من الجيد أن يكون مرغوبًا بك حتى ولو مر على عمرك 100 عام وأكثر، لا سيما إن كنت وما زلت أقوى الموجودين، مر أكثر من قرن وبضع سنوات على وجود الدولار الأمريكي كعملة قوية، بل عرف بكونه أقوى العملات الموجودة في تاريخ الاقتصاد الحديث.
لا نحتاج الخوض في الأسباب التي جعلت الدولار الأمريكي متربعًا على عرش العملات في الاقتصاد الدولي، حيث ُيمكننا بوضوح رؤية هيمنته الاقتصادية والسياسة في التوتر الواضح بين العلاقات التركية والأمريكية التي كان من شأن الدولار الأمريكي فيها أن يجعل الليرة التركية تخسر نحو 16% من قيمتها أمامه وأكثر من نصف قيمتها خلال الشهور الماضية.
بعد فوز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الانتخابات الرئاسية يوم 24 من يونيو/حزيران الماضي، بدا وكأن هناك استقرارًا اقتصاديًّا في انتظار سياسة نقدية واقتصادية من شأنها أن تحول الاقتصاد التركي من اقتصاد ناشئ إلى اقتصاد مُنتج، وأن تلحق تركيا بركب الدول المنتجة وركب الدول المتطورة.
ولكن لم يمض القليل جدًا من الأيام وبدأت الليرة التركية تسلك طريقًا سريعًا في الهبوط بالقيمة أمام الدولار، لتصل إلى مرحلة لم تستطع تعزيز قيمتها أمام الدولار، وبالتالي خسرت 16% من قيمتها في وقت قصير جدًا، ما أثار جدلًا عن مستقبل الليرة التركية في سوق الاستثمار، فخسارة العملة 40% من قيمتها على مدار العام وصولًا إلى الشهر الحاليّ لا يعد خبرًا سارًا للمستثمرين على الإطلاق.
دخلت العلاقات التركية الأمريكية في سلسلة من التوتر مع طلب الأخيرة من الحكومة التركية تسليم القس الأمريكي أندرو برونسون المعتقل على خلفية إدانته بمساعدة منظمات إرهابية، إلا أن تركيا أعلنت بداية مرحلة “المعاملة بالمثل” وطالبت مبادلة القس الأمريكي بمدبر محاولة الانقلاب الفاشل على تركيا قبل عامين فتح الله غولن، الرد الأمريكي كان بمثابة إعلان حرب تجارية بين الولايات المتحدة وتركيا.
” أثبتت تركيا مرارًا وتكرارًا أنها ستهتم بشؤونها الخاصة في حال رفضت الولايات المتحدة الاستماع لها”
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان
ما الفرق بين الحرب التجارية والحرب الاقتصادية؟
قد تبدو الحرب الاقتصادية وجهًا آخر للحرب التجارية أو قد يبدوان مصطلحين للكلمة ذاتها والظروف نفسها، ولكن هناك فرقًا كبيرًا بين الحرب التجارية والاقتصادية على الرغم من استخدام الأغلبية للكلمة الأخيرة لوصف أي توتر له علاقة بالأموال يحدث بين الدول، لا سيما التوتر بين تركيا والولايات المتحدة ووصف الأزمة الواقعة بينهما بمثابة إعلان واضح لحرب اقتصادية لا تعد الأولى من نوعها في تاريخ الولايات المتحدة التي تتبع سياسات حاليّة وصفها الرئيس التركي بتصرفات “أحادية الجانب” أدت لبحث الأخير عن بدائل وأصدقاء جدد.
كلما قلت قيمة العملة ارتفعت صادرات البلد
أعاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ذكريات الحروب التجارية إلى الواجهة، بعدما بدأ سلسلة من فرض العقوبات التجارية طالت كثيرًا من الدول، وذلك بعد فرضه عدة رسوم جمركية على واردات أمريكا من بعض المنتجات أهمها المنتجات الصلب والألمونيوم وهو ما سيؤثر بشكل كبير على كل من الاتحاد الأوروبي والصين التي تغلب منتجات الصلب والألمونيوم على أغلب صادرتها للولايات المتحدة، إلا أن كل من الاتحاد الأوروبي والصين قررا الرد بالمثل، وفرض رسوم جمركية على واردات بلادهم من الولايات المتحدة في إعلان لحرب تجارية قادمة في الاقتصاد الدولي.
تداول تلك الأخبار لم يشر إلى حرب اقتصادية كما حدث مع تداول أخبار التوتر التركي الأمريكي حيال العقوبات التي فرضتها الحكومتان على وزيري العدل والداخلية لكلا البلدين، بل أشارت إلى علامات حرب تجارية تلوح في الأفق، ولكن هل تكون الحرب التجارية هي نفسها الحرب الاقتصادية؟
لا يمكننا القول إن هناك حالة سلام كاملة في العلاقات الدولية، ولا بد أن يكون هناك معوقات أو قيود أو رسوم تجارية تؤرق اقتصاد الدول بين بعضها البعض، إلا أن الحرب الاقتصادية ليست من بينها، بل تكون تلك هي الحرب التجارية، حيث تكون الأولى أداة من أدوات الحرب التي قد تؤدي فيما بعد إلى حرب شاملة تستلزم قوة عسكرية.
التحالف العسكري على اليمن بقيادة السعودية وحصار الإمارات والسعودية والبحرين ومصر لقطر صورة من صور الحرب الاقتصادية أيضًا
فرض الرسوم الجمركية على بعض المنتجات يعد نوعًا من أنواع الحروب التجارية، وهو ما يحدث بين الولايات المتحدة الآن والاتحاد الأوروبي، أو الولايات المتحدة وتركيا على إثر العلاقات المتوترة حاليًّا، إلا أن الحرب الاقتصادية تعد مفهومًا شاملًا أكثر، حيث تضم الحرب المالية كحظر الأنشطة المصرفية والتحويلات المالية، والمقاطعة الاقتصادية بالحظر الشامل على سلع ومنتجات الدولة، أو الحصار الاقتصادي الشامل أو الجزئي، وصناعة الأزمات الاقتصادية كالتلاعب بالبورصة أوالعملة المحلية والسندات، واستخدام الأموال الساخنة في الإضرار باقتصاد الدولة وسياسات الاحتكار لسلعة أو سلع إستراتيجية تطلبها الدولة المستهدفة بمنعها عنها أو إغراق أسواق الدولة بمنتج أو منتجات معينة لضرب منتجاتها الوطنية.
كانت الولايات المتحدة في غالب الأمر طرفًا في كل الحروب التجارية التي عرفها الاقتصاد الدولي مؤخرًا، وبالأخص منذ تولي دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة، حيث تعالت حينها أصوات منذرة بحروب تجارية عدة قد يشنها ترامب على العديد من الدول وقد تؤثر سلبًا في محاولته فرض “الحمائية التجارية” على المنتجات والسلع الأمريكية وضرره عمدًا للاقتصاد الدولي والتبادلات التجارية.
“كان من الأنسب القول إن الوقت حان لإنهاء الترهيب الاقتصادي والهيمنة الأمريكية”.
الناطقة باسم وزارة الخارجية الصينية هوا شونينغ حينما أعلنت الولايات المتحدة فرض رسوم جمركية على الواردات الصينية في مارس/آذار الماضي
لماذا تُخفض بعض الدول قيمة عملتها عمدًا؟
Ekonomik savaşı kazanacağız.
Bunun için;
daha çok çalışacağız,
daha çok üreteceğiz,
milli ürünlerimizi dünya piyasasına satacağız,
kendi paramızla tasarruf edeceğiz,
daha az tüketeceğiz.#kazanacağız pic.twitter.com/GCU0aqHGIs— Mustafa AK 🇹🇷🇵🇸 (@kbbmustafaak) August 12, 2018
والي منطقة “كيتش أورين” في أنقرة في تغريدة له يقول سننتصر في الحرب الاقتصادية ولهذا سنعمل أكثر، وسننتج أكثر، وسنبيع منتجاتنا الوطنية في السوق الدولية
استخدام الحرب التجارية أمرًا شائعًا جدًا لفرض سيطرة سياسة دولة ما على دولة مستهدفة، أو لمنع بعض الدول من تطبيق سياسات معينة لا توافق عليها الدولة التي تقرر شن الحرب التجارية في المقام الأول، لكن يبدو أن الإدارة التركية قررت المعاملة بالمثل على الرغم من انهيار العملة الوطنية، ووصف الرئيس التركي بأن ما يحدث يتطلب “نضالًا وطنيًا” ووافقه على ذلك المتحدث باسم الرئاسة إبراهيم كالن فقال إنه لا يمكن لأي تهديدات أو ابتزازات أو عمليات أن تفت في عضد تركيا، ذاكرًا في تغريدة نشرها على حسابه الرسمي على “تويتر” أن كل المخططات قد انهارت بعد المحاولة الانقلابية التي شهدتها تركيا منتصف يوليو/تموز 2016، وأنها ستهزم مجددًا.
يعد “تقليل العجز التجاري” واحدًا من الأسباب المهمة التي تقوم بعض الدول بتقليل قيمة العملة الوطنية عمدًا من أجلها، فكلما قلت قيمة العملة زادت الصادرات لأنها أصبحت أقل سعرًا من ذي قبل في السوق الخارجية
“زيادة الإنتاج والصادرات والتوظيف أفضل رد على التحديات التي تواجهها البلاد”، كان هذا قرار الرئيس التركي بعد فرض ضعف الرسوم الجمركية على منتجات الصلب والألومنيوم الصادرة من تركيا إلى الولايات المتحدة، وعلى الرغم من رؤية الكثير من نقاد قرارات الحكومة التركية أن هذا القرار لن يحل الأزمة الدبلوماسية ولن يعيد لليرة التركية قيمتها، فإن أردوغان لم يكن مخطئًا بشكل كبير بشأن زيادة الإنتاج والصادرات لمساندة بلاده في مواجهة التحدي الأمريكي وحربه التجارية.
هناك 3 أسباب اقتصادية مهمة جدًا تتبعها كثير من الدول التي تتعمد خسارة قيمة عملتها المحلية أمام الدولار، كان أولها ما طبقته الصين في حربها التجارية مع الولايات المتحدة بعدما خسرت عملتها المحلية، اليوان الصيني، عمدًا بعضًا من قيمتها تحديًا للتعريفات الأمريكية المفروضة على الصادرات الصينية، وهو ما انتقده كثير من الخبراء الاقتصاديين بشأن مخاطرة الصين بتخفيض قيمة عملتها أمام الدولار، إلا أن هذه من ضمن الحقائق المثيرة للاهتمام في مجال الصادرات والواردات، فكلما قلت قيمة العملة ارتفعت صادرات البلد.
الحكومات التي تعاني من عملة ضعيفة أو تضعف عملتها عمدًا تستغل ذلك للخروج من الحرب التجارية بأقل خسائر قبل أن تتحول إلى حرب اقتصادية شاملة وتسدد كثيرًا من الديون وتقلل عجزًا تجاريًا لم تساهم العملة بحالتها القوية في سدادها
كلما ارتفعت قيمة العملة المحلية، كانت الصادرات للبلاد الأجنبية أكثر قيمة وأعلى سعرًا وبالتالي سيقل الطلب عليها نسبيًا في الأسواق الأجنبية، كلما انخفضت قيمة اليورو أمام الدولار، فهذا يعني أن أسعار السيارات التي تقوم الشركات الأوروبية بتصنيعها للبيع في الأسواق الأمريكية أقل من ذي قبل، وهذا يعني في سياق آخر أنه كلما قلت قيمة العملة الوطنية أمام الدولار صارت المنتجات التي تصدرها تلك البلد أكثر تنافسية في السوق الدولية.
يعد “تقليل العجز التجاري” واحدًا من الأسباب المهمة التي تقوم بعض الدول بتقليل قيمة العملة الوطنية عمدًا من أجلها، فكلما قلت قيمة العملة زادت الصادرات لأنها أصبحت أقل سعرًا من ذي قبل في السوق الخارجية وقلت الواردات للبلد لأنها صارت غالية مقارنة من ذي قبل، وبالتالي سيؤدي ذلك تدريجيًا لوجود توازن بين الاثنين مما يقلل من العجز التجاري لدى كثير من الدول التي لم يكن بمقدورها الوصول إلى حالة التوازن تلك على الرغم من قوة قيمة عملتها الوطنية أمام الدولار.
السبب الثالث والأخير يكون للحد من الديون السيادية، وهي ديون الحكومة المركزية التي تصدرها الحكومة الوطنية بعملة أجنبية من أجل تمويل المشاريع التنموية، قد تساعد العملة الضعيفة نسبيًا على الحكومة التي تمتلك كثير من الديون السيادية سداد الديون بشكل أكثر فعالية مما كانت عليه حينما كانت تتمتع بعملة قوية أمام الدولار، وذلك لأن مدفوعات الديون ستكون بشكل ثابت وهو ما يجعلها أقل سعرًا من ذي قبل.
من الممكن أن تسبب العملة الضعيفة انهيارًا مؤقتًا للاقتصاد المحلي، ومن الممكن جدًا أن تدخل الاقتصاد في حالة ركود لا يحركه كثير من الاستثمارات، إلا أن الحكومات التي تعاني من عملة ضعيفة أو تضعف عملتها عمدًا تستغل ذلك للخروج من الحرب التجارية بأقل خسائر قبل أن تتحول إلى حرب اقتصادية شاملة وتسدد كثيرًا من الديون وتقلل عجزًا تجاريًا لم تساهم العملة بحالتها القوية في سدادها، وهو ما ينويه الرئيس التركي في الأيام المقبلة لتقديم سياسة اقتصادية مختلفة تواجه التحدي الأمريكي.