اعتادت شاحنات المساعدات الإنسانية دخول قطاع غزة عبر معبر رفح الحدودي مع مصر، لتصل مباشرة إلى القطاع، إلا أنه بعد استهداف عدد كبير من الشاحنات المحملة بالمساعدات الموجهة لأهالي غزة الذين يعانون من مستويات غير مسبوقة من الجوع، سلكت طريقًا آخر نحو معبر كرم أبو سالم الذي تسيطر عليه “إسرائيل”.
كانت المفاجأة في انتظار هذه الشاحنات، فبمجرد وصولها إلى المعبر كانت تعترضها مجموعة من المستوطنين الإسرائيليين يمنعون دخولها أو يرشقونها بالحجارة ما يضطر بعضها للعودة، ليتضح أن هؤلاء ينتمون لحركة اسمها “الأمر 9” أو “تساف 9” بالعبرية، فما قصة هذه الحركة؟ ومن يقف وراءها؟ وما دورها في عرقلة وصول المساعدات للفلسطينيين؟
مهمة تجويع الغزيين
بدأت هذه الحركة نشاطها قبل 9 أشهر بنشر نداءات على مواقع التواصل الاجتماعي لمنع وصول المساعدات إلى داخل قطاع غزة، لتتحول تلك النداءات إلى تحركات حقيقة على الأرض تمركزت على طول حدود القطاع، حيث بدأ أفراد المجموعة المدعومة من جماعات يمينية وناشطين متطرفين في “إسرائيل” ماديًا ومعنويًا، بتنفيذ الاعتداءات على القوافل والشاحنات ظنًا منهم أن غالبية المساعدات تصل إلى حماس والمواطنين العاديين في غزة.
واللافت أن هذه الحركة أسستها في يناير/كانون الثاني الماضي مستوطِنة إسرائيلية من اليهود المتطرفين تدعى ريعوت بن حاييم وزوجها يوسف بن حاييم، وهو جندي احتياط في صفوف جيش الاحتلال الإسرائيلي، واستلهم الزوجان اسم الحركة من “الأمر 8″، وهو أمر عاجل للتجنيد السريع في “إسرائيل”، حيث جاءت فكرة “الأمر 9” كإشارة إلى المرحلة التالية من خطواتهم.
في البداية، تمركزا المستوطِنة وزوجها بالقرب من معبر كرم أبو سالم بين غزة و”إسرائيل”، في محاولة لمنع عبور شاحنات المساعدات إلى القطاع عبر الضفة الغربية، حيث قاموا بالسطو عليها ونهب محتوياتها، وإتلاف ما تعجز أيديهم عن سرقته، ثم يقومون بإضرام النار بما تبقى، ومع مرور الوقت بدأت دعوتهم تجد أصداء أوسع، لينضم إلى الحركة نحو 1500 إسرائيلي آخرين.
بعد أشهر، وصل عدد أعضاء الحركة إلى بضع آلاف بينهم أطفال ونساء وكبار السن، وشارك جميعهم في عرقلة تسليم المساعدات وإغلاق الطرق، إضافة إلى استخدام العنف على طول الطريق من الأردن إلى غزة، وفي أثناء عبور الشاحنات الضفة الغربية.
حسب صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية، لاقت الحركة قبولًا واسعًا بين المستوطنين الإسرائيليين حتى تجاوز عدد أعضائها 5 آلاف مستوطن بينهم عدد كبير من جنود وضباط الاحتياط الذين شاركوا في حرب الإبادة الجماعية في غزة، ويقيمون علاقات مع الجهات التي تشرف على وصول المساعدات، ويحصلون منهم على معلومات عن حركة شاحنات المساعدات المتجهة إلى القطاع.
ومع تعطيل نتنياهو التوصل لصفقة تبادل وإصراره على استمرار الحرب، انضم إلى حركة “الأمر 9” أهالي الأسرى المحتجزين في غزة منذ هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، للضغط على الحكومة الإسرائيلية لتنفيذ مطالبهم، ورفعوا شعار الاستمرار في العنف حتى يتم إطلاق سراح ذويهم.
وأنشأت الحركة صفحات عدة على مواقع التواصل الاجتماعي وموقعًا إلكترونيًا نشطًا، يدعون من خلاله لما يطلقون عليه هدفهم الأسمى، وهو منع وصول أي مساعدات للقطاع تحت شعار “لا لوصول المساعدات ما دام هناك أسرى إسرائيليين في غزة”.
هجمات “المدنيين الاسرائيليين” على شاحنات المساعدات القادمة من الاردن وإتلافها مازالت مستمرة ، غزة تقترب من جديد من كارثة كبيرة بسبب نقص المساعدات والمواد الغذائية .
معبر رفح وكرم ابو سالم لا يعمل بسبب النشاط العسكري الارهابي الاسرائيلي في رفح .
ومعبر إيريز في الشمال لا يعمل بسبب… pic.twitter.com/vbC7YPs9GF
— Tamer | تامر (@tamerqdh) May 13, 2024
وفي ظل تحذيرات من انخفاض عدد الشاحنات المحملة بالمواد الإنسانية التي تدخل إلى القطاع المحاصر منذ نحو عقدين، يحضر أعضاء الحركة مع أطفالهم ونسائهم ويوزعون الحلوى على الأطفال المشاركين وهم يحملون أسلحة رشاشة ولافتات كُتب عليها “لا طعام للعدو”.
تواطؤ جيش وشرطة الاحتلال
عملت عصابات المنظمة على مراقبة حركة الشاحنات واعتراضها، وسط تأكيدات عن وجود متعاونين مع المنظمة من عناصر شرطة وجيش الاحتلال، الذين لا يكتفون بتشجيع عمليات الاعتداء على الشاحنات وتجاهل منعها في أي مرحلة من تنفيذها، بل يقدمون الحماية للمعتدين، وتزويدهم بمعلومات حول مسارات الشاحنات ووقت مرورها.
المعلومات عن تواطؤ شرطة وجيش الاحتلال في عرقلة وصول مساعدات الإغاثة من الأردن والمناطق الفلسطينية عبر معبر ترقوميا بمحافظة الخليل جنوب الضفة الغربية، جاءت في أعقاب تمكن أفراد الحركة من اقتفاء أثر الشاحنات في منطقة خاضعة بالكامل لسيطرة الاحتلال والمخابرات.
منذ مطلع العام الجاري، تمكن المستوطنون وعصابات اليمين المتطرف من عرقلة مرور شاحنات المساعدات عبر معبر كرم أبو سالم في جنوب شرق قطاع غزة، ومعبر نيتسانا الحدودي على بعد نحو 40 كيلومترًا إلى الجنوب من معبر رفح، إضافة إلى ميناء أسدود الذي يقول جيش الاحتلال إن شاحنات غذائية دخلت منه إلى غزة لأول مرة في أبريل/نيسان الماضي.
وبسبب تلك التحركات، التي تقودها مجموعة لا يتجاوز عدد أفرادها العشرات في بعض الأحيان، أعلنت “إسرائيل” إيقاف عمل معبريها الحدوديين مع غزة.
في مايو/أيار الماضي، أظهرت مشاهد مئات المستوطنين يتهجمون على شاحنات مساعدات متجهة برًا من الأردن إلى غزة بالقرب من مدينة الخليل بالضفة الغربية وأتلفوا بعضها، ثم عادوا مساءً وأضرموا النار فيما تبقى منها تحت أعين الشرطة والجيش الإسرائيلي، وحمَّل كل من الجيش والشرطة الآخر مسؤولية عدم توفير قوات لردع المستوطنين.
ولا تنحصر أفكار الحركة في إغلاق الطرق أمام شاحنات المساعدات وإتلاف القوافل وممارسة جميع أساليب العنف والمضايقات لقطع شريان الحياة عن القطاع، ولكنها تحمل أجندات أخرى استيطانية، والعمل من أجل إغلاق مكاتب وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) داخل “إسرائيل”.
تناغم مع اليمين المتطرف
يواجه سكان غزة حرب تجويع تُضاف إلى الحرب العسكرية المستمرة التي تفاقم أزمة أكثر من مليوني مدني، فمن أخطأته صواريخ الاحتلال لن يفلته الجوع حتى ينال منه ضمن خطة محكمة لارتكاب إبادة جماعية في غزة، ووجدت هذه السياسات من ينفذها أمام المعابر التي تدخل منها المساعدات الإنسانية.
ووسط تحذيرات المنظمات الدولية من أن إيصال المساعدات لأهالي القطاع، وخصوصًا في الشمال، يمثل “مسألة حياة أو موت”، تحظى الحركة بتأييد علني من قادة اليمين المتطرف، وعلى رأسهم وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير وأعضاء آخرين في حكومة نتنياهو اليمينية، وبالتالي يحظى أفرادها بالدعم والحماية من شرطة وجيش الاحتلال.
وفي مايو/أيار الماضي، كشفت صحيفة “هآرتس” العبرية أن رسول الصهيونية الفاشية الجديد بن غفير طالب الشرطة بعدم التعرض للمستوطنين الذين يمنعون مرور الشاحنات، وأشارت الصحيفة إلى أنه “عندما يعارض بن غفير نقل المساعدات الإنسانية فلا عجب في أن الشرطة تبدي ضعفًا تجاه متظاهرين يسدون طريق الشاحنات إلى غزة، ينزلون الحمولة وينثرونها على الطريق بل ويحرقونها”.
ورغم أن الشرطة الإسرائيلية كانت قادرة على تفريق المتظاهرين بسهولة والسماح للمساعدات بالمرور، فقد ورد أن أحد كبار المسؤولين السياسيين الإسرائيليين قال إن الشرطة كانت تتغاضى عن عنف المستوطنين، وتسمح لهم بمنع الشاحنات من المرور، مشيرًا إلى أن هذه كانت خطوة متعمدة من جانب بن غفير لتخريب قرار حكومة الاحتلال بتسليم المساعدات.
وبخلاف بن غفير الذي أعلن دعمه لإطلاق النار على فلسطينيين ينتظرون وصول المساعدات، ودعا مرارًا وتكرارًا إلى منع دخول الوقود وتقليل المساعدات التي تدخل غزة، كانت التصريحات التي أدلى بها المسؤولون والوزراء اليمينيون متناغمة مع ممارسات الحركة التي تنهب تارة وتشعل النار تارة وتعيث فسادًا وتتلف حمولات الشاحنات تارة أخرى.
قبل ذلك، كانت الكلمات التي أطلقها وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت في اليوم التالي لعملية طوفان الأقصى: “لا كهرباء ولا طعام ولا غاز إلى قطاع غزة، نحن نقاتل حيوانات بشرية”، أشبه بالسلاح الذي أشهرته حكومة الاحتلال ضد المدنيين، ليفرض الاحتلال بعدها حصارًا خانقًا من جميع المحاور على غزة ترافق مع الزج بالقطاع إلى عزلة وانقطاع تام عن العالم، في مخالفة صريحة للقوانين الدولية والإنسانية.
ومنذ ذلك الحين، لم يدَّخر قادة اليمين المتطرف وقتًا أو جهدًا عن إصدار تعليماتهم علنًا بحرمان المدنيين في غزة من جميع أشكال المساعدات الإنسانية، فقد أمر وزير الطاقة آنذاك يسرائيل كاتس، شركة المياه الوطنية بقطع فوري لكل إمدادات المياه عن قطاع غزة، وتبعه وزير المالية اليميني المتطرف بتسلئيل سموتريتش الذي عدَّ تجويع مليوني مواطن من سكان غزة مبررًا وأخلاقيًا.
واشترط مسؤولون إسرائيليون آخرون لدخول المساعدات لغزة إما الإفراج عن الأسرى أو تدمير حركة حماس، وهو ما تنتهجه حركة “الأمر 9” التي ترفع شعار “الموت جوعًا لأهل غزة”، وتؤمن بأن اعتراض طريق شاحنات المساعدات إلى غزة هو الوسيلة لاستعادة كل المحتجزين لدى حماس، خاصة بعد تنامي الدعم الذي يقدمه أهالي الأسرى وانضمام بعضهم للحركة، ويمثل هؤلاء صداعًا في رأس الحكومة اليمينية، ويتهمون نتنياهو بالتخلي عن ذويهم وتركهم للموت.
وفيما أعلنت “إسرائيل” عن إلقاء القبض على 4 عناصر متورطين في الهجوم الذي وقع في مايو/أيار الماضي، ذكرت تقارير حقوقية أمريكية أن الحركة تمولها شركات إسرائيلية، وتتمتع بحصانة من السلطات في تل أبيب، متهمة الحكومة بالتقاعس عن حماية المساعدات المتجهة إلى قطاع غزة.
وفي مارس/آذار الماضي، ألغى وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن زيارة كانت مقررة إلى معبر كرم أبو سالم لتقييم مرور شاحنات المساعدات من تل أبيب إلى غزة بشكل مباشر، لأن الشرطة الإسرائيلية لم تفِ بوعدها بالتصدي لهذه الحركة المتطرفة، وعجزت عن منع أعضائها من عرقلة مرور المساعدات عبر المعبر في أثناء وجوده هناك.
عقوبات غير رادعة
لم تسمح “إسرائيل” بمرور أي شاحنة رغم أوامر المنظمات الدولية بضرورة فتح المعابر الحدودية أمام المساعدات الإنسانية الضرورية لحماية المدنيين، ويعد منع وصولها أو عرقلتها جريمة ضد الإنسانية تتطلب مساءلة وفرض عقوبات من المجتمع الدولي.
وعلى مدار أشهر، عملت تلك المجموعة على مضايقة كل يد مُدت لإيصال المساعدات، لكن على ما يبدو أن تلك التهديدات التي توثقها صور وفيديوهات أعمال المجموعة التخريبية التي تفوقت على نفسها في التطرف، وصلت متأخرة إلى البيت الابيض ووزارة الخارجية الأمريكية التي قررت فرض عقوبات وتجميد أي أصول تخضع للولاية القضائية الأمريكية تمتلكها المجموعة، وتمنع الأمريكيين من التعامل معها بسبب دورها في وأد المساعدات على حدود غزة.
كما شددت الخارجية الأمريكية على المسؤولية الواقعة على عاتق الحكومة الإسرائيلية في حماية تلك القوافل المتجهة إلى مدنيين يتضورون جوعًا في غزة، في خطوة غير كافية من وجهة نظر كثيرين، ويشكك البعض في مدى نجاعتها في ردع أفراد “الأمر 9” عن التوقف عما بدأوا به، رغم إقرار واشنطن بصلات الحركة بجنود الاحتياط في جيش الاحتلال والمستوطنين في الضفة الغربية.
وتأتي العقوبات الأمريكية تنفيذًا لقرار وقعه الرئيس الأمريكي جو بايدن في فبراير/شباط الماضي، يفرض عقوبات مالية وقيودًا على تأشيرات 4 مستوطنين قال إنهم متورطون في أعمال عنف لإرهاب الفلسطينيين في الضفة الغربية، وتمنع العقوبات الأمريكيين من القيام بأي تعاملات مالية مع هؤلاء الأربعة فقط رغم تضاعف أعمال العنف منذ بدء الحرب على غزة، ورصد مئات الهجمات التي شنها المستوطنون على منازل الفلسطينيين وطردهم منها والاستيلاء على ممتلكاتهم.
ولا يمكن الحكم على مدى جدية الولايات المتحدة في رغبتها ضمان سلاسة تدفق المساعدات إلى غزة، فهناك عدة خطوات إجرائية أكثر فاعلية كان من الممكن لواشنطن القيام بها، منها تسهيل دخول الشاحنات المتوقفة على معبر رفح بين مصر وغزة والممرات بين الضفة الغربية وغزة وعمليات الإنزال الجوي واستغلال البحر، بدلًا من إنفاق 230 مليون دولار على الرصيف العائم الذي أزالته واشنطن بشكل نهائي في يوليو/تموز الماضي.
وهناك الكثير من الدلائل التي تؤكد أن هذه العقوبات شكلية، فالإدارة الأمريكية تسعى إلى استقطاب العاطفة العربية كجزء من الدعاية التي تسبق الانتخابات الأمريكية نهاية هذا العام، وسبق لها استخدام حق النقض (الفيتو) أكثر من مرة لإيقاف العدوان الإسرائيلي على غزة، كما تروج حتى اليوم إلى أنها تدرس فرض عقوبات على قادة ووزراء الاحتلال الذين يتبنون في الأساس هذه السياسة أمثال بن غفير وسموتريتش الداعمين للاستيطان.
حتى وإن حدث ذلك، فمن المحتمل أنهم لن يكترثوا لها، تمامًا كما فعل أعضاء الحركة المتطرفة الذين يهاجمون بايدن، فهؤلاء المستوطنون انعكاس لاحتلال قام على السطو وارتكاب المجازر، وبينما تُسد السبل في وجه المساعدات، دقت 70 منظمة حقوقية ناقوس الخطر، ودعت إلى إعلان المجاعة رسميًا في غزه التي يواجه فيها المدنيون العزَّل كل صنوف الموت قتلًا وتجويعًا أمام عالم عاجز عن وضع حد لإجرام “اسرائيل” ومستوطنيها.