هذه مجموعة من قصص شيقة لأبيات شعر عربية أنقذت أصحابها والمواقف التي وقعوا بها، وهي تحمل فائدة كبيرة في طياتها، ودروس وعبر ربما نفتقد لها ولمعانيها في زمننا هذا الذي ضاعت فيه فصاحة العرب وبلاغتهم إلا من رحم، لنتعرف عليها في هذه التدوينة.
في اللحظات الأولى لولادة دولة العباسيين سنة 132هـ، كان على الخليفة أن يخاطب شعبه في حديث مباشر، حديث غير مسجل، وللحديث المباشر رهبة تفوق الأحاديث المسجلة، ولكن لا يملك أبو العباس السفاح خيارًا آخر. اعتجر الخليفة عمامته وقام في الناس خطيبًا، لكن رهبة الجماهير استولت عليه، وسقطت العصا من يده فتطيَّر واضطربت أوصاله، وأوشك على الفشل والقعود قبل أن يُكمل بيانه الأول لرعيته؛ فأمسك أحد رجالاته بالعصا ومسحها وقبلها ثم ردها على السفاح وهو ينشد:
فألقت عصاها واستقر بها النوى كما قر عينًا بالإيابِ المسافرُ
سمع السفاح البيت فدب النشاط في صوته، وخطب الناس خطبةً قوية أثرت فيهم، ورسمت لهم معالم فترة حكمه؛ فكان الرجل بسرعة بديهته وإنشاده البيت، قد أنقذ السفاح من الفشل في الظهور الإعلامي الأول له. وقد ذكرت بعض كتب الأدب قصة أخرى لهذا البيت؛ فذكر ابن حجة الحموي صاحب ثمرات الأوراق أن الخليفة المنصور خرج لقتال أبي يزيد الخارجي؛ فسقط الرمح من يده فأخذه بعض من الجند فمسحه وأنشأ:
فألقت عصاها واستقر بها النوى كما قر عينًا بالإيابِ المسافرُ
فضحك المنصور وقال: لم لم تقل “فألقى موسى عصاه”؛ فقال: يا أمير المؤمنين! العبد تكلم بما عنده من إشارات المتأدبين، وتكلم أمير المؤمنين بما أنزل على النبي من كلام رب العالمين.
وتمضي السنون، ويجلس أبو العباس المأمون على عرش الخلافة سنة 198هـ، ويسند إلى خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني ولاية الموصل، ويخرج خالد يقصد الموصل ومعه أبو الشمقمق الشاعر، لكن أمرًا غريبًا وقع إبان دخولهما الموصل؛ فقد اندق اللواء -أي انكسر العلم- فتغير وجه خالد وتطيَّر وغلبه الوجوم. في لمح البصر أدرك أبو الشمقمق ما يدور في خاطر خالد؛ فسرى عنه ببيتين كانا فاتحة خيرٍ وبركة عليهما معًا:
ما كان مُنْدَقَّ اللواء لرِيبةٍ تُخشى ولا سببٌ يكون مزيلا
لكن رأى صِغَرَ الولاية فانثنى متقصدًا لما استقل الموصلا
فأشرقت أسارير وجه خالد لما سمع البيتين، واستبشر خير واستعاذ من أحاديث نفسه. كتب أصحاب الأخبار للخليفة بما جرى؛ فأصدر أوامره أن يبسط خالد ولايته على ديار ربيعة كلها، وكتب إليه: “هذا لاستقلال لوائِك ولاية الموصل”؛ فأحسن خالد إلى أبي الشمقمق ووصله بعشرة آلاف درهم.
وقصة أخرى مع اللواء لكن خبرها يأتينا بالأقمار الصناعية من أرض الأندلس، وبطلها رجل مغمور في ظل الداهية المنصور بن أبي عامر، وقد اعتاد المنصور أن يعقد لواءه بجامع قرطبة إن قصد الغزو، وفي بعض الأيام احتشد العلماء والفقهاء وأرباب الدولة؛ فلما رُفِع اللواء صادف ثريا من قناديل الجامع فانكسرت على اللواء وتبدد عليه الزيت. غلب الوجوم الحضور كأن على رأسهم الطير، وأخذت الطيرة منهم ما أخذت حتى تغير وجه المنصور؛ فقال رجل: أبشر يا أمير المؤمنين بغزاةٍ هينة وغنيمة سارة؛ فقد بلغت أعلامك الثريا، وسقاها الله من شجرةٍ مباركة؛ فاستحسن المنصور قوله واستبشر وكانت من أبرك الغزوات.
ومن اليمن الذي كان سعيدًا ينقذ الدوشان موقفًا كاد يتحول لمجزرة، والدوشان شاعر القبيلة وكان يُنظر إليه نظرةً دونية؛ فالدوشان حسب العرف القبلي ينتمي إلى طائفة بني الخمس، وهي تشمل الجزار والحمامي والمزيّن والقشام، وهو تصنيف طبقي لم يشرعه الإسلام، ومع أن الدوشان كان أعلى بني الخمس مكانة لكنه منهم، وأنفك منك ولو أجدع.
نعود للقصة ولألمعية الدوشان، ففي بعض طرق صنعاء إبان عيد الأضحى المبارك، خرج المهدي عبد الله بن أحمد المتوكل بن علي المنصور (1208 – 1251هـ) في حشد من الوزراء والدواشين، وكان المهدي عبد الله سفاكًا للدماء وله فتكات كثيرة مشهور يبالي بالعواقب. دون سابق إنذار سقطت حاجيات كبش على المهدي من بعض المنازل، وبدا المهدي للناس سابحا في بركة من الدم، وظنوا السوء بأهل هذا المكان، لكن الدوشان قفز أمام المهدي.. وانتبه إلى ما فعله الدوشان؛ فالمهدي بمثابة رئيس جمهورية، وإن أشار بقتل أصحاب البيت الذي أسقط تلك الحاجيات؛ فلن يتجرأ أحدهم على مخالفته، ودرجة حرارة الموقف بلغت التسعين! وشحبت وجوه الوزراء والوجهاء وبُهِتوا؛ فلم يجد أحدهم ما يقوله، ثم يقفز الدوشان برباطة جأش وسرعة بديهة قائلًا:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدمٌ
تغيرت الأجواء في لحظة بل أقل، وابتسم المهدي عبد الله بعد أن كان يزمجر، ورقصت القلوب طربًا لحسن تخلُّص الدوشان، وألقى كلُّ منهم للدوشان ما جادت به نفسه من مال، ومنهم من ألقى إليه جبته، ومنهم من ألقى إليه خاتمه رضا منهم بحسن صنيعه وسرعة بديهته.
ذكر سعيد بن سلم شاعرًا من باهلة في مجلس هارون الرشيد، ثم أثنى عليه وقال: لم أسمع لأعرابيٍ مثله! فطلب الرشيد أن يُدخل عليه الأعرابي؛ فلما رآه الرشيد تبسم، وقال ابن سلم: تكلم بشرف أمير المؤمنين؛ فأنشد شعرًا رائقًا أطرب الحضور، واستوى الرشيد في جلسته وهو يقول: أسمعك مستحسنًا وأنكِرُك متهمًا! فإن كنت صاحب هذا الشعر؛ فقل في هذين -وأشار لمحمد الأمين وعبد الله المأمون- بيتين الساعة. فقال الأعرابي: يا أمير المؤمنين! حملتني على غير الجدد، روعةُ الخلافةِ وبُهر البديهة، ونفور القول في الروية إلا بفكر يتألف لي نُفرانها؛ فليُمهلني أمير المؤمنين قليلًا.
قال الرشيد: أمهِلُكَ وأجعل لك حسنَ اعتذارِك بدلًا في امتحانك، قال الأعرابي: نفَّست الخناق وسهلت السباق ثم أنشأ:
بنيتَ بعبد الله بعد محمدٍ ذرى قُّبة الإسلام فاخضرَّ عودها
هما طُنُباها بارك الله فيهما وأنت أمير المؤمنين عمودها
قال الرشيد: أحسنت! بارك الله فيك؛ فلا تجعل مسألتُك دون إحسانِك. قال: الهُنَيْدَةُ يا أمير المؤمنين؛ فأمر له بها، والهنيدة المئة من الإبل.