لطالما كانت السينما هي الوسيلة الدقيقة التي تستطيع الحديث عن الحياة والزمن بكافة تفاصيلهما بطريقة واقعية وكأنّ المشاهدين هم أبطالها أو أنهم يعيشون جزءًا منها بطريقةٍ أو بأخرى. وفيلم “4 شهور و3 أسابيع ويومان” أو “4 Months, 3 Weeks, and 2 Days” هو أحد الأفلام البارعة التي قامت بتصوير الحقبة الشيوعية المبتذلة والقمعية، في دول أوروبا خلال أواخر القرن الماضي، بصورةٍ دقيقة وحيّة دون أيّ تكلّف أو ابتذال.
تدور أحداث الفيلم المثير في رومانيا، عام 1987، أي قبل عامين فقط من إعدام نيكولاي تشاوشيسكو، رئيس جمهورية رومانيا الاشتراكية من عام 1967 حتى محاكمته وإعدامه عام 1989، وبعد 20 عامًا من حظر الإجهاض في رومانيا من قبل النظام لزيادة عدد المواليد والسكّان. تلك الحقبة التي تبدو بعيدةً جدًا وقريبةً جدًا في نفس الآن، حوت العديد من الأوضاع المتدهورة والسياسات التعسفية بحقّ الأفراد والجماعات الأوروبية.
وعلى عكس الأفلام الأخرى التي ركزت على تلك الحقبة، السياسية منها والإنسانية، ففيلم كريستيان مونجيو هذا لم يكن سهلًا أبدًا، ولم يتناول الموضوع من زاوية سلسة أو بشكلٍ خفيف. هو كابوسٌ واقعيّ استطاع بمقدرةٍ فذة جعل المشاهدين يعيشون تلك التجربة المروعة التي حدثت قبل سنواتٍ عديدة وكأنها تحدث الآن في وقتهم الحقيقي.
تريلر الفيلم
أوتيليا وغابيتا طالبتان جامعيّتان في أوائل العشرينات من العمر تشتركان في غرفةٍ صغيرة في إحدى السكنات الجامعية. وفي حين أنّنا نسمع في المشهد الافتتاحيّ للفيلم أنّ “أوتيليا” قد وافقت صديقتها “غابيتا” على أمرٍ ما وباشرتا بالتحضير له، إلا أنّنا وحتى منتصف الفيلم تقريبًا نبدأ نعي حقيقة الأمر وماهيّته، ما يعكس الجو المتوتّر الذي يسود الفيلم، ويضاعف من الإحساس بالغموض والسرية اللذين يسيطران عليه.
أما محور القصة وقلبها فيدور حول محاولة غابيتا للتخلص من جنينها غير الشرعي، بعد 4 شهور وثلاثة أسابيع ويومين من تكوّنه. وبما أن الحكومة جرّمت الإجهاض وحدّدت السجن عقوبةً له؛ فثمة مغامرة خطرة ومريرة تنتظر الفتاتين في طريقهما لتحقيق ذلك بسرّية مطلقة، تمرّان خلالها بالعديد من المصاعب المادية والنفسية إضافةً للرعب الاجتماعي والسياسيّ الذي خلقه النظام الشيوعي.
أصبحت القسوة الخداع والكذب والانانية قيم مجتمعات رومانيا في حقبة الاشتراكية، كما أصبحت الوحدة والقلق والتوتر والقهر والغضب وانعدام الثقة والأمان هي مشاعرها وانفعالاتها التي تسيطر عليها وتستلبسها.
فضلًا عن تلك الأحداث والتفاصيل الصغيرة والمريرة التي واجهتها الفتاتان، فالفيلم بالأساس يسلّط الضوء على تركيبة إنسان المرحلة الشيوعية والوحدة والعزلة التي يحياها في ظلها. ففي حين أنّ القصة تتحدث عن معاناة غابريلا للتمكن من الإجهاض سرًا، إلا أنه في حقيقة الأمر يتناول بشكلٍ أوسع أفراد تلك المرحلة. وبما أنّ الشخصيات وقيمها هي انعكاس لمجتمعاتها، فتصبح القسوة الخداع والكذب والانانية قيم تلك المرحلة، كما تصبح الوحدة والقلق والتوتر والقهر والغضب وانعدام الثقة والأمان هي مشاعره وانفعالاته التي تسيطر عليه وتستلبسه. ووجه أوتيليا بكلّ ما يحمله من علامات البؤس والغضب هو ما ولّد تلك الانتفاضة التي غيّرت رومانيا والعالم بعد سنوات من الحكم الاشتراكيّ الشيوعي.
بطلتا الفيلم، أوتيليا وغابيتا، تتحدثان إلى الطبيب الذي سيجري عملية الإجهاض في غرفة أحد الفنادق البائسة
أوتيليا تجلس أمام سرير صديقتها بعد انتهاء عملية الإجهاض غير القانونية
لقد خلق مانجيو بفيلمه تحفة فنية ممزوجة باليأس المرير مع سلسلة من المشاهد التي تم صنعها بعناية وبراعة بدت فيها حقيقية تمامًا في إطارٍ سينمائيّ. كما يلتقط الفيلم ظلام العصر الشيوعي بدقة متناهية ليس فقط في مشاهده المؤثرة وأحداثه الواقعية، ولكن أيضًا في تصويره السينمائي المذهل؛ إذ كانت كل لقطة تقريبًا رمادية أو داكنة، باستثناء الصور السريرية البيضاء للمشاهد الطبية، ما جعله يستحق بكل جدارة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي ذلك العام. جديرٌ بالذكر أنّ مانجيو استلهم حكاية فيلمٍ من صديقه المقرّب الذي عاش جزءًا من القصة بطريقةٍ أو بأخرى بالفعل.
الإجهاض في رومانيا الشيوعية
جعل نيكولاي تشاوشيسكو، الديكتاتور الشيوعي الروماني الاستبدادي، التصنيع حجر الزاوية في سياسته الداخلية. ونظرًا لانخفاض عدد مواليد الدولة، ما يعني انخفاض أعداد الأيدي العاملة، طبّق تشاوشيسكو المرسوم رقم 770 الذي جعل الإجهاض جريمة يُعاقب عليها القانون بالسجن، وأمر بحظر تصنيع واستيراد موانع الحمل كليّا في البلاد. وفي وقت لاحق، أدخل قوانين أكثر عقابية من أجل زيادة الكثافة السكانية، فزادت الحكومة الضرائب على الرجال والنساء الذين ظلوا بلا أطفال بعد سن 25 سنة، ثم ألغى الطلاق قانونيًا، كما قدّمت الحكومة مكافآتٍ مالية للأمهات عند ولادة طفلهنّ الثالث، وخفّضت ضرائب الدخل على الأزواج الذين لديهم ثلاثة أطفال أو أكثر بنسبة 30 في المائة.
أدى قانون الإجهاض إلى زيادة عدد الأطفال غير المرغوب فيهم والذين تم طرح العديد منهم للتبني في دور الأيتام سيئة السمعة في رومانيا
ومع بداية الثمانينات، أصدرت الحكومة قانونًا يستدعي بإجراء فحوصات طبية شهرية إلزامية على جميع النساء في سن الإنجاب لاكتشاف ورصد حالات الحمل من عدمها. في البداية، ارتفع معدل المواليد بشكل كبير، ولكن سرعان ما تراجع مرة أخرى مع بدء النساء في اللجوء إلى عمليات الإجهاض الخطيرة وغير القانونية، والتي كان يمكن الحصول عليها في بعض الأحيان مقابل علبة من السجائر أو ممارسة الجنس مع الطبيب، كما حدث في الفيلم. وقد أدّت هذه الإجراءات القاسية إلى زيادة عدد الأطفال غير المرغوب فيهم والذين تم طرح العديد منهم للتبني في دور الأيتام سيئة السمعة في رومانيا، والتي بدأت باستقطاب اهتمام وسائل الإعلام الدولية خلال تلك الفترة.
وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، فحوالي 10 آلاف امرأة قد ماتت بسبب مضاعفات عمليات الإجهاض غير القانونية في تلك الفترة
أطيحت بحكومة تشاوشيسكو في عام 1989، بعد أنْ أعدمه الشعب رميًا بالرصاص، وكان أحد أكبر مخلّفاتها ملاجئ الأيتام المليئة بالأطفال غير المرغوب فيهم. إضافةً للعديد من الآثار الاجتماعية والأخلاقية والجنسانية التي أدت إلى تفاقم الأمراض الاجتماعية التي ما تزال قائمة، خاصة بين النساء اللواتي عانينَ العديد من تجارب الاضطهاد والألم والعار والمرض التي أودت بهنّ إلى معاناةً دائمة من فقدان الصحة وفقدان الكرامة وفقدان الذات. ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية، فحوالي 10 آلاف امرأة قد ماتت بسبب مضاعفات عمليات الإجهاض غير القانونية، كما تم تشويه العديد منهنّ عضويًا بشكل دائم، كفقدان الرحم أو حصول عيبٍ فيه.
بعد السنوات الأولى من الإطاحة بالحزب الشيوعي وإلغاء قانون منع الإجهاض، أي في بداية تسعينات القرن الماضي، حققت رومانيا أعلى تسجيلٍ للمواليد الجدد، إضافة لانخفاض معدلات الوفيات بين النساء، وتحسّن الأوضاع الإنجابية لهنّ. لكن وعلى الرغم من ذلك، ما تزال في يومنا هذا تمتلك أعلى معدل للإجهاض في أوروبا، 480 عملية إجهاض لكل 1000 ولادة، أي ضعف متوسط الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي يجعل القارئ للتاريخ ومشاهِد الأفلام الواقعية يدرك فعلًا كيف أنّ الأنظمة القمعية التي تهدف للسيطرة على الإنسان وتقويض حرياته من خلال العديد من الإجراءات والقوانين الاستبدايدة، ستفشل ذات يوم وينتهي بها المطاف عن طريق الأفراد أنفسهم الذين ذاقوا ذرعًا بتلك الأنظمة.