تلعب الأماكن التي نقضي فيها بعضًا من أوقاتنا المختلفة أدوارًا متنوعة تؤثر علينا بأشكال عديدة، ومما لا شكّ فالبيت أو المنزل، بوصفه أكثر الأماكن التي نمضي فيها الوقت، هو أكثرها تأثيرها وأعمقها دورًا. وحين نقول المنزل فلا نعي فقط الحيز الماديّ أو الفيزيائي وحسب، بل يشمل المفهوم أيضًا الأسرة والشبكات الاجتماعية والهوية الشخصية والخصوصية والاستمرارية والسلوكيات والرفاهية النفسية والاستقرار والانتماء وغيرها من الجوانب.
ولذلك، لطالما كان التصميم الداخليّ لبيوتنا مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بكلّ تلك الجوانب، بشكلٍ يعمل في اتجاهين؛ فهو من جهةٍ يعكس ثقافتنا المجتمعية، تمامًا كما يعبّر عن المعتقدات ونمط الحياة والهوية الفرديّة أو الشخصية التي تجعلنا نحن وتجعل منكَ أنتَ بشخصك وذاتك. ومن جهةٍ أخرى، فتؤثر تلك الثقافة جنبًا إلى جنب مع الهوية الفردية وسمات الشخصية على شكل التصميم الداخليّ وطرازه وكينونته وتغيّره. عوضًا عن العديد من العوامل الاقتصادية والسياسية والبيئية التي تتداخل مع تلك العوامل الاجتماعية والنفسية فتؤثر وتتأثر بها.
العَمارة والتصميم هي أنشطة تنظيميّة تهدف إلى ترتيب المساحات بما يُفيد الفرد والجماعات
المجتمعات الفَردانية: بيوت صغيرة ومبانٍ عمودية
جزءٌ كبير من مهمة المعماريين والمصمّمين تنبني على فكرة أنّ البيوت والمنازل توفّر أساسًا نفسيًا واجتماعيًا للفرد ينعكس على نفسيته وروابطه الاجتماعية وعلاقاته بالآخرين، فالعَمارة والتصميم بالنهاية هي أنشطة تنظيميّة تهدف إلى ترتيب المساحات بما يُفيد الفرد والجماعات. ويمكن استشفاف الكيفية التي يتأثر بها البناء مع قيم المجتمع وثقافاته على سبيل المثال من خلال النظر إلى المجتمعات التقليدية التي يغلب عليها الطابع الجَماعي، الأمر الذي ينعكس على شوارعها المتداخلة وأزقتها الضيقة وبيوتها المتجاورة جنبًا إلى جنب بطريقةٍ أفقية.
أما المجتمعات الحداثية الفردية، فنرى فيها الأحياء المرتبة بشكلٍ مستقيمٍ غالبًا ما يكون متقاطعًا، وسواء كانت البيوت فردية أو ضمن مبانٍ سكنية عمودية، فيركّز تصميمها على تعزيز خصوصيّتها وأسلوب حياتها الفردانيّ بحيث يقلّ الاحتكاك والاتصال بينها وبين المحيط بها.
شجعت الفردانية على تصميم البيوت الصغيرة أو البنايات السكنية العمودية التي تفصل الأفراد عن محيطهم
خذ على سبيل المثال أيّ بلدةٍ قديمة في عالمنا العربيّ، مثل دمشق ونابلس، حيث جميع البيوت تكاد تكون مفتوحة على التي بجانبها، ويكاد حائطها يلتصق بها، أو قد يلتصق بالفعل، جميعها بشكلٍ أفقيّ. أما خارج حدود تلك البلدات، فكلّ ما نراه هو البيوت المنفردة أو البنايات العمودية المرتفعة التي تعزز فردية ساكنيها وتفصلهم عن جيرانهم ومحيطهم. فقد شجعت الحركة الفردانية الأفراد للتركيز على المنزل ككيانٍ مستقل بعيدًا عن المجتمع والمحيط، ما يعني أنّ الرغبة بالخصوصية والانفراد تفوق الرغبة بالانتماء والتشارك.
يعكس التصميم الداخلي لبيوتنا ثقافتنا المجتمعية، تمامًا كما يعبّر عن المعتقدات ونمط الحياة والهوية الفرديّة أو الشخصية التي تجعلنا نحن
ولفترة من الزمن، شكّل “البيت” فكرةَ الاستقرار والأسرة للأفراد، بل وربما كان هو ما يمنحها الشرعية والاعتراف بها في البيئة الاجتماعية. لذلك كان أيّ شريكين يرغبان بالزواج وبناء أسرة، يبدآن رحلتهما هذه بالبحث عن المنزل الذي سيضمّ أسرتهما لسنواتٍ طويلة، فيبحثان فيه عن غرف عديدة لتستقبل الأطفال، حتى وإن جاؤوا بعد سنوات، تمامًا كما كانوا يهتمون بمساحة المطبخ وغرفة الجلوس. أما حديثًا، ونظرًا لاختفاء فكرة الاستقرار بعيد المدى وغيابها تبعًا لعوامل كثيرة منها سياسية واقتصادية، فقد نجدنا أنفسنا أبعد ما نكون للتفكير بغرف الأطفال، أو بمساحة المطبخ.
المطبخ ومستلزماته: تطوّر سريع محكومٌ بعوامل خارجية
في اللغة اليابانية، فيُعرف المطبخ باسم “كامادو”، الكلمة التي تعني حرفيًا موقد الطبخ، ولكنها في الوقت نفسه تعني أيضًا “البيت” أو “العائلة”، لأنَّ المطبخ كان رمز البيت بأسره. حتى إنَّ تفكك أسرة ما بفعل الانفصال أو الهجرة، كان يُطلق عليه تعبير “تحطم الموقد”. ومما لا شكّ فيه أنْ كان المطبخ بادئ ذي بدء نواةَ البيت، لا سيّما في عالمنا العربيّ، قبل أن تتسارع الحياة المدنية الحديثة وتتداخل فيها احتياجات الإنسان الأساسية بالعلوم والاقتصاد والعمارة والمفاهيم الثقافية المختلفة.
وقد تطوّرت فكرة المطبخ في البيت على مرّ السنين. ففي البداية غالبًا ما كان يتمّ تصميمه في الجزء الخلفيّ من المنزل أو في بعض الحالات في الطابق السفليّ منه، إلّا أنّه بات مع الوقت يحتلّ مكانًا متوسطًا في المنزل، أما في السنوات الأخيرة فأصبح مفتوحًا على غرفة الجلوس، دون أن يفصل بينهما أي جدارٍ أو باب، بل طاولة تستخدم لتناول الطعام أو لأغراض أخرى، فيما يُعرف بمصطلح “المطبخ المفتوح” أو “الأمريكي” نظرًا لنشأته.
ثمّة الكثير من العوامل التي تلعب دورًا في شكل المطبخ وتصميمه، أهمها نظرة الأفراد إلى ثقافة الطبخ، وأثر الظواهرالاجتماعية مثل الفردانية
لامس ذلك التغيّر وظيفته أيضًا، فلم يعد هو المكان الذي يتمّ فيه طهي الطعام وإعداده وحسب، وإنما قد يكون المكان الذي تجتمع فيه العائلة وتتواصل فيه، أو المكان الذي قد تجلس فيه لتنهي عملكَ الخفيف، أو تجلس مع صديقك لبرهةٍ من الوقت بعد أن صنعتما فنجانين من القهوة. وعلى اختلاف علاقتك بالمطبخ الآن، إلا أنه مما لا شكّ فيه أنّ هذه المهام آخذة بالتغير مع الوقت والتغييرات الاجتماعية والاقتصادية المؤثرة، مثل ساعات العمل الطويلة خارج المنزل أو التوجه لأكل الوجبات الجاهزة والسريعة، وغيرها.
ظهر المطبخ الأمريكي نتيجة النظر للطبخ على أنه فن ونشاط إبداعيّ واجتماعيّ لا مجرد وظيفة أو خدمة
إذن فثمّة الكثير من العوامل التي تلعب دورًا في شكل المطبخ وتصميمه وطريقة الإنفاق عليه وعلى مستلزماته وموادّه. أهمها نظرة الأفراد إلى ثقافة الطبخ، وأثر الظواهر الاجتماعية مثل الفردانية على ذلك. فمع انتشار هذه الثقافة وسيطرتها، ونظرًا لأنّ البيوت كما أسلفنا سابقًا أصبحت أٌقل مساحة، بات من الطبيعي أن تصغر مساحة المطبخ أيضًا. إلا أنّ الكثير من الشعوب في العالم ما زالت تحافظ على علاقتها بالمطبخ وثقافة الطبخ كما هي، مثل الشعوب العربية، لذلك ما زالت تفضّل بناء المطابخ الواسعة كبيرة المساحة دون أنْ تتأثر بالتغيرات الحداثية العالمية.
ومن جهةٍ أخرى، بات الأفراد ينظرون إلى الطبخ كفن وكنشاط إبداعي واجتماعي، وليس مجرد وظيفة أو خدمة. وبالتالي، أصبحت فكرة المطبخ المفتوح أكثر قبولًا، لا سيّما وأنّ المهمة لم تعد تقتصر على الأنثى أو ربة البيت فقط، فقد بات الرجل يشارك فيها في كثيرٍ من دول العالم، خاصة في مرحلة ما قبل الزواج أو إنجاب الأطفال، أي مرحلة الحياة الفردية.
أدّت فلسفة المطابخ المفتوحة هذه إلى ظهور تصاميم عديدة للمطابخ ومستلزماتها تهتمّ بالمستوى الجمالي لجعلها لائقة أمام أعين الزوار
وقد أدّت فلسفة المطابخ المفتوحة هذه إلى نشاط كبير في صفوف المصممين الذين راحوا يبتكرون تصاميم عديدة للمطابخ ومستلزماتها لا تقتصر فقط على الحاجة وإنما تهتمّ بالمستوى الجمالي لجعلها لائقة بالظهور أمام أعين الزوار في غرفة الجلوس، فأصبح المطبخ المفتوح بذلك وراء تطور صناعة جديدة لم تكن موجودة قبل نصف قرن. ورغبتنا بأنْ يعكس المطبخ جزءًا من ذائقتنا الجَمالية تنمو مع الوقت، ليعكس شخصيتنا وذواتنا أمام ضيوفنا وزائرينا.
العديد من الآثار الأخرى التي تتركها ثقافاتنا المحليّة على تصاميم بيوتنا وأطرزتها، حتى أنّ الثقافة تتداخل مع الدين أيضًا، كفكرة الخصوصية وتصميم غرف النوم بعيدًا عن غرفة الضيوف أو وضع مرحاض بجانب غرفة الضيوف بعيدًا عن أجزاء البيت الأخرى حفاظًا على خصوصيتها وخصوصية أفرادها خاصةً النساء. أو قد ينعكس ذلك على تصميم غرفتيْ ضيوف منفصلتين إحداهما للنساء وأخرى للرجال.
شبابيك البيت الكبيرة والمنفتحة على المحيط المجاور لها، تدلّ ذلك على انخفاض حسّ الخصوصية لدى سكانه وأفراده
أبواب البيت وشبابيكه من ناحية أخرى تحكي الكثير عن الثقافة المجتمعية لساكنيه والتي بدورها تنعكس على شكل تلك الأبواب وطرازها وحجمها وتفاصيلها. ولعلّ أهم القيم التي تعكسها تلك الأبواب والشبابيك هي الخصوصية؛ فإذا كانت شبابيك البيت كبيرة ومنفتحة على المحيط المجاور لها، دلّ ذلك على انخفاض حسّ الخصوصية لدى سكانه وأفراده، بعكس الشبابك الصغيرة.
وبالمحصلة، فجولة واحدة في بيتِ أحدهم، أو نظرة إلى شبابيكه وأبوابه، لكفيلة بإعطائك صورة عامة عن ثقافة مجتمعه من جهة، وشخصيته الذاتية من جهة أخرى، بغض النظر عن انتشار فكرة البيوت الجاهزة والمفروشة في الآونة الأخيرة، لكنّ التصميم الداخلي للمنزل نفسه يحمل بالنهاية ثقافة مجتمعٍ كامل يتأثر ببعضه البعض ويعكس قيمه وعاداته ورؤاه على بيوته ومنازله بأجزائها المختلفة.