“إنهم لايريدون اعترافاته بل يريدون عقله، لم يكن يُهمهم أن يحصلوا منه على هتاف بحياة الأخ الأكبر. بل إنه يعتقد أن الأخ الأكبر لا يمكن أن يخطئ. كان ونستون يشعر بأن الشيء الوحيد الذي مازال يملكه حقًّا ويسيطر عليه ويتحكم فيه وحده، هو عدة سنتمترات مربعة هي مركز التفكير في رأسه وكان يشعر على نحو ما، أنه إذا استطاع أن يحتفظ بهذه السنتمترات المربعة حيَّةً في رأسه، وأن يردد ما يدور بها من أفكار، ولو لنفسه وحدها، فإنه يستطيع على الأقل أن يضمن أن يستمر”.
يفسر “جورج أوريل” في رواية 1984 حال “ونستون سميث” ـــ بطل الرواية ـــ داخل غرفة التعذيب.
تتمظهر العلاقة بين السُّلْطة والمُجْتمع من خلال مُؤسَّسات التعليم الرسمي التابعة للدولة في حال الجامعات المصرية. فدور مُؤسَّسات التعليم الرسمي التابع للدولة هو تنميط المُجْتمع، وتكوين أجيال مطيعة للسُّلْطة، لضمان فاعلية دائمة للنظام السائد. وفي متتالية مستمرة تتحوّل رؤية المُجْتمع لذاته رؤية مُلتصقة بالسُّلْطة. وبذلك تكون المرجعية القيمية للمُجْتمع هي السُّلْطة المقدسة!.. بحيث تكون السُّلْطة هي “الأخ الأكبر”.. هي تترصد سلوكك من خلال وحدة تحكُّم “مظلمة” لا ندرك من بداخلها. تراقب همساتك.
وبناء على ذلك رجعت الحياة الجامعات بعد عطلة دامت أكثر من شهر ونصف، ليجد الطلبة والطالبات حراسة أمنية مشددة على بوابات الجامعات لـ “تفتيش” الطلاب، وبوابات إلكترونية وكاميرات مراقبة عالية الجودة، و”تعلية” لأسوار الجامعات وخاصة جامعة الأزهر، بتكلفة وصلت إلى 40 مليون جنيه مصري. وبذلك تكتمل رؤية السُّلْطة للمُجْتمع، باعتباره مسرحًا للعرائس، تحرك فيه البشر عبر خيوط موصول أطرافها بأصابع يديها.
فالسُّلْطة تضع مجموعة من القواعد والقوانين والمعايير التي تحددها هي، فتستوعب بذلك المُجْتمع داخل أطر محددة ومرسومة، تُخضع المُجْتمع لها عبر قناعات متعددة تختبئ خلفها، كي تنفذ إلى “لا وعي” أفراد المُجْتمع، وتكوّن نمطًا معرفيًّا وتأطيرًا للمُجْتمع عبر منافذ الدولة، دون أن يبدوا ــ المُجْتمع ــ مُكْرهًا على شيء.
******
تتوَجَّس السُّلْطة من الطابع الاحتجاجي داخل نطاق المؤسسات التعليمية، لارتباطه بالمَجال العَامّ. فتحوّل ساحات المؤسسات التعليمية لأيْقُونات تتبني القضايا التي تمسّ المُجْتمع وتُدافع عنها، يعني ارتباط هَذِه المؤسسات بالمَجال العَامّ الخارجي للمُجْتمع. وبذلك تخرج المُؤسَّسة الضبطيّة عن الحَيِّز الذي رسمته لها السُّلْطة. وتهدد رمزيّة السُّلْطة المتمثلة فى الأسوار المرتفعة لمُؤسَّسات التعليم الرسمي، والتي وضعت للإشارة لعزل العمليات التعليمية والتربوية داخل هذا الحيز المكاني للمُؤسَّسات، والتحكم فيه وبعده عن حَيِّز المَجال العَامّ الخارجي للمُجْتمع، أو بمعنى أصح عن الحَيِّز الذي وضعته السُّلْطة للكيانات المتفاعلة في نطاق المُؤسَّسات التعليمية (مثل اتحاد الطلاب).
لذلك عندما اشتعلت الحركة الطلابية داخل الجامعات المصرية ومناهضتها للسُّلْطة الحالية في النصف الدراسي الأول لهذا العام، وتحويل الساحات الجامعية إلى مَيادين للدفاع عن قضايا مُجْتمعية، ومحاولتهم كَسر رمزية بوابات الجامعات الحديدية والأسوار العالية التي تحيط بمباني المُؤسَّسات التعليمية، والارتباط بالقضايا العَامّة الخارجية، والمُناهضة للسُّلْطة، كان رد فعل السُّلْطة يظهر في تصريحات لـ حسام عيسى، نائب رئيس الوزراء، وزير التعليم العالي في حكومة الببلاوي، فيقول: “أن الجامعات ليست مستقلة عن الدولة وليست مستقلة عن قانون العقوبات، والشرطة من حقها أن تدخل دون إذن لحماية مرافق الدولة”. فوزير التعليم العالي يعبر هنا عن تخوف الدولة من فقدها السيطرة على 2.15 مليون طالب ف العام الدراسي 2011ــ2012، وتهد لأداة تضم نحو97 ألف عضو من أعضاء هيئة التدريس ومعاونيهم بالتعليم العالي طبقًا لتقرير “مركز معلومات مجلس الوزراء” لعام 2011 ــ 2012. وهكذا دخل الأمن لساحات الجامعات، لمواجهة الاحتجاجات بقنابل الغاز وطلقات الخرطوش والرصاص الحي، وحملات اعتقالات مُستمرة في صفوف الطلبة والطالبات، وصدور أحكام قضائية “جائرة” ضدهم بتهم وهمية واهية.
وامتد ذعر السُّلْطة إلى مراحل التعليم قبل الجامعي عدا التعليم الأزهرى ، والذي يضم خلال عام 2012 ــ 2013 كما أعلن مركز معلومات دعم واتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء، 18.3 مليون طالب، بينما مثل عدد المدرسين والأخصائيين فى العام ذاته نحو 1.04 مليون مدرس وأخصائى. فأدخلت ــ السُّلْطة ــ مُمثلين لها من الأجهزة العسكرية والأمنية إلى المدارس والمعاهد. وارتقى الضابط في بزّته العسكرية “المنصة الإذاعية” في الطابور الصباحي لتلاميذ المدرسة، وهو يحمل في يديه “سلاحه”، معلنًا أنه هو محور ارتكاز العملية التعليمية، وخط الدفاع عن السُّلْطة، ولن يسمح أبدًا بتهديد كيانها وتماسكها. وأن السُّلْطة حكيمة ورشيدة. ومع ذلك خرجت أكثر من فتاة في مرحلة التعليم الأساسي ليرفعن شعار “رابعة” في وجه مسؤولين بالدولة لتخترق بذلك الجِدار والطوق الأمني الذي فرضته السُّلْطة على اكتسابهن للوعي، واحتكار السُّلْطة لمصادر معرفتهن بالواقع الخارجي. وأَجبرن بذلك مُعسكر المُؤسَّسات التعليمية على الارتباط بالقضايا الخارجية التي تمسّ المُجْتمع.
وحتى على مستوى المَيادين التي تحولت لساحات رَمزيّة ضد السُّلْطة، لجأت الدولة إلى إحاطة تلك المَيادين بمجموعة من الحواجز الإسمنتية، في محاولة منها الحفاظ على “هيبتها” ومنع المساس بها بخلق رَمزيّة جديدة وأيْقُونة تواجه السُّلْطة، وتحظى بالتأييد الشعبي. فتُنتهك بذلك “قُدسيّة” السُّلْطة.
******
يستدعي العمل الاحتجاجي المُناهض للسُّلْطة في المُؤسَّسات التعليمية إنتاج مجموعة من الرموز الجديدة، التي تهدد ديْمومة واستقرار السلطة القائمة وتمسّ “هيبتها”. وبذلك تخرج المُؤسَّسة التعليمية عن السياق الذي تم تحديده آنفًا لعمل هَذِه المؤسسة، وهو تأطيرها لفئة كبيرة من المُجْتمع بحيث تساهم هَذِه الفئة في إعادة إنتاج علاقات السُّلْطة بالشكل الذي تحدده أيدولوجية السُّلْطة القائمة. في أوج الصراع بين الحركات المُناهضة للسُّلْطة والدولة، تُصاب السُّلْطة بالجنون من هَذِه الرموز. وتسعي جاهده إلى القضاء على مستخدميها والمروجين لها.
وعندما تفشل السُّلْطة في المواجهة الأمنية مع الحركة المُناهضة لها بشكل عام والقضاء على رموز العمل الاحتجاجي، تستدعي السُّلْطة مجموعة أخرى من الرموز المضادة، وتوظفها في خطابها. فتسعى تدريجيًا إلى احتلال المساحات التي انتشرت فيها رموز الحركة المُناهضة لها من خلال تابعين لها. وليست المَيادين التى خُلقت فيها رموز للثورة المصرية عنا ببعيد. فبعد أن كان ميدان التحرير ساحة لحشد الجماهير ضد الدولة. وأيقونة خارج سيطرة السُّلْطة. أصبحت السُّلْطة تستدعيه ليكون ساحة مؤيدة لها، وتحت سيطرتها.
******
ويَتمثل مكمن تخوف السُّلْطة من ربط المُؤسَّسات التعليمية بالمَجال العَامّ، من اختراق نسبة من الوعي إلى كيانات داخل تلك المُؤسَّسات فيؤدي الأمر إلى تكوين شقوق داخل أَسْوارّ الكيان التعليمي، الذي تسيطر عليه الدولة. فتتكون معرفةٌ خارج إطار علاقات السُّلْطة القائمة. ولأن التعليم يمسّ قطاعات واسعة من المُجْتمع، تفقد السُّلْطة واحدًا من أهم عناصرها وضمان استمراريتها، بإنتاج معرفة خارج إطارها. ويهدد ذلك استقرار علاقات السُّلْطة القائمة. فالسُّلْطة “ترى ذاتها” منبع المعرفة، وهى التي تحدد مقدار الوعي المطلوب إكسابه للمُجْتمع. بحيث لا يستطع المُجْتمع عند تعريف ذاته أن يفصله عن السُّلْطة، “بل هو منها وإليها يعود”. لذلك فإن اكتساب الوعي والمعرفة خارج إطار كيانات الدولة، يُضعف من مركزية السُّلْطة على المُجْتمع. باعتبار التعليم الرسمي وسيلة وآلية فعالة للحفاظ على نمط المُجْتمع، وعلاقات السُّلْطة داخله.
******
والعمل الطلابي المُناهض للسُّلْطة سواء كان على المستوى السياسي أو الثقافي والمعرفي داخل نطاق مُؤسَّسات التعليم الرسمي لا يحسم الصراع مع السُّلْطة لكن يُفقدها توازنها. ويُضيق مساحات فاعليتها. ويكشف عن ميكانيزمات سيطرتها وتحكمها في المُجْتمع. فتكون تكتيكات المواجهة مع السُّلْطة أكثر نضجًا. وبالتالي تحتل الكيانات والجماعات الفاعلة في المجتمع مساحات كانت السُّلْطة تشغلها، وتسيطر عليها. ويبدأ نطاق تأثير هَذِه الكيانات يتضح في المجالات التي احتلتها بوصفها بديلًا عن السُّلْطة.
إذا كانت السُّلْطة تحاول أن تجعل المُجْتمع مسرحًا للعرائس ــ كما يُطلق إيَان كريب على الماركسية البنيوية في كتابه النظرية الاجتماعية ــ يضحى البشر فيه دُمًى للبِنْية الاجتماعية، وهَذِه البنية بدورها تصبح نوعًا من الآلة ذات الحركة الدائمة، والبشر هم الوقود الذي يحافظ على استمراريّة حركتها. فإن التحدي في قطع خيوط الدُّمى وتشتيتها، من خلال عملية الصراع المستمر معها. ويكون هدفنا اختراق تلك البنى دون أن نسقط فيها وتسحقَنا بأقدامها.