وصلنا وجهتنا وهي أحد الفنادق التي تتوسط المدينة وقد حجز لنا فيه صديقنا الإعلامي الإثيوبي المعروف أنور إبراهيم.. أخذنا قسطًا من الراحة ثم خرجنا نتمشى وقد بدا لنا أن نغير مكان الإقامة إلى فندق آخر لأن المنطقة التي نزلنا بها كانت مزعجة لانتشار محلات الحدادة والأدوات الكهربائية.
تناولنا وجبة الغداء في أحد المطاعم الشعبية من الإنجيرا التي تتكون من خبز “الطاف” الذي يزرع في سهول الهضبة الإثيوبية وهي الطعام المفضل لدى أهل البلد بالإضافة إلى طبق كبير من اللحوم يطلق عليها محليًا اسم “Tips”. بعدها تجولنا في قلب مدينة مقلي وشاهدنا كم يبدو سوقها كبيرًا وعامرًا بكل البضائع ملابس وأحذية وأدوات تجميل ومطاعم فاخرة إلى جانب الفنادق المختلفة الفاخرة والمتوسطة وغير ذلك.
وسط مدينة مقلي
وفي تلك الأثناء ظللتنا سحابة ثقيلة غطت أرجاء نجمة الشمال حتى أظلمت الأرض فجأة رغم أن الوقت لا يزال عصرًا وأخذت الريح تعبث بغصون الأشجار المجاورة كأنها تهيؤها لمطرٍ يوشك أن ينزل.. الباعة المتجولون أسرعوا بلملمة أغراضهم البسيطة حتى لا تبتل بالماء.. المطر له نكهته الخاصة إذا هطل في الأماكن الطبيعية، مثل الجبال والسهول والوديان وكذلك له حضور وبهجة في المدن المكتظة بالأبنية والشوارع والسيارات.
هطول الأمطار
قهوة Ferri
القهوة كالإنجيرا حاضرة في كل المجتمعات الإثيوبية، وفي إقليم تغراي بالذات لها نكهة خاصة، فالمقاهي الشعبية موجودة في جميع الأمكنة وتتميز نجمة الشمال بوجود محلات القهوة على قارعة الطريق تمامًا كما في مدن السودان وقُراه المختلفة.. حيثما وجهت بصرك تجد الشباب وكبار السن يرتشفون أكواب القهوة ويتناولون الأطعمة الشعبية كالإنجيرا والكتفو والشيرو وغيرها.
كانت لنا تجربة لا تنسى في مقلي مع أحد المقاهي البلدية البسيطة وهو محل يقع في قلب المدينة بالقرب من الكنسية الأرثوذوكسية مقابل فندق من فئة الخمس نجوم.. المحل مملوك لشابة اسمها Ferri وهي كلمة باللغة المحلية تعني “الثمرة”، تعرَّفنا على المقهى بالصدفة وصار مكاننا المفضل لتناول القهوة المعتقة نزوره في اليوم مرتين مرة في الصباح لارتشاف البُن المركز ومرة أخرى بعد العصر لتناول القهوة الخفيفة نوعًا ما.
إقليم تغراي هو أقرب أقاليم إثيوبيا لإريتريا جغرافيًا ووجدانيًا وتربط صلات الرحم والقربى بين أهل تغراي والشعب الإريتري
مقهى Ferri كان ملاذًا مفضلًا للشباب والشيوخ على حدٍ سواء، حيث تحرص صاحبة المحل على استقبال زبائنها والترحيب بهم في بشاشةٍ ليست غريبة على شعب تغراي. وداخل المقهى هناك شاشة تلفزيونية ضخمة يتابع من خلالها رواد القهوة التطورات السياسية والاقتصادية في البلد الكبير إفريقيًا وكثيرًا ما ينخرط الشباب والشيوخ في جلساتٍ نقاشية عن الأحداث وخاصة في تلك الأيام كانت بوادر الصلح بين إثيوبيا وإريتريا تبدو واضحة بعد الخطوات الجريئة التي اتخذتها حكومة رئيس الوزراء آبي أحمد.
ومعروف أن إقليم تغراي هو أقرب أقاليم إثيوبيا لإريتريا جغرافيًا ووجدانيًا وتربط صلات الرحم والقربى بين أهل تغراي والشعب الإريتري. ويتشابه الشعبان في كثيرٍ من العادات والتقاليد كما أن اللغة التغرينية السائدة في إقليم تغراي تتشابك في مفرداتها مع التغرية السائدة في إريتريا إلى جانب اللغة العربية وغيرهما.
مقاهٍ شعبية
زيارة قصر الإمبراطور يوهانس
من معالم مدينة مقلي المتحف الذي يضم قصر الإمبراطور يوهانس الرابع، وهو الرجل الذي منح نفسه لقب “ملك ملوك الحبشة” وعمل على توحيد أقاليم إثيوبيا كإمبراطورية واحدة وحكم البلاد من 1872م حتى 1889 إذ تضمنت سياسة يوهانس أو يوحنا التوحيدية إجبار مسيحيي إثيوبيا على اعتناق عقيدته كما يقال أنه أجبر المسلمين واليهود والوثنيين على التنصير. وقد قبِل بعض زعمائهم بالتحول لدين الملك حتى يحافظوا على مواقعهم القيادية، بينما تنصَّر عدد من المسلمين ظاهريًا، وكتموا إسلامهم وظلوا يمارسون شعائرهم سرا. وهاجر آخرون بدينهم جنوبًا أو غربًا إلى السودان، وقاوم بعضهم تلك السياسة عسكريًا في مرات عديدة.
زرنا المتحف الذي يضم قصر الإمبراطور باعتباره معلمًا تاريخيًا من معالم نجمة الشمال وأتيحت لنا الفرصة للتجول في ردهات القصر حيث لا تزال بعض جدرانه ومقتنياته سليمة حتى الآن رغم تقادم السنوات.
جانب من قصر الإمبراطور يوهانس الرابع
أيًا كان اختلاف الآراء في شخص الإمبراطور يوحنا الرابع فإن قصره يقف شاهدًا على حقبةٍ من حقب التاريخ والصراعات التي شهدتها أرض الحبشة في أزمنةٍ سابقة، وقد حكى لنا المرشد السياحي أن القصر ظلّ مقرًا لسلطة الحكام الذين تعاقبوا على المنطقة وكيف أنه صمد في وجه الاعتداءات العسكرية والحروب التي شهدها إقليم تغراي.
هذا جزء من صورة جميلة لإثيوبيا الجميلة التي لا يعرفها الكثير من أهل المشرق، وهذه هي مدينة مقلي حاضرة إقليم التغراي، المدينة الساحرة التي لا بد من زيارتها لمن يحب السفر إلى إفريقيا واكتشاف أعماقها، فمدينة كمقلي على سبيل المثال احتضنت تلك المنطقة صحابة النبي محمد “عليه الصلاة والسلام” عندما أوصاهم الرسول بالهجرة من مكة المكرمة إلى أرض الحبشة قائلًا “إن بها ملكًا لا يُظلم عنده أحد”.