23 عامًا مرّت على أحداث الحادي عشر من سبتمبر والهجوم على برجي “مركز التجارة العالمي” في مدينة نيويورك الأمريكية، والتي تغيّر بعدها العالم وانقلبت فيه الموازين رأسًا على عقب، ليكون العالم بعده أمريكيًا خالصًا. حيث احتلت أمريكا بلدَين في الشرق الأوسط دون العودة إلى مجلس الأمن، وفرضت قوانين سياسية واقتصادية وحتى اجتماعية من منطق القوة حينها.
لكن على الجانب الآخر، كانت أمريكا ذاتها تشهد تغييرات كبيرة لم تكن في الحسبان، فالعملية التي استهدفت البرجَين في نيويورك، والتي تبعتها حملة ضخمة ممنهجة ضد الإسلام والمسلمين لتحميلهم المسؤولية، كانت المفتاح الكبير في صعود المسلمين في الولايات المتحدة.
على مدار الـ 20 عامًا شغل المسلمون مناصب عليا في مختلف المجالات داخل أمريكا، بل إن مدينة أمريكية هي هامترامك، أصبح عمدتها وأعضاء مجلس إدارتها من المسلمين الأصليين والذين اعتنقوا الإسلام بعد 11 سبتمبر.
صعود غير معهود
صحيح أن الظهور المسلم في الولايات المتحدة ليس أمرًا جديدًا، لكن مستوى وقوة ظهور الشخصيات المسلمة خلال العقدين اللاحقين لأحداث نيويورك، كانا أمرَين غير معهودَين في المشهد الأمريكي.
في عام 2021، أكد مجلس الشيوخ الأمريكي، المعروف بالجمود الحزبي، بأغلبية كبيرة على تعيين أول مسلمين في تاريخ البلاد، أحدهما كقاضٍ في محكمة المقاطعة الفيدرالية، والآخر كرئيس للجنة التجارة الفيدرالية.
وأقسمت الهيئات التشريعية في 5 ولايات اليمين على أول أعضائها المسلمين، بما في ذلك ممثلة ترتدي الحجاب في ولاية أوكلاهوما، واختار فريق نيويورك جيتس لكرة القدم روبرت صالح كأول مدرّب مسلم لفريق رياضي محترف أمريكي.
وعرضت شبكة “سي بي إس” مسلسل “The United States of Al”، وهو أول مسلسل كوميدي على شبكة بث أمريكية تلعب فيها شخصية مسلمة دور البطولة، وأصبح ريز أحمد، نجم فيلم “Sound of Metal”، أول مسلم يرشَّح لجائزة الأوسكار لأفضل ممثل.
يقول عدنان فيرك، مقدّم البرامج الرياضية في برنامج “MLB Tonight”، والذي أصبح في عام 2012 أول مسلم يقدم برنامجًا على الهواء مباشرة على قناة “إي إس بي إن”: “أينما نظرت، أرى أشياء تحدث للمرة الأولى فيما يتعلق بالمسلمين”.
أما في المسرح السياسي، فقد شهدت انتخابات التجديد النصفي للعام 2022 نتائج تاريخية بالنسبة إلى الأمريكيين المسلمين، حيث تمّ انتخاب عدد قياسي من أعضاء المجتمع لمقاعدهم.
كان الجمهوري محمد أوز سيصبح أول مسلم في تاريخ مجلس الشيوخ الأمريكي لو فاز بمقعده في ولاية بنسلفانيا، لكن حتى مع خسارته فاز 82 مرشحًا مسلمًا بمقاعد محلية وولائية وفيدرالية وقضائية في 25 ولاية، وفقًا لتقرير صادر عن مركز جيتباك للموارد ومجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية.
وكان العديد من هذه الانتصارات في ولايات حمراء، بما في ذلك تكساس وفيرجينيا وجورجيا، وشملت 20 من شاغلي المناصب الحالية و17 مرشحًا جديدًا. وتتراوح هذه المقاعد من مجالس التعليم المحلية والمجالس البلدية إلى مجلس النواب الأمريكي، حيث احتفظت عضوة الكونغرس إلهان عمر من ولاية مينيسوتا، ورشيدة طليب من ولاية ميشيغان، بمناصبهما.
وقالت منظمة مجلس العلاقات الإسلامية الأميركية (كير) إن هذا يمثّل أعلى عدد من الانتصارات الانتخابية بين المسلمين الأمريكيين منذ أن بدأت في تتبعها عام 2020. وفي ذلك العام اُنتخب 71 مسلمًا أميركيًا.
وقال المدير التنفيذي الوطني للمنظمة، نهاد عوض، إن السلسلة التاريخية من الانتصارات هي شهادة على صعود مجتمعنا المستمر في السياسة الأمريكية، والثقة التي يوليها جيراننا لنا لتمثيلهم والقتال من أجل مصالحهم.
ويضيف عوض “إننا نشهد الخطوة التالية في التحول السياسي للمجتمع المسلم الأمريكي من أصوات مهمّشة تم تهميشها، أو ما هو أسوأ من ذلك، إلى صناع القرار”، وأضاف أن “هؤلاء المسؤولين المنتخبين حديثًا يبنون على نجاح استثمار مجتمعنا على مدى عقود من الزمن في المشاركة المدنية، وتسجيل الناخبين، والترشح للمناصب”.
الفعل وردّ الفعل
عندما وقعت هجمات الحادي عشر من سبتمبر، كان تكوين المجتمع المسلم في الولايات المتحدة مختلفًا كثيرًا عمّا هو عليه اليوم: أصغر بكثير، أكبر سنًا، أكثر محافظة، أقل تنظيمًا، ويتكون من المزيد من الأمريكيين السود وعدد أقل بكثير من المهاجرين الجدد.
في عام 2001 كان يعيش في الولايات المتحدة نحو مليون مسلم، وفقًا لرابطة أرشيف البيانات الدينية، مقابل 3.5 ملايين مؤخرًا. وكمجموعة، شكّلوا كتلة تصويت جمهورية قوية، مع جذب مجتمع المهاجرين بشكل خاص إلى رسائل الحزب الجمهوري حول الاعتماد على الذات، والحكومة الصغيرة، والسياسات الاجتماعية المحافظة بشأن قضايا مثل الإجهاض وحقوق المثليين.
فاز جورج دبليو بوش بنسبة 72% من أصوات المسلمين في عام 2000، وفقًا لمجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية، وتشير استطلاعات أخرى إلى انخفاض الرقم لكنها لا تزال تُظهر ميلًا كبيرًا للحزب الجمهوري. بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، انخفض هذا الدعم بشكل حادّ، حيث دعمَ 7% فقط بوش في مواجهته عام 2004 مع الديمقراطي جون كيري.
ولم يكن الانتماء الحزبي هو التحول الوحيد بين المسلمين في الولايات المتحدة في السنوات التي أعقبت أحداث نيويورك، فقبل الهجمات نادرًا ما كان المسلمون الأمريكيون ينظرون إلى أنفسهم كمجتمع واحد مرتبط بإيمان مشترك، بقدر ما كانوا ينظرون إلى أنفسهم كمجموعة متباينة من الجماعات العرقية المتميزة (الإيرانيون والعراقيون والسوريون والباكستانيون والمصريون من بين العديد من الجماعات العرقية الأخرى)، التي ظلت متمسكة بنفسها وتدافع عن نفسها، كما تقول نيلوفر حائري، رئيسة الدراسات الإسلامية في قسم الأنثروبولوجيا في جامعة جونز هوبكنز.
وكانت الكتلة الكبيرة الأخرى من المسلمين في البلاد تتألف من الأمريكيين السود الذين نظروا إلى إسلام مالكولم إكس والملاكم محمد علي باعتباره دينًا وهوية سياسية تستخدَم للدفاع عن الفقراء والمهمشين، وتقول حائري إن تطبيق هذا الإيمان أزعج العديد من المسلمين المهاجرين الذين جاءوا إلى الولايات المتحدة هربًا من الأنظمة الثيوقراطية.
ثم جاءت ردود الفعل العنيفة بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، والتي اتّسمت بموجة من الاعتداءات الجسدية واللفظية على المسلمين وكل من “يبدو” مسلمًا. ووفقًا لمكتب التحقيقات الفيدرالي، كان هناك 28 تقريرًا عن جرائم كراهية ضد المسلمين في عام 2000، وفي عام 2001 ارتفعت جرائم الكراهية ضد المسلمين بنسبة 1617% من عام 2000 إلى عام 2001 وفقًا للمكتب، ما يمثل بعضًا من أعلى أعداد جرائم الكراهية ضد المسلمين على الإطلاق في الولايات المتحدة.
أدّى كل هذا الاستهداف إلى تأجيج الخوف من الانتقام غير المبرر بين الأمريكيين المسلمين، وساعد في تشكيل جيل من الناشطين الشباب الذين فازوا الآن بمناصب سياسية من مجلس المدينة إلى الكونغرس.
وبحلول عام 2007، قال 84% من الأمريكيين المسلمين الذين تتراوح أعمارهم بين 12 و18 عامًا إنهم تعرضوا لعمل واحد على الأقل من أعمال التمييز المناهض للإسلام في العام السابق، وفقًا لدراسة أجرتها جامعة نيويورك. وفي عام 2009 أفاد أكثر من 82% من المسلمين في الولايات المتحدة بأنهم يشعرون بعدم الأمان، وفقًا لدراسة أجرتها جامعة أديلفي.
يقول النائب الديمقراطي أندريه كارسون من ولاية إنديانا، والذي أصبح في عام 2008 ثاني مسلم يُنتخب عضوًا في الكونغرس، إن المحنة جمعت مجموعة متباعدة من الجنسيات في تحالف ضروري.
ويقول كارسون: “لقد مهّدت الجالية المسلمة الأمريكية من أصل أفريقي الطريق لهذا الدور منذ عقود من الزمان، لكن أحداث الحادي عشر من سبتمبر سمحت للجالية المسلمة المهاجرة برؤية أن الجالية المسلمة الأمريكية من أصل أفريقي كانت على حق منذ البداية في فضح الظلم العنصري، وفضح تجاوزات الحكومة فيما يتصل بانتهاكات الحريات المدنية والتجسُّس على مواطني الولايات المتحدة”.
في الوقت نفسه، خلال سنوات حكم بوش وأوباما، ارتفعت وتيرة الهجرة إلى الولايات المتحدة من الدول ذات الأغلبية المسلمة في الشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا، وفي فترة 2002-2016 ارتفع عدد اللاجئين المسلمين المقبولين في الولايات المتحدة بنسبة 627% (من حوالي 6 آلاف في السنة إلى ما يقرب من 40 ألفًا)، ما تسبّب، إلى جانب أعلى معدل ولادة لأي مجموعة دينية، في زيادة حادّة في عدد السكان المسلمين.
توقف التدفق منذ ذلك الحين، حيث خفضت إدارة ترامب عدد اللاجئين المقبولين في الولايات المتحدة إلى أدنى مستوى على الإطلاق بأقل من 12 ألفًا في المجموع، وكان جميعهم تقريبًا من المسيحيين وفقًا لبيانات وزارة الخارجية.
خلال تلك الفترة زادت مشاركة المسلمين في الحياة اليومية بالنسبة إلى العديد منهم، بسبب المكان الذي يعيشون فيه الآن: الضواحي. فوفقًا لتقرير صادر في يوليو/ تموز عن معهد السياسة الاجتماعية والتفاهم، والذي يبحث في اتجاهات الحياة الإسلامية الأمريكية، فإن ما يقرب من نصف المساجد الآن تقع في مجتمعات سكنية خارج المدن الكبرى، مقابل 38% في عام 2010. وفي الوقت نفسه، ارتفع العدد الفعلي للمساجد بشكل كبير، حيث تضاعف من 1209 إلى 2769 مسجدًا منذ عام 2000.
تأثير سياسي
لا يمثل المسلمون سوى حوالي 1% من سكان أمريكا، ومع ذلك يجدون أنفسهم اليوم يلعبون دورًا عامًّا متزايد الأهمية. على سبيل المثال، اثنان من أبرز أعضاء الكونغرس هما أول عضوتين مسلمتين في الكونغرس في تاريخ أميركا، إلهان عمر ورشيدة طليب. ومثل الأمريكيين من أصل أفريقي واليهود، ينتمي المسلمون إلى الحزب الديمقراطي بشكل غير متناسب.
وجد استطلاع للرأي أن 39% من المسلمين كانوا يفضلون المرشح بيرني ساندرز أكثر من جو بايدن في السباق الرئاسي في 2020، حيث أيّدت الغالبية العظمى من المسلمين الحاضرين ساندرز، وحتى مع بدء تضاؤل فرصه، تلقّى ساندرز تدفقًا من التأييد والدعم البديل من مجتمع المسلمين في ميشيغان.
بعد الحادي عشر من سبتمبر، أدّت سياسات الحزب الجمهوري الخارجية إلى توجه المسلمين الأمريكيين نحو الحزب الديمقراطي، خاصة مع سياسات الديمقراطيين الداخلية في التحالف مع المجاميع التقدمية اليسارية والسود والمسلمين.
وجد معهد السياسة الاجتماعية والتفاهم في استطلاع رأي في 2019، أن “83% من المسلمين الذين تبلغ أعمارهم 50 عامًا أو أكثر، يصوّتون للديمقراطيين على النقيض من 44% من أقرانهم من نفس الجيل في عامة الناس”.
فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، تمثل القضية الفلسطينية نقطة التوافق الأكبر بين المسلمين في الولايات المتحدة، فالمسلمون الأمريكيون يؤيدون بأغلبية ساحقة الحقوق الفلسطينية، ويعارضون السياسات القمعية التي تنتهجها “إسرائيل” في الأراضي المحتلة، حتى مع اختلافهم حول ما إذا كانت التسوية ينبغي أن تشمل دولة واحدة أو دولتين.
وعلى مدى عقود من الزمان، كان التأييد المطلق لفلسطين يشكل عبئًا على كلا الحزبين. ولكن هذا لم يعد الحال. فقد أصبح الأمريكيون الأصغر سنًا، بما في ذلك اليهود الأمريكيون، يشعرون بعدم الارتياح على نحو متزايد إزاء معاملة “إسرائيل” للأمريكيين من أصل فلسطيني.
وصار الديمقراطيون على وجه الخصوص بحدّ كبير أكثر انتقادًا لـ”إسرائيل”، وفقًا لاستطلاعات الرأي التي أجرتها جامعة ماريلاند. وفي الممارسة العملية، يعني هذا أن وجهات نظر المسلمين الأمريكيين “المناهضة للمؤسسة” عمومًا بشأن “إسرائيل” وفلسطين لم تعد شاذة.
مع توجه ترامب بالجمهوريين نحو اليمين بشكل غير مسبوق في قضايا “إسرائيل” وفلسطين، أصبح موقف المرشحين الديمقراطيين بشأن هذا الصراع اختبارًا حاسمًا لمدى استعدادهم للابتعاد عن السياسات السابقة التي لم تحقق نجاحًا.
مثّل الصوت المسلم في الولايات المتحدة حجر عبور نحو تطبيع وفهم وحتى تساهُل أكثر مع انتقاد ما لم يكن من الممكن انتقاده حول “إسرائيل” في الولايات المتحدة، فمثلًا انتقدت النائبة الديمقراطية المسلمة إلهان عمر الجرائم التي ارتكبتها “إسرائيل” خلال القصف على قطاع غزة عام 2021، وصحيح أنها واجهت انتقادات من بعض الديمقراطيين أنفسهم، لكن الأمر لم يؤدِّ إلى تبعات كبيرة على الصعيد السياسي، بل واجهت تأييدًا من يهود ديمقراطيين في الوقت نفسه.
ورغم أن الوقت مبكّر على حكم أداء المسلمين السياسي خلال “طوفان الأقصى”، لكن النشاط الشعبي المسلم واضح في قيادة التظاهرات غير المسبوقة ضد الإبادة الجماعية لسكان غزة في الولايات المتحدة.
لنتذكر أننا نتحدث عن أمريكا، البُعد الاستراتيجي الإسرائيلي والذي لن تستطيع البقاء ولو لساعة في الشرق الأوسط من دونه، ونتحدث عن قضية “إسرائيل”، الملف الذي ظلَّ محاطًا بالكثير من الخطوط الحمراء التي تمنع الاقتراب منه ولو همسًا.
لا شك أن المسلمين ليسوا وحدهم من يقوم بالاحتجاجات، لكن الحراك الإسلامي فيه واضح، وبالتالي أدّى هذا الحراك إلى كسر حاجز كان يمنع حتى الأمريكيين من الحديث عنه.