بعد إعلان الممثلة المصرية حلا شيحة تراجعها عن ارتداء النقاب والحجاب وعودتها إلى التمثيل، تعرض “الملتزمون” لصدمةٍ حقيقية، يمكن تبينها في ردات الفعل الهيستيرية لأناسٍ من المفترض أنهم يتبنون ويدافعون عن قضايا أكبر وأهم من هذه المواقف.
فكتبت خديجة خيرت الشاطر منشورًا ترثي فيه حال الممثلة الجديد وتدعوها للعودة إلى الجادة، مستعطفةً إياها بأن “المسلمين يبكون” على ما فعلته، وخرج بعض شيوخ السلفية “يبكون” حرفيًا على مواقع التواصل الاجتماعي، حزنًا على الفتاة، كما يدعون، ووصل الأمر أن قامت إحدى صديقاتها المقربات – على حد زعمها – بالتشنيع عليها والطعن في التزامها ودوافعها ونواياها.
حشد النصوص التي تدعو إلى تضييق مساحة حرية المرأة في الحركة والزينة والمجال العام لا يمكن اختزالها في كونها رد فعل على خطاب تحرير المرأة
ليس الغرض من هذه الكلمات الدفاع عن موقف الممثلة أو التبرير له أبدًا؛ فقناعة الكاتب التي لا يخفيها أن الحجاب فرضٌ، لكن الغرض هو بيان تهافت دعوى اختزال حالة الضجة التي أثيرت في كونها “هياجًا جمعيًا” وراء “تريند” جديد، كذا، محاولة فهم حالة الهلع والفزع (Panic Attack) التي أصابت مجتمع الملتزمين عقب هذه الحادثة.
ففي رأينا، أن محاولة عزو وتفسير كل ما نستشعر تفاهته إلى كون الناس ينساقون وراء التريندات لهثًا وراء أي معنى وقتلًا للوقت والفراغ، تفسيرٌ كسول، لا يمكن تعميمه على كل جديد، ولنتأكد من كون الأمر في حصيلته أكبر من مجرد خلع فتاةٍ حجابها، فلنسأل سؤالًا: هل كانت هذه الضجة لتثار لو أن الملتزمين علموا أن هذه الممثلة قد تركت الصلاة؟ علمًا أن الصلاة في أهميتها أعظم من الحجاب، وأن خلع الحجاب لا يعني بالضرورة إنكار فرضيته، إذًا، لماذا كل هذا؟
ليس مجرد قطعة قماش
إننا نعيش في عالمٍ تحكمه الرموز أو بتعبير أهل اللغة، تحكمه التعبيرات الاصطلاحية والعرفية Idioms، حيث قيمة الشيء لا يمكن اختزالها في دلالته السطحية؛ إذ، غالبًا، تحمل الأشياء والسلوكات قيمًا متراكبةً عصية على التفكيك، ثنائية المرأة – الحجاب هي ثنائية مركزية في الخطاب الدعوي للسلفيين، وحشد النصوص التي تدعو إلى تضييق مساحة حرية المرأة في الحركة والزينة والمجال العام لا يمكن اختزالها في كونها رد فعل على خطاب تحرير المرأة، خاصة إذا لاحظت أن المرأة وأحكامها والتنظير لقهرها أولوية أولى على جدول أعمال السلفيين، حتى لو جاء ذلك على حساب الاهتمام بتصحيح العقيدة والعبادات.
من أقسى ما يمكن أن تتعرض له جماعة أيديولوچية ما، أن يرتد عن قيمها أفرادٌ كانوا يؤمنون بهذه القيم بشدة ومرحبين بالتضحية من أجلها
ومن اعتاد السير في شوارع القاهرة سيألف ذلك المشهد الشيزوفريني، إذ يجلس رجلًا على القهوة، يكركر الشيشة، ويضيع الصلوات، مطلقًا بصره على “اللي رايحة واللي جاية”، ولكنه يفزع ويفجع إذا مرت بجانبه امرأةٌ ترتدي ما لا يعجبه، فإما يلمزها سرًا أو يستحل الاعتداء اللفظي عليها، ففي نظره، هذه المرأة اللعوب لا دية لها، وأنه يحقق لها ما نزلت للشارع من أجله.
والسر في ذلك أن المجتمع لا ينظر إلى الحجاب باعتباره “شعيرةً” لإرضاء الله وفرضًا قد تقصر المرأة – لأي سببٍ – في استيفائه كليًا أو جزئيًا، إن الحجاب، كما يراه المجتمع، رمزٌ ثقافيٌ، تتموضع من خلاله المرأة – مع أشياء أخرى أقل أهمية – داخل تصنيف (كاتيجوري) يعني، غالبًا، أن هذه المرأة قد رضيت بتوظيف النص الديني توظيفًا ذكوريًا، اجتماعيًا، ثقافيًا، يتيح لغيرها استلابها وقهرها “وكله بما يرضي الله”.
وبالتالي، صارت كثير من الفتيات يتحايلن على هذه الصورة الذهنية بمزيدٍ من الجهد لتحقيق نجاحاتٍ مهنية واجتماعية ودراسية تبعث رسائل ضمنية مفادها: أن الحجاب يمكن أن يجتمع مع النجاح والجمال والتدين وحب الحياة، وليس ثمة تعارضٌ بين هذا ولا ذاك.
سيكولوچية التحولات الجذرية وآليات الدفاع المضادة
من أقسى ما يمكن أن تتعرض له جماعة أيديولوچية ما، أن يرتد عن قيمها أفرادٌ كانوا يؤمنون بهذه القيم بشدة ومرحبين بالتضحية من أجلها، إن هكذا انشقاقات تسبب تصدعات شديدة في جدران الجماعة وتظهر مثالبها وتفتح باب التمرد على مصرعيه أمام المترددين.
بينما يشعر البعض الآخر بالتهديد الوجودي والحاجة إلى الهجوم المضاد على هؤلاء “المنتكسين”، والهلع من سماعهم، فلعل تجربتهم قد كشفت لهم من الأسباب الموضوعية ما استدعى تمردهم، ولكن سماع هذه الأسباب قد يبدد الأمان ويفتح أبواب الشك والحيرة ويلقي بالشبهات في قلوب من ظل يدافع ويبشر دومًا بقيم هذه الجماعة وقد يصيبهم بما يسميه علماء النفس “التنافر المعرفي”.
تلجأ الجماهير إلى نسق تلفيقي إنسانوي صوفيٍ يوائم بين المتناقضات المتوهمة، وهو خطابٌ يتنامى، كلما اشتد خطاب الطرفين المتطرفين، باعتباره خطابًا وسطيًا قابلًا للحياة، بعيدًا عن العصاب الأصولي الإلحادي
إذًا ما الحل؟ يلجأ اللاوعي الجمعي إلى آليات الدفاع النفسي لتخفيف حدة التنافرات المعرفية والصراعات النفسية، فيدعو البعض للمنتكسة بالهداية، ويلمزها البعض الآخر طعنًا في نواياها، ويتهمها آخرون بعدم الفهم الصحيح والانتماء الصادق لقيم هذه الجماعة، أما الطرف الآخر، الذي تحولت إليه بوصلة هذا المنتكس، فإنه يوظف هذا التحول الجذري توظيفًا دعائيًا، محاولًا تسجيل بعض النقاط على خصومه الفكريين.
ومن أكبر الأمثلة على الفكرة السابقة، ما رأيناه في السجال الإيماني الإلحادي، حيث كان معسكر الإيمان يحظى دائمًا بمنضمين جدد من المعسكر الإلحادي، فسماهم المؤمنون “العائدون إلى الفطرة” – وهو اسم مؤلف مطروحٌ في الأسواق بالمناسبة – بينما كان يؤدي المنتمون إلى معسكر الإلحاد الدور الدفاعي، فلا يمكن أن ننسى تشنيع “دوكنز” على “أنثوني فلو” الذي آمن بعد أكثر من ستة عقود من التبشير بالإلحاد والدعاية له؛ فما كان من دوكنز إلا اتهامه بالخرف والخوف من الموت لما شعر باقتراب أجله، مع أن السيد فلو كان قد ألف كتابًا يشرح فيه مسوغات تحوله إلى الإيمان من الإلحاد، وهي مسوغات علمية فلسفية جمعها في كتاب “يوجد إله: There is a God”.
صعود خطاب الإسلام الإنسانوي
حينما تتأزم الأمور ويجد الشخص نفسه بين مطرقة خطاب “كل وامسح في دقنك” الذي ينظر للتخلف ويبشر به، ويستقوي بالتأويل لشرعنة قهر المرأة واستلابها وتحريم كل ما هو جميل من ناحية وسندان خطاب الإلحاد الذي يدعي التقدمية مع استبطان النسبية والعدمية؛ تلجأ الجماهير إلى نسق تلفيقي إنسانوي صوفي يوائم بين المتناقضات المتوهمة، وهو خطابٌ يتنامى، كلما اشتد خطاب الطرفين المتطرفين، باعتباره خطابًا وسطيًا قابلًا للحياة، بعيدًا عن العصاب الأصولي الإلحادي.