مصائب قوم عند قوم فوائد.. جسدت هذه المقولة واقع التعامل الإماراتي مع التوتر غير المسبوق في العلاقات بين السعودية وكندا، إثر الخلاف الدبلوماسي بين الدولتين الإثنين الماضي، عقب انتقاد أوتاوا لاعتقال نشطاء حقوقيين في المملكة وحثها على الإفراج عنهم فورًا، وهو ما اعتبرته الرياض “تدخلًا سافرًا في شؤون المملكة”، وردت عليه بطرد السفير الكندي لديها واستدعاء سفيرها لدى أوتاوا.
موقع “إمارات ليكس” المتخصص في نشر تسريبات عن حكومة أبو ظبي، نشر أمس السبت أنه حصل على معلومات تفيد بأن الأخيرة تتدخل بشكل سري في الأزمة السعودية الكندية، ففي تغريدة له على “تويتر” نقل عن مصادر خاصة به تدخل أبو ظبي في مسارات الأزمة من الأبواب الخلفية “بهدف تحويل عقد التسليح بين كندا والسعودية لصالحها، تحت مبرر خدمة أهداف التحالف في اليمن”.
وليست هذه المرة الأولى التي تلعب الإمارات لخدمة أهدافها الإقليمية التوسعية بعيدًا عن مساراتها السياسية المعلنة مع حليفتها السعودية، وهو ما زاد خلال الفترة الأخيرة من تصاعد وتيرة الخلاف بين الدولتين حيال العديد من الملفات، لتكشف أبو ظبي مع كل حدث أهدافها الحقيقية وراء تدخلها في القضايا الإقليمية الراهنة بعيدًا عما يتم العزف عليه إعلاميًا، وهو ما تكشفه التقارير المسربة تباعًا ما بين الحين والآخر.
مصادر خاصة "لامارات ليكس" : الامارات تتدخل بشكل سري لاستغلال أزمة السعودية وكندا بهدف تحويل عقد التسليح بين كندا والسعودية لصالحها، تحت مبرر خدمة اهداف التحالف في اليمن#امارات_ليكس#عيال_زايد#خيانة_الامارات#مرتزقة_الامارات pic.twitter.com/DzJhxU8vTr
— Emarat (@emarat2019) August 11, 2018
صفقة المدرعات
في 13 من أبريل/نيسان 2016 دخلت صفقة الأسلحة الكندية السعودية التي تبلغ قيمتها 15 مليار دولار حيز التنفيذ، إثر موافقة الحكومة الكندية على تصدير أكثر من 70% من الصفقة المذكورة بعد عامين من توقيعها، وسط جدل وانقسام كندي بشأنها.
صحيفة “the globe and mail” كشفت حينها أن قرار الموافقة على إتمام الصفقة الخاصة بتصدير عربات مدرعة خفيفة بالإضافة إلى قطع الغيار ومنظومات الأسلحة المرتبطة بها، حيث سيتم تجهيز تلك المدرعات بالأسلحة الرشاشة والأسلحة المضادة للدبابات، يعد الأكثر حيوية فيما يخص توجه الحكومة نحو الحد من التسلح، في ظل تصريحات متواترة من مسؤولي الحكومة الحاليّة عن عدم قدرتهم على التدخل في الاتفاقات التي عقدتها بالفعل حكومة رئيس الوزراء الكندي السابق ستيفين هاربر.
الصفقة أثارت حفيظة الكثير من السياسيين والحقوقيين داخل كندا وخارجها، على رأسهم وزير الخارجية ستيفان ديون بسبب ما أسماه “وجود انتهاكات لحقوق الإنسان” في السعودية، فضلًا عن الخروقات الممارسة من قوات التحالف في اليمن، وهو المبرر الذي ساقته الرياض لإتمام الصفقة بحجة دعم حربها ضد الحوثيين.
ظلت أزمة اليمن منذ بداية التدخل العسكري لقوات التحالف أكبر دليل على أطماع الإمارات وكشفت نواياها الحقيقية من وراء مشاركاتها في التحالف
وقارن حقوقيون بين توقيت إبرام الصفقة ورفض كندا التوقيع على معاهدة تجارة الأسلحة التي دخلت حيز التنفيذ في ديسمبر/كانون الأول 2014، واعتبر كثيرون أن كندا هي البلد الوحيد من أعضاء حلف شمال الأطلسي (الناتو) ومجموعة (جي7) التي لم توقع على المعاهدة بسبب أنها عقدت صفقة مع الرياض وربما وقعت صفقات أخرى لا تزال قيد السرية.
ظلت هذه الصفقة أسيرة اهتمام وأنظار الإماراتيين لفترة طويلة خاصة أنها تزيد من مستوى التسليح السعودي مقارنة بالإمارات، غير أن الظروف حينها لم تكن مواتية للدخول في منافسة حقيقية للفوز بها، لكن الأزمة الأخيرة التي نشبت بين كندا والسعودية ربما كانت الغطاء الكاشف لنوايا أبو ظبي الحقيقية التي لم تأخد وقتًا طويلًا حتى تخرج للعلن في محاولة لتحويل مسار الصفقة بحجة الحرب ضد الحوثيين، وهو ما يعيد إلى الأذهان مجددًا الخلاف بين الحليفين في اليمن الذي كشف أطماع أبناء زايد ودوافعهم الحقيقية من وراء التدخل العسكري في 2015.
السعودية والإمارات.. نار تحت الرماد
التقارب الشديد بين الإمارات والسعودية خلال السنوات الأخيرة لا ينكر وجود نار تحت الرماد خلفتها موروثات تاريخية تعود إلى فترة الاحتلال البريطاني، حيث طالبت السعودية بواحات البريمي التابعة لإمارة أبو ظبي في أثناء وقوعها تحت الحماية البريطانية، وورثت الدولة الإماراتية الوليدة كل التركة الجيوسياسية المعقدة من الاحتلال البريطاني، ومن ضمنها الشعور الدائم بالتهديد من الجارتين الشرهتين للتوسع: إيران والسعودية.
الإمارات في بداية الأمر شعرت بالخطر السعودي في بقائها ما دفع حاكمي أبو ظبي ودبي إلى عرض تحمل نفقات القوات البريطانية في الإمارتين مقابل بقائها، ولكن بريطانيا رفضت هذا العرض وسحبت قواتها، واضطر الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان إلى الرضوخ لمطالب السعودية آنذاك.
ومنذ 1980 وحتى 2011 شهدت العلاقات السعودية الإماراتية موجات من الشد والجذب، غير أن الأخطار المشتركة التي جابهتها البلدان خلال هذه الفترة كانت سببًا مؤقتًا لتوحيد الصف في مواجهتها، ورغم التطور النسبي في العلاقات الاقتصادية بين البلدين بعد تأسيس مجلس التعاون الخليجي؛ فقد ظلت المعادلة بينهما على حالها بكل إشكالياتها التاريخية التي تُثار أحيانًا.
السيطرة على موانئ البحر الأحمر أبرز أهداف الإمارات من تدخلها العسكري في اليمن
اليمن.. نقطة الخلاف
ظلت أزمة اليمن منذ بداية التدخل العسكري لقوات التحالف أكبر دليل على أطماع الإمارات وكشفت نواياها الحقيقية من وراء مشاركاتها في التحالف، بعيدًا عن الأهداف المعلنة رسميًا بالقضاء على الحوثيين ومناهضة النفوذ الإيراني هناك.
الإستراتيجية الإماراتية في اليمن التي تعتمد على لعب الدور الرئيسي في بعض الأحيان بدأت تمس المصالح السعودية تدريجيًا، إلى الحد الذي وصل إلى زيادة منسوب التوتر وتصاعد الخلاف بينهما خاصة فيما يتعلق بالوضع في شريط البحر الأحمر الذي تسعى أبو ظبي لفرض كامل سيطرتها عليه.
ويمكن تحديد ميادين الصراع بين البلدين داخل اليمن من خلال محورين رئيسيين، الأول: محاولة كل دولة بسط نفوذها البحري على البحر الأحمر، فالسعودية – تاريخيًا – ترى أنها المخوَّل الوحيد في شبه الجزيرة باحتكار هذا الشريط الساحلي، وقد كانت للملك عبد العزيز مطامع في ميناء الحُديدة اليمني، وحاول ضمه لدولته في الثلاثينيات ولكنه فشل في ذلك.
تكشف التسريبات الأخيرة أن الإمارات تبدو مصممة على المضي بإستراتيجيتها الواضحة في توسيع دائرة نفوذها حتى لو كان ذلك على حساب حلفائها
لم تكتف السعودية بمحاولاتها الفاشلة لإتمام السيطرة على هذه المنطقة الحيوية، إذ دعمت كلاً من الصومال في حربها على إثيوبيا وكذلك إريتريا، لوقف تمدد الشيوعيين وبسط نفوذهم في البحر الأحمر بعد تمكنهم من السلطة في أديس أبابا، وتشير بعض الدراسات التاريخية إلى أن إقامة مؤتمر تعز عام 1977 – الخاص بأمن البحر الأحمر- كان أحد الأسباب التي دفعت السعودية لمعاداة نظام إبراهيم الحمدي في اليمن الشمالي.
ومع نشوب الحرب في اليمن سعت المملكة إلى البحث عن شريك مالي في ظل تعدد الجبهات القتالية السعودية التي أرهقت ميزانيتها بصورة كبيرة، وهنا كانت بوابة الإمارات لإشباع طموحها العسكري والإستراتيجي الجديد، للسيطرة على الطريق البحري الناقل لنفط الخليج من مضيق هُرمز، أي بحر العرب والبحر الأحمر.
وخلال العامين الأخيرين فقط، وبينما تسعى المملكة إلى القضاء على الحوثيين، كان للإماراتيين أهداف أخرى، حيث استطاعوا أن يجدوا لهم موضع قدم في كل من إريتريا والصومال، وتوصلت أبو ظبي إلى تفاهمات مع الدولتين لبناء قواعد عسكرية وتحديث وإدارة بعض موانئها، وهناك تواصل وتفاهمات واضحة بين الإمارات و”إسرائيل”، كما تسيطر حاليًّا على ميناء عدن وميناء المخا اليمنيين.
أطماع أبناء زايد في اليمن أثارت حفيظة السعوديين بصورة كبيرة، إذ إن سيطرة الإمارات على محافظة حضرموت اليمنية وميناء المكلا على بحر العرب يعني بسط كامل هيمنتها على الخط البحري لنقل نفط الخليج أولًا، بجانب خنق السعودية والخليج مستقبلًا، فضخ النفط عبر الأنابيب من الخليج إلى ميناء المُكلا كان أحد البدائل المطروحة لنقل نفط الخليج عوضًا عن مضيق هرمز بعد التهديدات الإيرانية بغلقه عام 2011.
أما المحور الثاني فيتعلق بالموقف من إيران، إذ أنه لا خلاف بين الإمارات والسعودية في أن طهران تشكّل تهديدًا للخليج، لكن الواقع يقول عكس ذلك تمامًا، وهو ما يعمق التوتر بين الحليفين، فالإمارات بسبب عواملها الديموغرافيّة والجغرافيّة وللخلاف التاريخي مع السعودية، لا تذهب في صراعها مع إيران إلى نقطة اللاعودة، بل تتبنى سياسات مختلفة تجاهها وتستفيد منها اقتصاديًا وسياسيًا، وهو ما تكشفه الأرقام الخاصة بحجم التبادل التجاري بين البلدين والتنسيق السياسي في كثير من الأحيان.
وفي المجمل تكشف التسريبات الأخيرة أن الإمارات تبدو مصممة على المضي بإستراتيجيتها الواضحة في توسيع دائرة نفوذها حتى لو كان ذلك على حساب حلفائها، وهي السياسة التي اعتمدها أبناء زايد خلال السنوات الأخيرة في محاولة لتفعيل دورهم الإقليمي وسحب البساط من تحت القوى التقليدية التاريخية في المنطقة على رأسها مصر والسعودية.