيحتاج مبتورو الأطراف إلى علاج طبيعي وأطراف صناعية. وسيتعين إعادة بناء النظام الصحي اليومي – بما في ذلك الرعاية الأولية – من الصفر؛ كما أن عبء الصحة النفسية الذي غالباً ما يتم تجاهله في النزاعات الحادة سيكون هائلًا؛ حيث يُظهر العديد من الأشخاص أعراض اضطراب ما بعد الصدمة والحزن المعقد والاكتئاب.
ولا يُعرف بالضبط من سيعالج احتياجات الرعاية الصحية الواسعة النطاق لهؤلاء السكان المحاصرين المعزولين عن بقية العالم، وكيف سيتم ذلك.
بينما يصل مريضنا الأول من ضحايا الهجوم وهو يحتضر، وجزء من ساقه اليسرى متصل بالجلد والأوتار فقط، يهمس قبل أن يتم تخديره: ” لقد تعبت. لقد اكتفيت من الحرب. أرجوكم دعوني أموت”.
إننا نحث المجتمع الدولي والطبي على المطالبة بوقف فوري ودائم لإطلاق النار، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية التي تشتد الحاجة إليها في غزة.
المصدر: بوليتيكو