مرّة أخرى يعود الجدل في المملكة المغربية بخصوص ما يعرف باقتصاد الريع واستفادة ما يطلق عليهم بـ “خدام الدولة” من امتيازات استثنائية خوّلت لهم التحكم في الاقتصاد وتطويعه خدمة لهم، ما أثر سلبا على المجتمع المغربي. فمتى يستجيب التحالف الحكومي المغربي لمطلب اسقاط الريع في المملكة؟
عودة الجدل
الجدل عاد على إثر الكشف عن وثائق تظهر استفادة مسؤولين كبار من أراض تابعة للدولة في محافظة “الجديدة” بأسعار بخسة، في وقت تشتكي فيه فئات كثيرة من ارتفاع أسعار العقارات والإيجارات، فضلا عن انتشار السكن العشوائي.
وكشفت تقارير إعلامية محلية عن لائحة جديدة لـ”خدام الدولة” المستفيدين من قطع أراضي بمنطقة “الجديدة”، ويتعلق الأمر بـ11 شخصا يشغلون مناصب مهمة بجهاز السلطة وجماعات العقار وبعض المؤسسات العمومية.
يرى خبراء مغاربة إن انتشار هذه الظاهرة، يمثّل أحد أبرز أسباب حراك 20 فبراير الذي نادى بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية
يعني مفهوم “خدام الدولة” كبار القوم، أي هؤلاء الموظفون السامون الذين يقدمون للدولة “خدمات عليا واستثنائية”، كالمستشارين الملكيين والوزراء والعمال وقادة الجيش الكبار ورؤساء الأحزاب السياسية وغيرهم. غير أن مفهوم الخدمة في المغرب يرتبط بـ”المخزن” والمهمات الخاصة، فليس كل مسؤول يحق له أن يقوم بمهمة خاصة تستحق نعمة الملك.
وحملت الوثيقة، أسماء شخصيات تقلدت مناصب مهمة وحساسة ببعض القطاعات بإقليم الجديدة، كما هو الشأن بالنسبة لرئيس دائرة “الجديدة”، قبل أن تشمله حركة التنقلات مؤخراً، والذي حصل على بقعة أرضية مساحتها بقيمة 750 درهما للمتر المربع، أسوة بباقي زملائه المستفيدين من بقع يصل ثمنها الحقيقي إلى 5000 درهما للمتر الواحد.
حماية سياسية
ويقول مغاربة إن الخزينة لم تقدّم لـ “خدام الدولة” الهبات والعطايا جزاء لما يقومون به خدمة لمصالحة الدولة، بل إن هذه العطايا تمّت دون وجه حق ولا سند قانوني، حتى أصبحت تلك الهدايا حقّا من حقوقهم، فهم لا يشتغلون إلا ضمن الأجندة الرسمية التي ترعاها الدولة.
ويرى خبراء مغاربة إن انتشار هذه الظاهرة، يمثّل أحد أبرز أسباب حراك 20 فبراير الذي نادى بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. في هذا الشأن يقول الخبير في الشأن السياسي المغربي رشيد لزرق في حديثه لنون بوست إن “المغرب عرف خلال منتصف التسعينيات سياسية الانفتاح السياسي، عبر ما سمي بالتناوب التوافقي، رافقه انفتاح اقتصادي عبر مواصلة نهج الخصخصة التي شكلت فرصا جديدة لبروز نخب استفادت من إعادة تموقع المغرب السياسي لتحقيق تراكم مالي، على المستوى الإقليمي والمحلي، أدت إلى تفاقم انعدام المساواة.“
ويضيف رشيد: “هذه السياسة تعتبر من أسباب بروز حراك 20 فبراير تحت شعار الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وهي قيم استجاب لها التعاقد الدستوري لسنة 2011، غير أن تطبيق هذه القيم لإسقاط الفساد والريع كشف أن العديد من المستفيدين من الريع والمنتفعين من الفساد، لهم حماية سياسية.”
“هذه الحماية السياسية”، يقول لزرق، إنها “جعلت المؤسسات التمثيلية والتنفيذية غير قادرة على كشف الحقائق وإدانة المقصرين والمفسدين، كما تم في التعديل الحكومي الأخير الذي تم فيه تحييد الأثر السياسي عبر تغير شخص بشخص دون أن تشمل المسؤولية السياسية الأحزاب التي اقترحت وزارة موضوع التقصير.“
ومؤخرا، اعتبرت دراسة ألمانية نشرها موقع “جيكا” التابع لمعهد GIGA الألماني للدراسات العالمية والمجالية أن النظام السياسي المغربي يرتكز على ثلاثة عناصر لصناعة النخب السياسية والاقتصادية في المملكة، من خلال شراء الولاءات ومنح الامتيازات وسياسة الريع الاقتصادي، واعتماد الفساد كخيار استراتيجي للسلطة وأداة من أدوات الحكم، والقضاء على الرموز الشرعية والشعبية.
وأكّدت الدراسة أن “هذه النخب لا يمكنها الاستمرار في ربح المال لولا الحماية التي يوفرها القرب من السلطة الحاكمة أي من القصر الملكي. فعلى سبيل المثال فإن مجال توزيع المحروقات خضع لإجراءات إصلاحية انسحبت بموجبها الدولة من دور المراقبة وتركت الأسعار في يد الفاعلين الخمسة عشر في المجال وعلى رأسهم عزيز أخنوش الذي يهيمن على 30 في المائة من السوق الوطني وهو في نفس الوقت وزير الفلاحة ورئيس حزب التجمع الوطني للأحرار وصديق شخصي للملك محمد السادس”.
وتساءل لزرق في معرض حديثه كيف لشخص متهم بالاستفادة من أراض دون وجه حق وهو الكاتب الأول للحزب الاشتراكي إدريس لشكر أن يدعي الحداثة والعدالة الاجتماعية، ويقدم مقترح قانون يعاقب الاثراء غير المشروع. ويقول الخبير المغربي في هذا الشأن “ربما أن إدخال هذا الشخص للحكومة هو ترضية ومجاملة من سعد الدين العثماني للوبي المستفيدين من الريع الذي يمثله لشكر.”
ويضيف: “خير دليل على ذلك أن الوزارة المكلفة بإعداد استراتيجية الوطنية لمحاربة الفساد، تم منحها لوزير ينتمي لحزب إدريس لشكر وتم وضع ابنه رئيساً لديوان الوزير، وذلك لعرقلة القوانين القادرة على مجابهة لوبي اقتصاد الريع.” وسبق أن كشفت وثائق مسربة عن استفادة لشكر وزوجته من أراض تابعة للدولة في الرباط بأسعار بخسة.
مسؤولية الحكومة
نصّ الدستور المغربي الجديد الصادر سنة 2011، على أن يكون رئيس الحكومة حريصًا على سلامة الدولة الداخلي والخارجي، وأن يجنبها ما يسبّب في تراجعها ويكرّس التمييز والتفرقة بين أبناء الشعب الواحد ويساهم في انهيارها.
هذه المسؤولية، يقول لزرق إن الحكومة الحالية والتي سبقتها لم تقم بها، حيث لم تقاوم الفساد الذي “لا يختلف اثنان في كونه أكبر مهدد لسلامة الدولة”، وفق قوله. ويضيف الخبير: “الإصلاح لا يكون من خلال المخاتلة السياسية؛ بل إن أي إصلاح، سواء كان اجتماعيا أو سياسيا أو اقتصاديا، لا يمكن له أن ينجح إلا بمحاسبة الفاسدين مهما علا شأنهم حتى لو كانوا من بيتك السياسي، إعمالا لدولة القانون والتزاما واجبًا لرئيس الحكومة، لطالما وعد به دون تطبيق.“
تظهر سياسة المحاباة التي تكرّس مبدأ الإفلات من العقاب في تعاطي وزارة العدل والحريات في عهد بنكيران مع تقارير المجلس الأعلى للحسابات بمنطق التوصيات
يرى لزرق أن الحكومة “أضاعت الوقت خلال الولاية السابقة والحالية، وأظهرت عدم الجدية في ترجمة إسقاط الفساد في سياسة عمومية فعلية، تجعل مواجهة الفساد مواجهة شعبية في شتى المجالات، عبر تنزيل شفاف للقوانين التنظيمية، أبرزها الفصل الـ27 المتعلق بحق الاطلاع على المعلومة وحق المواطنين والمواطنات في تقديم الملتمسات والعرائض تنزيلاً للمقاربة التشاركية، لما يتطلبه إسقاط الفساد.“
ويؤكّد لزرق أنه “من المفترض أن يكون ممثلو الأمة كونهم يراقبون الحكومة، ويرصدون الممارسات الخاطئة، أن يقاوموا الريع، غير أن دفاعهم في مناسبات عدّة عن الريع والتزامهم الصمت أحيان أخرى هو مناقض للتعاقد الدستوري الذي أكد مبدأ المساواة، ويتنافى مع تحقيق العدالة الاجتماعية والالتزام الأخلاقي”.
ويضيف: “هذه النخب التي تحاول تدبير الريع بدل اسقاطه، يصعب الحديث عن تكريس الديمقراطية وتنزيل المبادئ الدستورية كممارسة عملية، وهو ما يحول المؤسسة التمثلية إلى ممارسة مظهرية لا تخدم عموم المواطنين.“
تكريس عدم المساواة
في حديثه لنون بوست، أشار الباحث المغربي إلى كون اقتصاد الريع يعتبر أحد أبرز تمثلات انعدام المساواة في المملكة، فـ “المساواة هي الركن الأساس لدولة القانون والقاعدة التي تنطلق منها قيم ومبادئ حقوق الإنسان وهي مفتاح البناء الديمقراطي السليم، وهي أساس المواطنة، كما أنها الضمانة الحقيقية للحقوق والحريات وللاستقرار، ولذلك تمكين نخبة بعينها من الهدايا والمنح تدخل في مجال الريع هو اخلال بمبدأ المساواة،” وفق قوله.
ارتفاع نسبة الفوارق الاجتماعية في المغرب
يرى الكثير من المغاربة أن موضوع توزيع الثروة، يطرح نفسه بإلحاح في تطبيق مبدأ العدالة الاجتماعية، ومعاش البرلمانيين مدخل وإن كان في شقه المالي رمزي لكنه في شقه الدستوري هو مبدأ ينبغي السير فيه قدمًا من أجل اسقاط مختلف أشكال الريع السياسي، لكونه تجسيد للتمييز بين أبناء الوطن الواحد، وتناقض في تكريس مفهوم المواطنة في ظل تقنين ممارسات التَمييز، واختبار حقيقي للفاعلين السياسيين في الإيمان بمغرب المساواة والحقوق والواجبات.
في حديثه لنون بوست، يرى الخبير لزرق أن “التمييز بين أبناء الوطن الواحد، يعتبر هدمًا لدولة القانون وتمييزًا بين المواطنين وانتهاكا صارخاً لحقوق الإنسان ومعولاً لتقويض انجازاتنا وطموحاتنا والإطاحة بطموحات الجميع في ترسيخ أسس الدولة الديمقراطية التي تكرس العدالة الاجتماعية حقوق كل مواطنيها دون تمييز. وعليه يعتبر مبدأ المساواة أمام القانون من المبادئ الدستورية التي تمثل حجر زاوية في البناء القانوني لأية دولة حديثة.
عرقلة تحقيق التنمية
هذا الوضع من شأنه وفق الخبير السياسي المغربي، أن يمنع المملكة من “تحقيق التحول في اتجاه تحقيق مرحلة التنمية، والتي تمر لزوما بمواجهة الفساد المولد للاستبداد عبر محاسبة الفاسدين، وتطهير المشهد السياسي من نخبة فاسدة، عبر العمل على مواجهة سياسة الإفلات من العقاب أو سياسة “عفا الله عما سلف”، في الوقت الذي ننتظر فيه إقرار مبدأ الإفلات من العقاب، وإحالة كل من تثبت عليه شبهة فساد إلى المحاكمة العادلة، بعيدا عن النهج السياسي الحالي.”
وتظهر سياسة المحاباة التي تكرّس مبدأ الإفلات من العقاب في تعاطي وزارة العدل والحريات في عهد بنكيران مع تقارير المجلس الأعلى للحسابات بمنطق التوصيات، حيث “تعمل الوزارة على حفظ الملفات التي تثبت الفساد من يقاسمهم الفكر والوجهة السياسية في مقابل توجيه ملفات من يعارض الحكومة سياسيا”، وفقا لرشيد لزرق.
وتؤكّد عديد الدراسات أن انتشار الفساد في المغرب يمثّل أحد أبرز المُعيقات التي تُعرقل تطور الاقتصاد المغربي؛ ذلك أن الحكومة المغربية لم تنفذ القانون بشكل فعال؛ وغالبا ما يرتكب مسؤولون ممارسات فاسدة دون عقاب يذكر، بالرغم من أن القانون ينص صراحةً على عقوبات جنائية ضد مرتكبي الفساد.
يعتبر اقتصاد الريع من أبرز مظاهر الفساد بالمملكة المغربية، فهو يستنزف ميزانية مهمة من الاقتصاد الوطني ويمنحها لفائدة المخلصين لخزينة الدولة من دون مراعاة أي اعتبارات ترتبط بالمنافسة والكفاءة الاقتصادية، وبالتالي يحرم العديد من المواطنين المحتاجين من الاستفادة من خيرات هذه البلاد.