انتهى هتلر، تجاوزت ألمانيا ذلك التاريخ البغيض واعتذرت عن أخطائها، تبرأت من النازية وقاومتها بعنف ولا تزال، إلا أن المصل الذي يُحصن به المجتمع الألماني من فوبيا العداء لليهود لم يحقق أهدافه كاملًا، وبين حين وآخر تظهر موجات متجددة من العنف ضدهم، بما يقلق مضاجع اليهود ويجعلهم يوزعون اتهاماتهم في كل جانب، إلا أن الألمان واليهود يبدو أنهم اتفقوا على تحميل هذه التركة للاجئين من أصول عربية وإسلامية.
المعاداة المستوردة.. ليست بديلًا عن أصل الأزمة
رئيس المجلس المركزي لليهود في ألمانيا جوزيف شوستر راقت له نغمة المعاداة المستوردة لليهود، ورغم علمه بالجذور الراسخة في المجتمع الألماني التي لا ترتاح للتعامل معهم، فإن موجات المد العربي والإسلامي في ألمانيا، والوجود الكثيف للمسلمين في مجتمع يحمل تاريخ غير سار لليهود، يجعله يفضل التصدي للوافدين العرب والشوشرة عليهم أولًا وتحميلهم فاتورة معاداة السامية، تحت عنوان جديد مقبول تسويقيًا وهو “المعاداة المستوردة”.
قالت المستشارة الألمانية ميركل إن المجتمع الألماني أمام معضلة جديدة لمعاداة السامية، المتمثلة في الهوية الثقافية والدينية التي هاجر بها اللاجؤون المسلمون والعرب وجلبوها لألمانيا، وهي الظاهرة التي يجب أن تواجه بكل حسم
اللفظ الذي انتشر بسرعة البرق في الميديا الألمانية وأجاد اليهود استخدامه دعائيًا، وصل إلى قناعات المستشارة أنجيلا ميركل المعروف صرامتها في مواجهة هذه التقلبات الاجتماعية وعدم الانصياع لها أو التماهي معها، وتعاملت معه باعتباره واقعًا جديدًا في بلادها، دون التهرب من أصل الأزمة بين المجتمع الألماني واليهود التي لم تنجح العقود الماضية في القضاء على جذوره والتغلب عليه، ورغم ذلك بدا واضحًا أنها تميل لاستخدام المعاداة المستوردة لإبعاد المجتمع الدولي عن العلاقة الأزلية القائمة على التوتر بين الألمان واليهود.
وقالت ميركل في ثنايا حوار لها مع إحدى القنوات الإسرائيلية الخاصة، إن المجتمع الألماني أمام معضلة جديدة لمعاداة السامية، المتمثلة في الهوية الثقافية والدينية التي هاجر بها اللاجؤون المسلمين والعرب وجلبوها لألمانيا، وهي الظاهرة التي يجب أن تواجه بكل حسم، واعتبرت أن الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي أبرز الأدوات التي تستخدم في ترسيخ هذه الثقافة.
في معاداة السامية.. الألمان أولًا
يعلم اليهود جيدًا النزعات الرافضة لهم في المجتمع الألماني، رغم قيادتهم حملة شعواء ضد العرب والمسلمين، وهذه طريقة اليهود دائمًا، هم يجيدون صناعة الحس الأمني لصالحهم، وأي مشكلة ناشئة يمكن أن تشكل عليهم خطرًا بعد 50 عامًا من الآن لديهم القدرة على تحويلها إلى قضية رأي عام بحسابات اليوم، بما يخلق فزاعات حولها، تنهي على الخطر قبل ولادته.
رغم نجاحهم في إشغال العرب بالدفاع عن أنفسهم في هذه التهمة التي تزيد من عزلتهم في المجتمعات الأوروبية، فإنهم يخوضون نفس الحرب مع كل مجتمع أوروبي لديه نزعة واضحة من الكره تجاه اليهود
ما يبرأ العرب من هذه التهمة – رغم وجود كراهية متبادلة لا يمكن نكرانها – الإحصاءات شبه الرسمية التي صدرت منذ أشهر، وكشفت معدل الجرائم ضد اليهود ومصدرها، وأكدت أن أكثر من 90% منها – من واقع سجلات المخابرات الألمانية الداخلية والقضاء – يقف خلفها الألمان الذين ينتمون إلى اليمين المتطرف أو النازيون الجدد، وليس اللاجئين العرب الذين تحملوا التهمة بأكملها، انطلاقًا من اعتداء شاب سوري على يهوديين في برلين، واستخدمت الواقعة بكثافة على مواقع التواصل الاجتماعي، وصُنع منها بروباجندا كانت كفيلة بصنع أزمات جديدة للعرب.
ويحفل التاريخ الألماني بل والأوروبي بانتهاكات لا يمكن تصديقها ضد اليهود، وتورث للأجيال المتعاقبة دوافع من الكره الموضوعي لليهود، وهي الأسباب التي تجعل المسؤولين اليهود عن هذا الملف، ورغم نجاحهم في إشغال العرب بالدفاع عن أنفسهم في هذه التهمة التي تزيد من عزلتهم في المجتمعات الأوروبية، فإنهم يخوضون نفس الحرب مع كل مجتمع أوروبي لديه نزعة واضحة من الكره تجاه اليهود.
وربما يفسر ذلك، الهجوم الذي شنه المؤرخ موشي تسيرمان السفير الإسرائيلي السابق لدى برلين شيمون، الذي كتب مقالًا مطولًا في إحدى أهم وأعرق الصحف الألمانية “فرانكفورتر”، ووجه فيه جل انتقاداته لكل ما يدور في ألمانيا عن المعاداة المستوردة، واعتبرها بشكل واضح مناورات سياسية من الحكومة الألمانية لصرف النظر عن مرتكبي الاعتداءات من الألمان الأصليين ضد السامية.
الدبلوماسي الإسرائيلي المحنك اعتبر محاولة إلقاء سهام الاتهام تجاه العرب والمسلمين، وتحميلهم فاتورة الاعتداءات على يهود ألمانيا، ينفي ويدمر جميع الشواهد التي رصدت وقائع حقيقة الكراهية المتجذرة من الإلمان لليهود، واستند في مقاله على صرخات الغضب التي خرجت بها الجاليات الإسلامية من مختلف المدن الألمانية، وعبر مظاهرات منددة بالاعتداءات عليهم، نظموا مسيرات تحت عنوان “ضد الكراهية والظلم” تعبيرًا عن رفضهم للعنف مع اليهود أو المسلمين.
يتحرك فيلكس كلاين رئيس مفوضية مكافحة معاداة السامية في ألمانيا بدعم من أنجيلا ميركل بالطريقة التي تستحوذ على رضا المجتمع الدولي، الاعتراف بالأزمة في بلاده أولًا ثم المطالبة بالتعامل معها على أسس علمية بما يساهم في اجتثاثها للأبد
وبمنتهي الحسم الذي بدأ به تسيرمان مقاله، انتهى إلى ضرورة التواصل مع معسكر الناخبين الفعليين لحزب البديل لأجل ألمانيا، ليس من أجل معاداتهم للسامية ولكن لموقفهم من المسلمين الذين يحاول البعض الزج بهم في قائمة معاداة السامية، وهكذا وبذكاء نادر مارس اليهود لعبة خلط الأوراق لإثارة الجدل بشأن القضية في المجتمع الألماني، تارة يتم اتهام المسلمين وحدهم بالعداء للسامية وإطلاق لفظ المعاداة المستوردة باعتبارها “براند” سيلازمهم طوال حياتهم مع الماكينات الألمانية، ثم العودة عن طريق مسؤول آخر لفتح جراح قديمة، والنبش خلف الفئات الأكثر كرهًا لليهود في المجتمع، لتحميلها وحدها مسؤولية الاستهداف البدني لليهود، بما يؤكد لماذا تتفوق العقلية الإسرائيلية دائمًا على العرب والمسلمين في كل صراع ينشأ بينهم، ويكون الغلبة في الغالب لهم.
خطوات جادة لاحتواء اليهود
يتحرك فيلكس كلاين رئيس مفوضية مكافحة معاداة السامية في ألمانيا، بدعم من أنجيلا ميركل بالطريقة التي تستحوذ على رضا المجتمع الدولي، الاعتراف بالأزمة في بلاده أولًا، ثم المطالبة بالتعامل معها على أسس علمية بما يساهم في اجتثاثها للأبد، خصوصًا أن هذه التهمة تستخدم في التذكير بالتاريخ القديم لألمانيا، بما يعني أنهم متضررون أكثر من غيرهم، وهو ما يجعل الألمان في موقع الحدث دائمًا وبعين المسؤولية.
عقدة النازية التي تحرك الألمان أحيانًا بمجرد الضغط على زر نواقصها من اليهود، يجعلهم دائمًا في رحلة بحث عن حيلة مناسبة لتكفير الذنب الهتلري في حق اليهود، وكان أول الخيط لإنهاء هذه الأزمة بشكل دائم حزمة القوانين التي تقدم بها حزب التحالف المسيحي الذي تنتمي إليه المستشارة أنجيلا ميركل، وهدف من خلالها إلى شرعنة طرد أي مهاجر تظهر منه تصرفات ليست فقط معادية للسامية، بل مجرد التشكيك بحق “إسرائيل” في الوجود.
يسعى البرلمان للإسهام في تأهيل المجتمع ومؤسساته العقابية، ودفعه نحو تسجيل جميع الجرائم المعادية للسامية وسن التشريعات المغلظة للمعاقبة عليها
البرلمان الألماني “البوندستاج” يسعى هو الآخر إلى المشاركة في هذه الحالة التي تجتاح طول البلاد وعرضها هذه الأيام، ويتسابق على الولاء لها جميع مؤسسات صنع القرار في البلاد، فمن سيشارك الآن سيضاف له في التاريخ أنه كان أحد أضلاع القضاء على نزعات النازية المتأصلة في المجتمع الألماني، وكان رسولًا للسلام في وقت حاسم.
ويسعى البرلمان للإسهام في تأهيل المجتمع ومؤسساته العقابية، ودفعه نحو تسجيل جميع الجرائم المعادية للسامية وسن التشريعات المغلظة للمعاقبة عليها، ووفاء لذلك قدم مجموعة خدمات لم تقف فقط على فتح البرلمان لأي متحدث يريد إشعال الأزمة من داخل بيت الأمة الألماني، بل شرع في تقديم خدمة “المشورة” لضحايا معاداة السامية، وهي السيولة في حب اليهود التي بدأت تستفز البعض، لدرجة أن بعض الخبراء الألمان حذروا منها، واعتبروا مثل هذه التصرفات ليست الحل الأمثل لإجبار الألمان على حب اليهود، خاصة أن اليمين المتطرف يمثل رقمًا لا يمكن الاستهانة به، وهؤلاء أحد الروافد التي تستوطن من خلالها معاداة السامية في ألمانيا، الحل مطلوب من وجهة نظرهم، ولكن الافتعال تطرف هو الآخر لايمكن قبوله في القيم الألمانية.