تشهد مدن وقرى تونس هذه الأيام تظاهرات ومظاهرات مضادة، واحدة رافضة لتقرير لجنة الحريات ,مصرة على عدم المصادقة عليه والتخلي عنه، باعتباره تقريرًا يهدد التماسك المجتمعي ويثير المسائل الهامشية في البلاد للتأثير على عموم الناس وإبعادهم عن القضايا المهمة التي تعرفها تونس، وأخرى داعمة له وإن كان عدد المشاركين فيها قلة قليلة، فإنهم يصرون على ضرورة اعتماده دون تعديله.
فعاليات تؤكد في جزء منها عودة معركة المشروع المجتمعي وصراع الهوية في تونس، بعد أن ظن الجميع أن هذا الصراع انتهى في الجانب المؤسساتي والقانوني دون رجعة، مع اعتماد دستور 2014 الذي يكفل الحريات الفردية والجماعية.
رفض التقرير
التقرير الذي عكفت عليه لجنة الحريات الفردية والمساواة برئاسة النائبة بشرى بلحاج حميدة، التي تقرر تكوينها قبل عام بأمر من الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي بمناسبة عيد المرأة التونسية، ما إن كُشف فحواه حتى لقي معارضة كبيرة.
هذه المعارضة صدرت عن مئات الآلاف من التونسيين والأحزاب والشخصيات والجمعيات الدينية التي اعتبرت التقرير يتعارض مع الدين ومقاصده والدستور ومبادئه، وجابت مسيرات حاشدة العديد من المدن والقرى التونسية معارضة للتقرير، ورُفع في بعضها شعارات عدة من بينها “أسرتنا.. حصننا وملاذنا” و”الشعب مسلم ولا يستسلم” و”تحصين الأسرة واجب” و”لا وصاية أجنبية على المبادئ الإسلامية”.
معارضة التقرير جاءت نتيجة لما تضمنه من مقترحات اعتُبرت تهديد للأسرة و مس للثواب الإسلامية
وكانت رئيسة لجنة الحريات الفردية والمساواة النائبة بشرى بلحاج حميدة قد قالت في وقت سابق إن رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي سيتخذ يوم 13 من أغسطس/آب الحاليّ قرارات وصفتها بـ”المهمة وليست بالسهلة”، بخصوص تمرير بعض مشاريع قوانين اللجنة إلى البرلمان أحدهم يتعلق بموضوع الإرث.
تشكلت هذه اللجنة في أغسطس/آب 2017 بأمر من الرئيس الباجي قائد السبسي، وكلفها بإعداد تقرير يتضمن إصلاحات تشريعية متعلقة بالحريات الفردية والمساواة بما ينسجم مع نص الدستور التونسي الصادر عام 2014، وجاء تشكيل اللجنة بعد دعوة السبسي لضرورة بحث ملف المساواة في الميراث، معتبرًا أن تونس تتجه لا محالة باتجاه المساواة في المجالات كافة.
تهديد للأسرة ومس بثواب الإسلام
معارضة التقرير جاءت نتيجة لما تضمنه من مقترحات اعتُبرت تهديد للأسرة ومس للثواب الإسلامية، واعتبر المجلس الإسلامي الأعلى بتونس أن التقرير نسف أحكام الأسرة في الإسلام، كأحكام الميراث والنفقة والعدة والنسب وغيرها، وتعمد إلغاء مصطلحات معبرة عن هوية الشعب التونسي الإسلامية وانتمائه للدين الاسلامي مثل “المسلمين، الموانع الشرعية، المحرمات، الزوج والزوجة”.
أهم ما تضمنه التقرير المساواة في الميراث بين الرجال والنساء الذين تربطهم صلة قرابة أولى، أي الأشقاء والشقيقات والأبناء والبنات والأب والأم والزوج، ويتوافق التشريع التونسي الحاليّ مع ما جاء في القرآن الكريم في أن للمرأة نصف نصيب أشقائها الذكور.
جانب من مسيرة مناهضة للتقرير
إلى جانب المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة، اقترحت اللجنة إلغاء التمييز في شروط الزواج من خلال إعادة تنظيم المهر بتخليصه مما هو “مخل بكرامة المرأة” وتحقيق المساواة التامة بين الأب والأم على زواج طفلهما القاصر، وكذلك إقرار حق الأم وحدها في الموافقة على زواج القاصر في حالة وفاة الأب أو فقدانه الأهلية أو غيابه.
كما يقترح المشروع إعفاء الأرملة من عدة الوفاة قبل الدخول، وإلغاء عدة الفقدان “انعدام معناها ما دام الحكم بالفقدان يصدر بعد مدة لا تقل عن العام في أغلب الأحيان”، وإلغاء نظام رئاسة الزوج للعائلة والاكتفاء بالتنصيص على قيم التعاون في تسيير شؤون الأسرة بين الزوجين.
ينص التقرير أيضًا على إلغاء نظام رئاسة الزوج للعائلة وإلغاء واجب الإنفاق على الزوجة إذا كان لها دخل يغنيها عن الحاجة إلى النفقة، ويقترح تحقيق المساواة في استحقاق النفقة بين أصول الأب وأصول الأم، إلى جانب إلغاء التمييز في الواجبات الزوجية بإلغاء الإحالة إلى العرف والعادة لتحديد الواجبات، فضلًا عن إلغاء التمييز في العلاقة بالأبناء من خلال إقرار حق الأم في التصريح بولادة ابنها، وإقرار مصلحة الطفل معيارًا واحدًا لتحديد الطرف الأصلح لحضانته.
يؤكد تونسيون أن ما يصر السبسي على القيام به لم يجرؤ عليه الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي قبله
إلى جانب ذلك، اقترحت اللجنة إلغاء التمييز في قانون الجنسية التونسية من خلال إقرار حق الطفل المولود بتونس في الحصول على الجنسية التونسية إذا كانت أمه وأحد جديه للأم مولودين بها أيضًا، إلى جانب الاعتراف للأجنبي الذي يتزوج من تونسية بحق الحصول على الجنسية التونسية، فضلًا عن إلغاء تجريم المثلية الجنسية.
عودة صراع الهوية
هذا التقرير يرى العديد من المراقبين في تونس أن الهدف منه إعادة تجميع من يصفون أنفسهم بـ”الحداثيين” بعد أن فرقتهم السياسة، ويهدف هؤلاء إلى فرض توجههم الفكري على غالبية الشعب التونسي الذي يصر على الحفاظ على هويته المجتمعية.
ويرى المحيطون بالسبسي أن عودة البلاد إلى مربع الصفر، وإلى معركة المشروع المجتمعي التي يعتقد البعض أنها انتهت في الجانب المؤسساتي والقانوني بصياغة دستور 2014، ستمكنهم من إعادة سيناريو 2013 و2014، حيث نجحوا في الترويج لأنفسهم بأنهم الداعمون لحقوق التونسيين وخاصة المرأة في وجه من يطلقون عليهم “الرجعيين” و”الظلاميين”.
وكثيرًا ما يلجأ هؤلاء إلى إحياء صراع الهوية في تونس في كل عثرة لهم أو إحساس منهم بتقلص حضورهم لدى التونسيين وتراجع ثقتهم فيهم، ليثبتوا لهم أنهم السد المنيع أمام محاولات المس بمكاسبهم، حتى إن هذا الصراع أضحى كسفينة سيدنا نوح يعبر بها السبسي وجماعته الطوفان.
يسعى السبسي والمحيطون به إلى التأثير في المرأة لكسب صوتها الانتخابي
يؤكد تونسيون أن ما يصر السبسي على القيام به لم يجرؤ عليه الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي قبله، فكلاهما لم يتجرأ على التصريح بهذه المقترحات ولا المناداة بإقرارها ولا تبنيها علنًا، رغم تبنيهما سياسة فرض الأمر الواقع، لعلمهما بخطورة الأمر ولعدم قدرتهما على مواجهة الهوية الجماعية للشعب التونسي حتى وهم في أوج فترات حكمهم.
ويعتقد السبسي الذي فشل في تحقيق أي إنجاز يذكر منذ توليه السلطة في تونس أن إعادة هذا الصراع إلى الواجهة يمكن أن يحسب في ميزان حسناته السياسية كإنجاز، فهو كعادته يستغل قضية حقوق المرأة لإلهاء الناس وكسب قليل من شعبية ما فتئ يفقدها بمرور الوقت.
عودة صراع الهوية مسألة حذر من تداعياتها الخطيرة على المجتمع التونسي الكثير من المحللين، ويرى عدد كبير من المحللين أن ما يقوم به الباجي يمثل قفزة إلى الوراء، فإعادة مسألة الهوية إلى الواجهة لن تحقق أي فائدة للتونسيين في الحاضر ولا في المستقبل، بل سيكون خطرها على تونس أكبر.