بعد تشديد حلقات حصارها “السياسي والاقتصادي والاجتماعي” على قطاع غزة منذ أكثر من 12 عامًا، بدأت حكومة الاحتلال الإسرائيلي، استخدام حلقة جديدة أشد قسوة وأكثر تأثيرًا لخنق سكان غزة، لتزيد من معاناتهم وآلامهم وتقضي بها على متنفسهم الوحيد المتبقي للأبد.
الخميس الماضي سقطت عشرة صواريخ من طائرة إسرائيلية فوق آخر متنفس ثقافي لسكان غزة “مركز المسحال الثقافي” لتسويه بالأرض وتبعثر أحلام مثقفي غزة كرماده الذي تناثر في كل مكان، وأصبح مسرحه الشهير الذي كانت تعرض على خشباته الأعمال الفنية والأدبية المنوعة، مسرح جريمة شاهد على غطرسة الاحتلال وقتله للثقافة الفلسطينية.
حرب “إسرائيل” على الثقافة والمراكز التي تدعمها وتطعمها لشباب وأطفال غزة لم تتوقف عند تدمير “مركز المسحال الثقافي” في غزة، فقبل أسابيع قليلة قصف الاحتلال قرية الفنون والحرف غربي مدينة غزة، ودمرها بالكامل، وفي عدوان 2008-2009 على غزة، قُصف المسرح الخاص بجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني بقنابل حارقة تحول حينها إلى كومة من الرماد، الأمر الذي يثير الشكوك والقلق بشأن أسباب استهداف الأماكن الثقافية وتدميرها بالكامل.
حرب الثقافة والوجود
يقول الأمين العام للاتحاد العام للكتّاب والأدباء الفلسطينيين نافذ الرفاعي إن “حرب الاحتلال الممنهجة والمتعمدة على الثقافة ومراكزها في غزة، عدوان ويشكل حلقة جديدة في مسلسل طويل من الاعتداءات التي استهدفت تاريخيًا كوكبة من رموزنا الثقافية ومراكزنا البحثية ومؤسساتنا الإعلامية”.
“الاحتلال دمر المؤسسة لأنه يكره وجود مراكز تثقيفية وتنويرية في مجتمعنا، ويحاول تصوير الفلسطيني على أنه بعيد عن الحضارة والثقافة”
ويؤكد الرفاعي: “رغم مما تتعرض له مؤسساتنا من قصف وتدمير ستظل ثقافتنا قادرة على الصمود والاستمرار والإنتاج والإبداع، مستمدة قوتها من قضية عادلة ومن تصميم فريق ثقافي إبداعي عضوي على التشبث برسالته الوطنية والقومية والإنسانية الكونية والانتصار لأعدل قضية على هذا الكوكب”. ودعا الرفاعي باسم الكتاب والأدباء الفلسطينيين، اتحادات الكتاب والمؤسسات الثقافية العالمية إلى إعلاء الصوت استنكارًا وإدانةً لهذا العدوان السافر.
في حين قال الشاعر سليم النفار المستشار الثقافي لمؤسسة “المسحال” إن “الاحتلال دمر المؤسسة لأنه يكره وجود مراكز تثقيفية وتنويرية في مجتمعنا، ويحاول تصوير الفلسطيني على أنه بعيد عن الحضارة والثقافة”، وأضاف “المثقفون والفرق الفنية التي ليس لديها قدرة مالية، عادة ما تلجأ إلى مؤسسة المسحال لأنها كانت تتقاضى أجرًا شبه رمزي”.
وهذا ما أكده منسق الفنون الاستعراضية في فرقة “العنقاء” للفنون محمد قلجة، التي قدمت عرضًا غنائيًا فوق الركام، مشيرًا إلى أن “المسحال” استضافت الفرقة في بداياتها بأجر زهيد مقابل يومين أو ثلاثة أسبوعيًا حتى استطاعت الفرقة أن تتحمل نفقاتها”، وأضاف قلجة أن 210 أطفال تخرجوا من دورات الفنون الاستعراضية، وهناك فرقة من 75 طفلاً وطفلةً يتلقون التدريب الآن، لكن ذلك توقف إلى أن تجد الفرقة مكانًا مناسبًا كالمسحال.
ويلجأ شباب غزة إلى قاعة المسحال لشراء ساعات من الفرح والترويح عن النفس، خاصة لمشاهدة العروض الفيلمية والحفلات الغنائية والمشاركة في الأنشطة الثقافية.
في 14 من يناير 2004، افتُتح مبنى جديد للمؤسسة قرب دوار أبو حصيرة غرب غزة، يحتوي على مسرح وقاعة مؤتمرات ومكتبة إلكترونية وتقليدية ومركز للدراسات والأبحاث وقاعات معارض للفنون التشكيلية ومختبرات حاسوب
“سعيد المسحال للثقافة والعلوم” مؤسسة ثقافية فلسطينية تأسست عام 1996 في غزة، بتمويل خاص من رجل الأعمال الذي تحمل اسمه، وتعمل المؤسسة على نشر الوعي الثقافي والعِلمي، وتقدم نشاطات وخدمات متنوعة للجميع، في 14 من يناير 2004، افتُتح مبنى جديد للمؤسسة قرب دوار أبو حصيرة غرب غزة، يحتوي على مسرح وقاعة مؤتمرات ومكتبة إلكترونية وتقليدية ومركز للدراسات والأبحاث وقاعات معارض للفنون التشكيلية ومختبرات حاسوب.
منبع الحضارة
من جانبه قال المخرج المسرحي جمال أبو القمصان إنه كان من المفترض أن يكمل “بروفاته” لمسرحيته الجديدة “بيرضيكوا هيك؟” المقرر عرضها الأسبوع القادم، لكن الديكور والملابس وكل ما يتعلق بالمسرحية تم تدميره ودُفن تحت الركام.
وعبر أبو القمصان، عن استغرابه من استهداف مؤسسة ثقافية، قائلاً: “أعرف المبنى شبرًا شبرًا، لا شيء بعيد عن العمل الثقافي سوى مكتب لتنظيم سفر حملة الهوية المصرية من غزة”، لكنه لفت إلى أن التفسير الوحيد لتدمير المؤسسة، حسب اعتقاده، “الرغبة بتدمير أي رمز ثقافي أو أي منبع حضاري، وترك المجال لصُنّاع الجهل، “لدعشنة” غزة وإظهارها بثوب طالبان”.
أكد الكاتب والمحلل السياسي الدكتور صادق أمين، أن استهداف المبنى الثقافي يمثل تطورًا من جانب الاحتلال الإسرائيلي، مشيرًا في الوقت نفسه إلى أنه يحمل عدة رسائل، منها وجود تحفظ إسرائيلي على الدور المصري في غزة والقضية الفلسطينية عمومًا
وفي تعليقها على الاستهداف، قالت مؤسسة “المسحال” إن “العدوان الإسرائيلي الهمجي الذي استهدف المؤسسة هو استهداف للثقافة الوطنية التنويرية، وتأكيد على همجية المحتل وكراهيته للتنوير والتثوير الثقافي الحضاري”، وأضافت: “كانت وما زالت مؤسسة سعيد المسحال مركزًا مهمًا، وهذا ما يثير إفرازات الغدد العدائية عند المحتل الذي يدعي بأنه الوحيد في المنطقة الذي يمتلك مقومات الفعل الحضاري الإنساني”.
وأكدت المؤسسة على أنه بالرغم من الاستهداف المبكر للمؤسسة، فإنها بقيت مركز إشعاع تنويري ثقافي وطني بامتياز، وهذا ما أثار العدو وحرك غرائز العدوان لديه، وأوضحت أن “المؤسسة على مدار سنوات تشكل حاضنة للعمل الثقافي؛ حيث احتضنت الفعاليات الشبابية الثقافية المختلفة، وشكلت حاضنة للفرح الفلسطيني في قطاع غزة”.
بدوره أكد الكاتب والمحلل السياسي الدكتور صادق أمين، أن استهداف المبنى الثقافي يمثل تطورًا من جانب الاحتلال الإسرائيلي، مشيرًا في الوقت نفسه إلى أنه يحمل عدة رسائل منها وجود تحفظ إسرائيلي على الدور المصري في غزة والقضية الفلسطينية عمومًا.
وقال أمين إن “الاحتلال الإسرائيلي يستخدم القوة النارية لإرهاب الفلسطينيين، ولا يفرق بين هدف مدني وعسكري، وهو يشعر بالتحفظ من الدور المصري، فيحاول الالتفاف عليه بمثل هذا القصف العدواني”. حيث سمحت مصر في الآونة الأخيرة بتزويد قطاع غزة بالعديد من أصناف البضائع التي منعت “إسرائيل” إدخالها عبر معبر كرم أبو سالم، ما أنقذ القطاع من الانهيار الشامل، خاصة فيما يتعلق بالوقود والغاز.