أدت حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة إلى تفاقم الأوضاع الإنسانية بشكل غير مسبوق، حيث بات الجوع أحد أدوات الضغط التي تستخدمها السلطات الإسرائيلية، ومن خلال التحكم في كمية المساعدات الغذائية التي تصل إلى داخل القطاع، تحاول إسرائيل التأثير على الوضع الداخلي في غزة، مع تعزيز نفوذها وتحقيق أهداف سياسية ضمن استراتيجياتها لمرحلة ما بعد الحرب.
وفي إطار سعي الاحتلال الإسرائيلي للحصول على حد أدنى من الشرعية السياسية لحربه على قطاع غزة على الساحة الدولية، واستمراريتها لأطول فترة ممكنة، استحدثت “إسرائيل” في أواخر أغسطس منصبًا جديدًا تحت اسم “رئيس الجهود الإنسانية-المدنية في قطاع غزة”، بهدف الإشراف على إدارة الشؤون الإنسانية وتنسيق القضايا المدنية في القطاع، واستخدمت وصف “ضابط غزة الرئيسي” ضمن شرحها لمهامه المتعلقة بإدارة شؤون مليوني فلسطيني يعيشون تحت الحصار.
أثارت هذه التطورات موجة من القلق والتوقعات المتشائمة في أوساط الشارع الفلسطيني في غزة، حيث سادت مخاوف من استمرار الاحتلال الإسرائيلي بفرض سيطرته على القطاع لسنوات قادمة، عبر إحكام قبضته العسكرية والاقتصادية، كما ارتبط تعيين “رئيس الجهود الإنسانية-المدنية” باحتمالات تقسيم القطاع جغرافيًا وعزل مناطقه المختلفة من خلال وجود عسكري دائم في بعض المناطق الحيوية، مثل الشريط الحدودي ومحوري نيتساريم وفيلادفيا.
منظومة عمل الكيان
ولتفكيك المشهد القائم واستقرائه، يتوجّب فهم منظومة عمل دولة الكيان في إدارة مسؤولياتها داخل الأراضي الفلسطينية، بوصفها “القوة القائمة بالاحتلال” في القانون الدولي الإنساني، والتي تعهد إليها مهام ومسؤوليات تدبير الظروف المعيشية للشعب الواقع تحت الاحتلال، وهي كما يلي:
أولًا الجهة التنفيذية لمسؤوليات الاحتلال تجاه الفلسطينيين، حيثتخضع السلطة التنفيذية لتولي الشؤون الفلسطينية لدى دولة الاحتلال بشكل كامل لمؤسسة الجيش، عبر وحدة يطلق عليها “وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق“، والتي تعرّف نفسها رسميًا بأنها الهيئة المكلفة بتطبيق سياسة الحكومة في أراضي الضفة الغربية وغزة، وتتولى تنسيق جميع النشاطات المدنية إضافة إلى مسؤولية العمل على تحسين الظروف الحياتية لعموم السكان في المناطق، إذ تتبع الوحدة لوزير جيش الاحتلال، ويترأّسها المنسق برتبة ميجر جنرال (لواء)، وهو عضو في هيئة الأركان التابعة لجيش الاحتلال.
وثانيًا دور مديرية التنسيق في غزة قبل الحرب، وتعمل هذه الهيئة منذ قبل الحرب بسنوات وفق آلية مقنَّنة في قطاع غزة مقارنة بدورها في الضفة الغربية، نظرًا إلى اختلاف شكل الاحتلال الإسرائيلي للمنطقتَين، إذ يدير مهام الهيئة في الضفة “رئيس الإدارة المدنية” برتبة عميد، في حين يطلق على نظيره في قطاع غزة “قائد مديرية التنسيق والارتباط” ويحمل رتبة عسكرية أقل درجة (عقيد).
كانت المديرية مسؤولة عن التحكم في معابر قطاع غزة وموارد إمداداته من الكهرباء والمياه، وكذلك تحديد حجم الصادرات من القطاع إلى الخارج، كما منعت دخول العديد من المواد التي تصنف بأنها ذات استخدام مزدوج، مدني وعسكري.
وتولت المديرية أيضًا تقييد دخول مواد إعادة الإعمار والتحكم في وتيرة إنجازها بعد الحروب الثلاث التي شهدتها غزة، إضافة إلى ذلك، مارست ضغوطًا من خلال الابتزاز بتصاريح السفر، مما أثر على حركة التجار والمرضى عبر معبر إيرز إلى الضفة الغربية، كما أدارت ملف العمال الغزيين في الداخل المحتل.
وفي المجمل، كانت هذه المديرية هي الجهة المسؤولة عن تنفيذ الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة منذ عام 2006.
أما ثالثًا مديرية التنسيق في أحداث حرب غزة، حيث اضطلعت منذ بداية الحرب في ممارسة دورها في حرب الإبادة، إذ توعّدت علنًا في أولى أيام الحرب بفتح “أبواب جهنم” على القطاع، وقطعت كل إمدادات الغذاء والدواء والوقود والكهرباء والمياه في الأسابيع الأولى، ثم تولت مسؤولية عرقلة وصول كميات كبيرة من المساعدات عبر اتّباعها إجراءات بالغة التعقيد، بهدف تضييق الخناق بأقسى شكل ممكن، إلى جانب توليها مسؤولية إصدار أوامر الإخلاء من مناطق القطاع.
خطط متلاحقة الفشل
فشلت خطط جيش الاحتلال في وضع آلية واضحة ومنظمة لتوزيع المساعدات الإنسانية في قطاع غزة. ففي بعض الأحيان، استهدف النشطاء المسؤولين عن تأمين الشاحنات بالقصف، بينما تركتهم في أحيان أخرى، كما قلصت سلطات الاحتلال دور وكالة الغوث الدولية (الأونروا) خلال بعض الأسابيع، محاولين استبدالها بزيادة الدور الإماراتي شمال القطاع، ومع ذلك، عادت سلطات الاحتلال في الأسابيع الأخيرة للاعتماد على وكالة الأونروا كجهة رئيسية لتوزيع المساعدات، على قاعدة “أخف الأضرار”.
أدى هذا التخبط إلى خلق حالة من الفوضى في ملف المساعدات، الأمر الذي دفع في بعض الأحيان الإدارة الأمريكية إلى مطالبة حكومة الاحتلال بالتوقف عن استهداف أفراد الشرطة المدنية في حكومة حماس، تجنبًا لسيناريو الفوضى المطلقة التي ستنفجر في وجه الاحتلال مجددًا بأشكال مختلفة، ولا تقلّ كلفة عن الاشتباك العسكري المباشر المنظَّم.
فلم تتمكن مديرية التنسيق إجمالًا من تطبيق تصور حكومة نتنياهو بالخصوص في ظل محاولاتها المستميتة لإقصاء دور منظومة حماس الحكومية، وتصفية دور ونشاط وكالة الأونروا، ما جعل إجراءات الاحتلال على الأرض في هذا الملف أبطأ وأكثر تخبطًا دونًا عن بقية الملفات الأخرى كنتيجة مباشرة لتحميل هذا الملف، ما لا يحتمل بمحاولات ربطه في شكل اليوم التالي للحرب.
في مقال “لماذا لا تتصدى حماس لمحاولات تجاوز حكمها في غزة” للباحث السياسي أحمد الطناني يرى أن محاولات الاحتلال للوصول إلى صيغة محلية تحكم القطاع بالتعاون معه، تصطدم بالحواجز التي وضعها بنيامين نتنياهو، ويريد فيها “فلسطينيين جددًا” ينسجمون مع رؤيته القادمة، وأن الاحتلال فشل حتى الآن في خطط “العشائر” و”الفقاعات الإنسانية” وغيرها من الأفكار، كنتيجة لاقتناع المجتمع في قطاع غزة بأن السلطة القائمة فيه ما زالت متماسكة وقوية.
وبالتالي، حتى يمكن البحث عن متعاونين محليين لإنجاز ترتيبات محلية جديدة، يحتاج الاحتلال إلى تقديم نماذج حول نجاح فكرة تجاوز السلطات الحكومية الحالية، وهو ما مهّد لفكرة استحداث منصب “رئيس الجهود الإنسانية-المدنية في قطاع غزة” الجديد.
أداة حرب بثوب إنساني
بناءً على ما سبق، كان لجيش الاحتلال، من خلال وحدة تنسيق الأعمال، الدور الرئيسي في فرض الحصار والتحكم في مستوياته قبل الحرب وأثناءها، ومن المتوقع أن يستمر في ذلك بعدها، حيث استخدم الجيش الوسائل “الإنسانية” أبشع استخدام في حربه ضد الشعب الفلسطيني على مدار العقود الماضية.
إلا أن استحداث الاحتلال للمنصب (الضابط الجديد توازي رتبته العسكرية رئيس الإدارة المدنية في الضفة) يمكن اعتباره بأنه وصفة جديدة لإدارة أكثر الملفات التي يواجه جيش الاحتلال صعوبة في تطبيقها، في ظل طموحه لاستثمارها كحصان طروادة لتقوية الجهة التي يريدها مسيطرة على القطاع في اليوم التالي للحرب، إلا أنها لا تعني بأي شكل الحكم الإسرائيلي المباشر للقطاع، أو حسم قيادة الاحتلال لخياراتها فيما يتعلق بشكل الحكم في القطاع بعد انتهاء الحرب.
ويترتب عن هذا التعيين بعض التغييرات الحياتية في حجم وطبيعة المواد والمساعدات والبضائع التي تدخل القطاع جنوبًا وشمالًا في خضمّ الحرب، دون إحداث طفرة إيجابية بالخصوص، بحيث “تبقي الرأس فوق مستوى الغرق” في وصفة لتحسين صورة “إسرائيل” وموقفها القانوني أمام محكمة العدل -لا سيما بعد اكتشاف أول حالة لفيروس شلل الأطفال-، وتمكينها من إطالة حربها لأطول فترة ممكنة وبالحدّ الأدنى حتى نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الجاري، ارتباطًا بنتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
وهنا تجدر الإشارة والتذكير بالأجواء والتوقعات المتشائمة غزّيًا التي رافقت مشروع تدشين الميناء الأمريكي المؤقت مطلع العام الجاري، وربطته بملفّ سرقة الغاز والتهجير إلى خارج القطاع.
وبصرف النظر عن الأهداف الخفية لذلك المشروع الفاشل، إلا أن كاتبي الخطط على الورق الاستعماري لا يزالون في برجهم العاجي يفكرون لغزة ويخططون لها، بذات العقل والأدوات الفاشلة في قراءة الواقع الفلسطيني وفهم حقيقته، ذلك العقل الذي تهاوى وسقط استراتيجيًا في يوم السابع من أكتوبر، يوم تقديره أن أكبر طموح للمقاومة تحسين ظروف غزة الاقتصادية والمعيشية. ولا يزال ذلك العقل غارقًا في تلك الأوهام يوم قرر محاربة “فكرة” المقاومة بـ”السيوف الحديدية”.