يسعى الدب الروسي إلى تجديد نفوذه القديم في ليبيا رغم الانقسامات السياسية والعسكرية والمنافسة الغربية هناك، خدمة لمصالحه ورغبة في الاستفادة من ثروات البلاد الهائلة التي كان جزء مهم منها يذهب إليها خلال حكم نظام معمر القذافي.
نفوذ بدأ يتجدد نتيجة ضعف الدور الأمريكي هناك، والصراع الغربي خاصة بين فرنسا وإيطاليا وتردد باقي الدول الغربية من التورط في الشؤون المعقدة لليبيا ومخاوف دول العالم من المجابهة معها، فضلًا عن علاقتها الكبيرة مع اللواء المتقاعد خليفة حفتر وميليشيات الكرامة التابعة له التي لا تخفي قياداتها العسكرية رغبتها في تدخل روسي “يحمي ليبيا” وفق قولهم.
الاعتماد على حفتر
لإن ادعت روسيا العمل على إحلال السلام في ليبيا ووقوفها على مسافة واحدة بين مختلف الفرقاء الليبيين، وتبنيها في العلن سياسة التواصل مع جميع أطراف الأزمة الليبية، فإن الواقع يكشف عكس ذلك، فهي تضع كل ثقلها إلى جانب اللواء المتقاعد خليفة حفتر ومجلس النواب في طبرق والحكومة المنبثقة عنه في البيضاء شرق البلاد بالتنسيق مع مصر، على أمل استعادة بعض مكانتها السابقة.
وكثيرًا ما تلقت روسيا دعوات للتدخل العسكري والدبلوماسي في ليبيا من قيادات الشرق، ومؤخرًا طلب أحمد المسماري الناطق الرسمي باسم قوات خليفة حفتر، في حوار له مع وكالة “سبوتنيك” الروسية، بأن تلعب روسيا دورًا أكبر في الملف الليبي يشبه الدور الذي لعبته في سوريا، عسكريًا وبخاصة دبلوماسيًا، لإبعاد بعض الدول أو الحد من نفوذها.
هذا الدور الذي طالب به المسمار وتسعى إليه روسيا لا يمر حتمًا إلا عن طريق حليفها العسكري خليفة حفتر الذي لا يعترف بشرعية حكومة الوفاق الوطني برئاسة فائز السراج المعترف بها دوليًا، الذي تسيطر قواته على جزء كبير من ليبيا.
منذ سقوط نظام معمر القذافي سنة 2011، لم تتوقف المساعي الروسية للعودة إلى ليبيا، غير أن هذه المساعي اصطدمت بالعديد من الحواجز
يبقى الرهان الروسي كبيرًا على تجديد نفوذها في ليبيا، وتستند في ذلك إلى أسس قديمة مردها الإرث السوفييتي من خلال الرهان على شخصية عسكرية تعتبرها قوية ومؤثرة مثل خليفة حفتر، يذكر أن حفتر قد درس في الاتحاد السوفييتي وزار روسيا مرارًا ويتحدث اللغة الروسية.
وللإشارة فقد زار حفتر روسيا أكثر من مرة، والتقى فيها وزيرا الخارجية والدفاع، واستقبلته حاملة الطائرات “الأميرال كوزنيتسوف” على سواحل ليبيا، إضافة إلى ذلك ذهب مستشار عبد الله الثني رئيس حكومة شرق البلاد غير المعترف بها دوليًا إلى موسكو والتقى نائب وزير الخارجية الروسي، وكان قد سبقه إلى ذلك رئيس البرلمان المنتخب عقيلة صالح.
كما دعمت روسيا حفتر وقدمت قطع غيار عسكرية ومشورة فنية له خارج دائرة حظر التسليح المفروض على ليبيا، كما اتفقت معه على صفقات تسليح تم معظمها على نحو غير مباشر، عن طريق مصر أساسًا، وبأسلحة قادمة من بيلاروسيا أو دول أخرى قريبة من موسكو.
الاستفادة من الصراع الفرنسي الإيطالي
بقاء الساحة الليبية خالية لبعض القوى الدولية الأخرى، في مقدمتها أمريكا وفرنسا وإيطاليا، في أثناء اهتمام روسيا بالأزمة السورية ووضع كل ثقلها هناك، لم يدم طويلًا، فهاهي روسيا تكشر عن أنيابها في هذا البلد العربي رغبة منها في استعادة مكانتها هناك.
طريق الرجوع لليبيا يحتم على موسكو الاستفادة قدر المستطاع من الصراع الحاد بين روما وباريس، اللذين لا يخفين رغبتهما الجامحة للسيطرة على ليبيا وثرواتها، غير مبالين بالشعب الليبي وانتظاراته وحقوقه.
تعتمد روسيا في خطتها من أجل العودة إلى ليبيا على حفتر
منذ سقوط نظام معمر القذافي سنة 2011، لم تتوقف المساعي الروسية للعودة إلى ليبيا غير أن هذه المساعي اصطدمت بالعديد من الحواجز، وتعلم روسيا حاليًّا أن طريق العودة مفتوح أمامها الآن ويمر حتمًا عبر الاستفادة من الصراع الغربي وتباين وجهات نظر الدول الغربية تجاه ليبيا.
ويبدو الصراع الدائر بين فرنسا وإيطاليا بشأن النفوذ في ليبيا، وتمنّع الولايات المتحدة عن لعب دور فاعل، فرصة جيدة لتزيد موسكو من حضورها في هذا البلد العربي الذي يمتلك ثروات طبيعية هائلة خاصة من النفط والغاز والذهب.
الاستفادة من الصراع بين حفتر والسراج
لإن ادعت موسكو مساندتها جميع الأطراف الليبية ورغبتها في إحلال السلام هناك، فإن المتابع لتحركاتها في ليبيا يرى جليًّا أنها تفضل بقاء الصراع بين حفتر والسراج وتواصل عدم الاستقرار والفوضى حتى تبرر تدخلها هناك.
وسبق أن عجزت موسكو عن الجمع بين حفتر وفائز السراج رئيس حكومة الوفاق الوطني في أكثر من مرة، ويعود هذا العجز في جزء كبير منه إلى وجود توافق أوروبي أمريكي على تحييد موسكو من الملف الليبي.
من شأن قاعدة عسكرية روسية في ليبيا أن تخلق الرعب لدى الدول الغربية
ترى موسكو أن الحل يكمن في تواصل الصراع بين حفتر والسراج لإعادة ترتيب الوضع هناك، فالترتيبات في ليبيا التي أفضت إلى توقيع “اتفاق الصخيرات” السياسي نهاية 2015، وتركيز حكومة الوفاق الوطني، كانت بدعم أوروبي وأمريكي دون دور روسي يذكر.
أهداف توسعية
عودتها إلى ليبيا بعد غياب طويل الغاية منها تثبيت حضورها في المنطقة التي تعتبر امتدادًا للنفوذ الغربي، في وقت يشهد فيه القرار الغربي بعض التردد، ويندرج الاهتمام الروسي بليبيا، حسب العديد من الخبراء، في إطار إستراتيجية أوسع تهدف من خلالها موسكو إلى استعادة دور جيوسياسي بارز في المنطقة.
وتؤكد تقارير إعلامية عزم روسيا توسيع دائرة نفوذها في منطقة شمال إفريقيا، حيث عادت إلى الواجهة بقوة عبر دعمها اللواء المتقاعد خليفة حفتر، في مسعى منها للعب دور أساسي في مستقبل ليبيا وهو ما سيشكل قاعدة أمامية أخرى لها في المنطقة، وتعتبر شمال إفريقيا تاريخيًا منطقة نفوذ لدول الاتحاد الأوروبي، حيث تمتلك الدول الأوروبية الواقعة على شاطئ البحر المتوسط مصالح كثيرة في المنطقة.
وتهدف روسيا إلى الحصول على تسهيلات عسكرية من ليبيا في الواجهة المتوسطية (البحر الأبيض المتوسط)، وتأسيس قاعدة روسية في شواطئ ليبيا أو قاعدة مشتركة بين البلدين تكون محطة للسفن الحربية الروسية، على غرار قاعدة طرطوس (الروسية) في سوريا (شرق البحر الأبيض المتوسط).
تأمل روسيا إنشاء قاعدة عسكرية في ليبيا
من شأن قاعدة عسكرية روسية في ليبيا أن تخلق الرعب لدى الدول الغربية، خاصة أن وجود قواعد بحرية أو جوية روسية في السواحل الليبية يعني أن “الساحة الخلفية الأوروبية تحت التهديد” حسب العديد من الخبراء، وسبق لروسيا أن قامت بمحاولات عديدة مع الجزائر والمغرب للسماح لها بإقامة قاعدة عسكرية على شواطئ إحدى البلدين، لكن الرد الجزائري والمغربي كان حاسمًا بالرفض.
تعويض خسائرها
إلى جانب ذلك، تسعى موسكو إلى إعادة إحياء العديد من المشاريع المعطلة مع ليبيا، من ذلك الاتفاق الذي يعود إلى عام 2008 لإقامة قاعدة بحرية روسية في مدينة بنغازي، وصفقات تسليح تقارب قيمتها ملياري دولار، إضافة إلى صفقة لمد سكة حديدية بين شرق البلاد وغربها ومشاريع طاقة مشتركة.
وخلال حكم القذافي كانت ليبيا من أكبر أسواق السلاح السوفييتي والروسي، وعقدت صفقات عديدة تقدرها بعض التقارير بأكثر من 22 مليار دولار، كما أقامت روسيا في تلك الفترة عددًا من المشاريع في ليبيا، منها مركز للبحوث الذرية ومشاريع طاقة كهربائية وخطوط أنابيب غاز، كما جرى حفر المئات من آبار النفط من الشركات الروسية.
وتأمل روسيا أن ينمو نفوذ حفتر في ليبيا بما يكفي لإعطائها امتيازات اقتصادية، مما يعوض الخسائر المالية التي تكبدتها نتيجة سقوط نظام القذافي، وتتمثل هذه الخسائر في 150 مليون دولار من الأرباح من مشاريع البناء و3 مليارات دولار من عقد السكك الحديدية الروسية ونحو 3.5 مليار دولار أرباح من صفقات الطاقة وما لا يقل عن 4 مليارات دولار في مبيعات الأسلحة.