ترجمة وتحرير: نون بوست
في مستشفى مهجور في منطقة البقاع في لبنان، قام ثلاثة لاجئين سوريين بالعمل على مشروع صناعة روبوت. وعلى الرغم من انقطاع التيار الكهربائي ودرجات الحرارة الحارقة، شمر أعضاء الفريق على سواعدهم وهم يتصببون عرقا من أجل برمجة الروبوت لالتقاط عدد من المخاريط الصغيرة وتكديسها. في الواقع، تتطلب هذه المهمة مهارات في التشفير والهندسة والرياضيات والعلوم، وهي مهمة تختلف عن أي شيء تعلمه هؤلاء اللاجئون في وطنهم.
إحدى هؤلاء اللاجئين وتدعى وئام سالم والبالغة من العمر 17 سنة، كانت قد فرت من دمشق، بعد أن تم استهداف حيها بالقنابل سنة 2014، على متن سيارة أجرة مع عائلتها ولا شيء تحمله على ظهرها سوى حقيبة صغيرة. في هذا الصدد، قالت وئام: “في سوريا، لم يكن بإمكاننا سوى أن نأمل في العمل على شيء مثل الروبوتات، والكثير من الابتكارات الأخرى. أما هنا فيمكننا أن نفعل ذلك بنشاط وحماس”. وأضافت وئام أن “الناس دائما يقولون لنا أننا مجرد أطفال، مجرد لاجئين، ولا يمكن لنا فعل أشياء من هذا القبيل. لكننا نستطيع، ونحن نعمل على ذلك”.
منظمة”برامج المساعدة المتعددة الخيرية” أو “مابس”، التي توفر شبكة تتألف من تسع مدارس تستقبل 3500 طفل سوري في جميع أنحاء لبنان
في واقع الأمر، يقدر عدد الأطفال اللاجئين الذين انقطعوا عن دراستهم بحوالي 300 ألف طفل من مجموع مليون ونصف لاجئ سوري يعيشون في لبنان. وعلى الرغم من التعهدات الدولية بتوفير الفرص لكل الأطفال للالتحاق بالمدارس، إلا أن حاجز اللغة والرسوم الباهظة ونقص الحيز المتاح في الفصول الدراسية، أدى إلى انعدام الفرص لعدد كبير من الأطفال لدخول المدارس، ما قد يعرضهم لخطر عمالة الأطفال والزواج المبكر. وقد كشفت الإحصائيات أن أقل من 3 بالمائة من السوريين الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و18 سنة مسجلون في المدارس الثانوية، وهو ما يجعلهم أهدافًا رئيسية للوقوع في بؤر التطرف.
في المقابل، تعتبر وئام سالم، صحبة زميليها رنيم علاوي البالغة من العمر 18 سنة وماهر العيساوي البالغ 17 سنة، من المحظوظين، حيث يذهبون إلى المدرسة بفضل المنظمة التي تعرف باسم “برامج المساعدة المتعددة الخيرية” أو “مابس”، التي توفر شبكة تتألف من تسع مدارس تستقبل 3500 طفل سوري في جميع أنحاء لبنان. وقد أسس جراح الأعصاب السوري، الدكتور فادي الحلبي، هذه المنظمة الخيرية التي تُعنى باللاجئين السوريين في لبنان.
في الحقيقة، تعتبر هذه المنظمة مبتكرة بشكل كبير، إذ تقدم دروسًا وفقا للمناهج الدراسية اللبنانية، بحيث يمكن للطلاب الانتقال إلى المدارس اللبنانية إذا أتيحت لهم الفرصة. كما أنها توفر وظائف للمعلمين السوريين اللاجئين، وإن كان ذلك على أساس التطوع. تجدر الإشارة إلى أنه بموجب قوانين العمل اللبنانية، تم فرض قيود على السوريين في مجال العمل الذي يمكنهم القيام به بصفة قانونية. وقد أسس الحلبي أيضًا ثلاثة مراكز طبية تعتمد على أطباء وممرضين سوريين غير مدفوعي الأجر لتوفير الرعاية لحوالي 15 ألف لبناني وسوري في منطقة البقاع.
أفاد الدكتور فادي الحلبي قائلا: “لا نريد تعليم الأطفال القراءة والكتابة فحسب، بل نحن بحاجة إلى إنشاء معيار جديد، ونهج جديد لهذه الأزمة الإنسانية”
في هذا السياق، تم اعتماد مستشفى مهجور مقرا رئيسيا للمنظمة الخيرية، حيث تم تحويل غرف سابقة للمرضى إلى “مراكز ابتكار” أين يتم تدريس علم الروبوتات وعلوم الكمبيوتر والذكاء الاصطناعي والفن والتصميم. وكان أسامة شحادة، وهو أستاذ في علم الروبوتات ويبلغ من العمر 27 سنة، من بين المتطوعين في هذه المنظمة الخيرية. وكان قد تخرج حديثا من جامعة دمشق، أين حصل على شهادة في هندسة التشغيل الآلي والروبوتات قبل أن يُجبر على الفرار إلى لبنان.
في غضون أسابيع من وصوله إلى منطقة البقاع اللبنانية، تجاوب أسامة مع مكالمة تلقاها من المنظمة بخصوص المعلمين المتطوعين في مختلف المجالات العلمية. ومنذ سنتين، يقوم أسامة بتدريس طلاب تتراوح أعمارهم بين التاسعة و30 سنة. وقد ساعد هذا الشاب خلال هذه السنة فريق “أمل سوريا للروبوتات” على الفوز بجائزة “إلهام” من بين حوالي 600 فريق في مسابقة فكس العالمية للروبوت التي أقيمت في مدينة لويفيل في ولاية كنتاكي.
يقضي أسامة شحادة وفريق أمل سوريا للروبوتات (بالقمصان الحمراء) فترة ما بعد الظهر مع الفريق الأمريكي، هو تايغر برايد (بالقمصان الخضراء).
من جانبه، أفاد الدكتور فادي الحلبي قائلا: “لا نريد تعليم الأطفال القراءة والكتابة فحسب، بل نحن بحاجة إلى إنشاء معيار جديد، ونهج جديد لهذه الأزمة الإنسانية. فبعد سبع سنوات من الحرب الأهلية في سوريا، لا يزال اللاجئون غير معترف بهم هنا. ويتمثل الهدف الرئيسي بالنسبة لنا في الإجابة عن السؤال: كيف يمكنني الحفاظ على كرامتي، في حال عدت إلى موطني؟ إن الروبوتات تساعدنا على ضمان الكرامة لأنها تُظهر أننا لسنا “مجرد” لاجئين سوريين يعيشون في وضع يمنعنا من العمل أو الالتحاق بالمدرسة هنا، ويلزمنا بالبقاء في المخيم. في الواقع، يمكننا التفكير أبعد من ذلك”.
لاقى نهج الحلبي توافقاً مع الأكاديميين والنشطاء حول العالم. وبعد أن تمكن فريق “أمل سوريا” من الفوز في أول مسابقة للروبوتات في ولاية كنتاكي سنة 2016، تمت دعوة الفريق للقاء الرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما. ومنذ ذلك الحين، زار أعضاء الفريق البيت الأبيض ثلاث مرات، وعرضوا الروبوت المصنوع محليًا الذي أطلقوا عليه اسم “روبوغي” على مختلف أعضاء الكونغرس.
أوضحت الأستاذة هنريتا مور، التي تترأس معهد الرخاء العالمي أن “لبنان يعد نموذجا مصغرا للمشاكل التي نواجهها في جميع أنحاء العالم”.
في شأن ذي صلة، يرغب كل من معهد التعليم ومعهد الرخاء العالمي في جامعة لندن في التعاون مع الحلبي لتطوير حلول للنزوح الجماعي في جميع أنحاء العالم باستخدام لبنان في مرحلة تجريبية، حيث أن واحدا من كل أربعة أشخاص هو لاجئ في هذه البلاد، وهي أعلى نسبة على مستوى العالم.
من جهتها، أوضحت الأستاذة هنريتا مور، التي تترأس معهد الرخاء العالمي والتي شاركت في تأسيس “مركز ريليف” مع شركاء في الجامعة الأمريكية في بيروت ومركز الدراسات اللبنانية أن “لبنان يعد نموذجا مصغرا للمشاكل التي نواجهها في جميع أنحاء العالم”. وبدعم من “صندوق التحديات العالمية” التابع للحكومة البريطانية، الذي تبلغ تكلفته 1.5 مليار جنيه إسترليني، والذي يدرس التحديات التي تواجهها البلدان النامية، يقوم المركز بالتحقيق في كيفية الارتقاء بالعمل الذي بدأته هذه المنظمة الخيرية.
فضلا عن ذلك، قالت مور: “نحن نعرف أن متوسط مدة الإقامة بالنسبة للنازحين تتراوح بين 20 و25 سنة. كما أن الاعتقاد بأن الجميع سيعودون إلى ديارهم بعد أن تم تهجيرهم هو أمر يتشارك في مسؤوليته الجميع. لكن الوضع الراهن لموجات النزوح التي فرضتها الحرب بات أمرا واقعا يجب التعايش معه. والسؤال المطروح هنا: كيف لنا أن نحقق النجاح في ظل هذه الظروف؟ فكيف نجعل الشباب يشاركون في مواضيع مهمة، مثل القوى العاملة الحديثة والروبوتات، وأبحاث الخلايا الجذعية، والذكاء الاصطناعي؟ وما الذي يمكننا القيام به لإعداد الشباب للمستقبل عندما تكون نسبة الأطفال الذين يلتحقون بالمدارس 3 بالمائة فقط؟”.
أما بالنسبة لوئام وبقية زملائها، فيعد الفصل بمثابة نافذة على العالم وبعيدا عن معترك الحياة اليومية في سهل البقاع، التي تمثل منطقة ترابية خصبة تتناثر فيها الخيام البيضاء التابعة للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بشكل عشوائي. كما يمتلئ المكان بنبات الخزامى والآثار الرومانية ومحاصيل القطن والقمح والماريغوانا.
أردفت وئام قائلة: “لكن الجانب المشرق هو أننا في أمان هنا. فقد أصبح بإمكاني الآن ارتياد المدرسة. وفي الواقع، يستهويني تطوير الروبوتات لأنه يمكنني مواصلة العمل في هذا المجال في المستقبل”
في هذا الإطار، تحدثت وئام، التي كانت ترتدي حجابًا بلون الخوخ وبنطال جينز داكن وحذاء رياضيا ناصع البياض، بهدوء أن “اليوم الذي لجأنا فيه إلى السرداب في بنايتنا السكنية بدمشق بغية حماية أنفسنا من الغارات، كان اليوم الذي اتخذت فيه أمي قرار الرحيل. لكن طبعا، ظلت ترافقني الذكريات المؤلمة أينما حللت. فقد بات ينتابني الشعور بالخوف والفزع حتى من الأشياء البسيطة، إذ كلما رأيت طائرة تحلق في السماء، تعود بي الذاكرة إلى لحظة سقوط القنابل، عندها فقط أتصرف بشكل غريزي. وأثناء ابتعادنا عن المدينة، استدرت إلى الخلف ليقع نظري على المبنى الذي كنا نقيم فيه وقلت في نفسي ‘قد لا أتمكن من رؤية بيتنا مجددًا'”.
من ثم، نظرت وئام إلى يديها، وأردفت قائلة: “لكن الجانب المشرق هو أننا في أمان هنا. فقد أصبح بإمكاني الآن ارتياد المدرسة. وفي الواقع، يستهويني تطوير الروبوتات لأنه يمكنني مواصلة العمل في هذا المجال في المستقبل. كما أود العمل في مجال صناعة الأدوية، حتى أتمكن من إيجاد علاجات أنقذ بها المرضى. وأرغب في العودة إلى الديار من أجل إنقاذ الأرواح بنفسي”.
رنيم علاوي ووئام سالم وماهر العيساوي مع معلمهم أسامة شحادة.
كانت رنيم علاوي، البالغة من العمر 18 سنة، قد تغيبت عن المدرسة لمدة سنة كاملة في دمشق، نظرا لكونها بعيدة جدا عن مقر إقامتها، وأيضا لخطورة الوضع هناك. وبعد فرار عائلتها إلى لبنان، لم تتمكن من ارتياد المدرسة في البداية. أما الآن، فهي مسجّلة في برنامج “مابس”، الذي ساهم في تغيير منظورها عن التعليم، وباتت تأمل في أن تصبح مهندسة حاسوب. وأفادت رنيم قائلة: “دُمّر منزلنا خلال الحرب، ونحن الآن نحاول جميعا تجنب التفكير في الأمر. ولطالما كنت من أولئك الذين يفضلون الاعتماد على أنفسهم والعمل على انفراد. لكن، غيرت الروبوتات تماما أسلوبي عملي، حيث علمتني كيف أعمل ضمن فريق”.
أما بالنسبة لماهر العيساوي، وهو رئيس فريق الروبوتات بالمدرسة الثانوية، فقد كان برنامج “مابس” ودوراته التعليمية التي قدمها بمثابة شريان حياة في عالم كان مخيفا في بعض الأحيان. وفي هذا الشأن، صرح العيساوي أنه “عندما وصلت إلى هنا، لم أكن أحمل سوى الملابس التي كنت أرتديها، وكل ما أملكه من كتب وألعاب تركتها خلفي”.
كما أضاف الشاب قائلا: “لأول مرة، أعلم ما هو المعنى الحقيقي للوحدة. فقبل أن أنظم إلى الفريق، كنت أتسكع في الشوارع كل يوم للعب. أما الآن، فقد أصبح لدي هدف أصبو إلى تحقيقه. وعلى الرغم من أنني دائمًا ما تمنيت أن أصبح مهندسًا، إلا أن لدي الآن مسارًا جديدا لن أحيد عنه. وقد سافرت وزرت قطر، كما أن هذه هي المرة الثانية التي أزور فيها الولايات المتحدة الأمريكية. فضلا عن ذلك، أصبحت قائد فريق الروبوتات”.
مؤخرا، عاد العيساوي إلى سوريا. وفي هذا الشأن، أوضح الشاب أن “كل شيء تغير في البلد. وعموما، أود الالتحاق بجامعة هارفارد أو بجامعة جورج واشنطن لأواصل تطوير الروبوتات، إذ تستهويني بالفعل جوانبها الميكانيكية. وفي الحقيقة، أحب صناعة شيء من لا شيء”.
المصدر: الغارديان