ترجمة وتحرير: نون بوست
كان علي غلام “ملك الدولار” بلا منازع في العراق لما يقارب عقدًا من الزمن. وخلال تلك الفترة، حوّلت بنوكه الثلاثة في بغداد عشرات المليارات من الدولارات إلى خارج البلاد بدعوى استخدامها لشراء قطع غيار السيارات والأثاث وغيرها من الواردات. وكان أحد أبرز المشغّلين في نظام مصرفي خاص تم إنشاؤه قبل حوالي عقدين من الزمن في ظل الاحتلال الأمريكي الذي منح بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك دورًا رئيسيًا في معالجة المعاملات الدولية للعراق. وبعد سنوات، عندما بدأ بنك الاحتياطي الفيدرالي أخيرًا النظر عن كثب في مآل تلك الأموال، قام بإنهاء التعامل معها بين عشية وضحاها تقريبًا.
يشتبه المسؤولون الأمريكيون في أن بنوكه كانت من بين أكثر من 24 بنكًا عراقيًا متورطًا في تحويل الدولارات إلى إيران وحلفائها من الميليشيات باستخدام شركات واجهة وفواتير مزورة للالتفاف على العقوبات التي تحظر استخدام إيران النظام المالي العالمي. وتكشف عمليات التدقيق في بنوك غلام، التي اكتملت في أيار/ مايو واستعرضتها صحيفة وول ستريت جورنال، عن تفاصيل غير عادية بشأن المعاملات الخارجية بالدولار، حيث أشار المدققون إلى أن هذه المعاملات أثارت مخاوف بشأن غسيل الأموال. ومن جانبه، نفى غلام هذه المزاعم في مقابلات أجريت معه.
وفقًا للمسؤولين الأمريكيين، ما يصل إلى 80 بالمائة من التحويلات المالية بالدولار التي تجاوزت قيمتها 250 مليون دولار والتي تدفقت عبر البنوك العراقية بشكل عام كان من الصعب تعقّبها في بعض الأيام، وجزء منها تم تحويله سرًا إلى الحرس الثوري الإسلامي الإيراني والميليشيات المناهضة للولايات المتحدة التي يدعمها.
في اجتماع عُقد في بغداد في كانون الثاني/ يناير، قال مسؤول رفيع المستوى في وزارة الخزانة الأمريكية لمسؤولين عراقيين إن البنوك العراقية “استغلت عمدًا” وصولها إلى الدولارات الأمريكية لدعم فيلق القدس، وهو ذراع شبه عسكري للحرس الثوري الإيراني، وكذلك جماعات الميليشيات الناشطة في العراق التي تدعمها الحكومة الإيرانية، وذلك وفقًا لمسؤولين أمريكيين مطلعين على المناقشات.
وخلال هذا الاجتماع، قال براين نيلسون، وكيل وزارة الخزانة الأمريكية لشؤون الإرهاب والاستخبارات المالية، لمسؤولي البنك المركزي العراقي إن الميليشيات متورطة في شن “هجمات مستمرة” ضد القوات الأمريكية، بما في ذلك بعض الهجمات التي أسفرت عن وقوع ضحايا، وذلك حسب ما قاله المسؤولون المطلعون على المناقشات.
قال نيلسون في مقابلة مع الصحيفة إن الولايات المتحدة اتّخذت إجراءات لمنع البنوك العراقية المشتبه بها من استخدام نظام الاحتياطي الفيدرالي لتحويل الدولارات، مضيفًا: “كان من المهم بالنسبة لوزارة الخزانة ضمان عدم تحويل تلك الأموال لدعم النظام الإيراني”. وقد رفض نيلسون، الذي غادر وزارة الخزانة في آب/ أغسطس، من خلال متحدثة باسمه مناقشة محادثاته مع المسؤولين العراقيين.
بدأت الحملة على البنوك العراقية في أواخر سنة 2022 بعد أكثر من عقد من التقاعس الأمريكي رغم تحذيرات المفتش العام للبنتاغون منذ سنة 2012 بشأن احتمال حدوث احتيال بقيمة 800 مليون دولار أسبوعيًا. ووفقًا للمسؤولين الأمريكيين الحاليين والسابقين، فرضت الولايات المتحدة على مر السنين قيودًا مؤقتة على التدفقات النقدية إلى العراق لكنها كانت قلقة من أن تؤدي الضوابط المشددة أو الدائمة إلى غمر العراق في فوضى اقتصادية وتعريض معركته ضد تنظيم الدولة للخطر.
بالنسبة لإيران، التي فُرضت عليها عقوبات بسبب نشاطها النووي غير المشروع ودعمها للإرهاب، يُعتبر الوصول إلى الدولارات أمرًا حيويًا لشراء الأسلحة وأجزاء الطائرات المسيرة والصواريخ، وكذلك لتمويل الجماعات المسلحة التي تدعمها في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، وذلك وفقًا لما أفاد به المسؤولون الأمريكيون. وتشمل هذه الجماعات حركة حماس في غزة وحزب الله في لبنان، وهما جماعتان تصنفهما الولايات المتحدة على قائمة الإرهاب تحاربان إسرائيل منذ تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، مما رفع التوتر في الشرق الأوسط إلى أعلى مستوى له منذ الغزو الأمريكي للعراق قبل عقدين من الزمن.
نظام مخصص
بعد الغزو في سنة 2003، وافقت واشنطن على الاحتفاظ بعائدات العراق من مبيعات النفط – عشرات المليارات سنويًا – في بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك. ولإعادة هذه العائدات إلى العراق، بدأ بنك الاحتياطي الفيدرالي شحن الدولارات نقدًا إلى بغداد ومعالجة التحويلات البرقية التجارية من البنوك العراقية الخاصة للتجارة الدولية أملًا في إنعاش اقتصاده المدمّر بعد سنوات من الحرب والعقوبات.
وكان النظام المخصص يفتقر إلى التدقيق الأساسي الذي يُعتبر معيارًا في العمل المصرفي الدولي. فهو لم يتطلب من البنوك أن تكشف بشكل دقيق عن هوية الجهات التي تحصل على الأموال التي يتم تحويلها خارج العراق.
في الولايات المتحدة ومعظم البلدان الأخرى، عادةً ما تستخدم البنوك التي تسعى لنقل الأموال دوليًا نظام رسائل آمن يُعرف باسم “سويفت”. وتتولى هذه الخدمة، التي تتخذ من بلجيكا مقرًا لها، توجيه الرسائل بين البنوك وتحديد المبلغ والمستلم المقصود. وتتعامل سويفت مع ملايين تعليمات الدفع اليومية عبر أكثر من 200 دولة وإقليم و11 ألف مؤسسة مالية. وفي هذه السلسلة من الرسائل، يوافق كل بنك على التحويل أو يرفضه بعد إجراء مراجعة تهدف إلى الحد من غسيل الأموال وتمويل الإرهاب وأي نشاط احتيالي آخر.
بعد عقود من العقوبات المفروضة على العراق، لم يكن لدى البنوك العراقية الخاصة الاتفاقيات اللازمة مع البنوك الأجنبية الكبرى لإجراء التحويلات البرقية الدولية باستخدام نظام سويفت القياسي للمعاملات التجارية. وبدلاً من ذلك، بدأت الولايات المتحدة والبنك المركزي العراقي استخدام نوع مختلف من رسائل سويفت التي تُستخدم عادةً لنقل الأموال بين البنوك.
ونظرًا لأن التحويلات بين البنوك تعتبر أقل خطورة بكثير من تلك التي تتم بين العملاء التجاريين، فإن الرسائل لا تتطلب الإفصاح عن المستلم النهائي للتحويلات البرقية. وحسب مسؤولين أمريكيين فإن هذه الثغرة في العراق استُخدمت لتحويل الدولارات على نطاق واسع.
كان غلام (42 سنة)، المقيم الآن في لندن، يدير إمبراطورية تتعامل مع الحصة الأكبر من الدولارات المحولة إلى خارج العراق. وفي بعض الأيام، كان يدير ما يصل إلى 20 بالمائة من التحويلات البرقية، حسب ما قاله هو ومسؤولون مصرفيون عراقيون.
كانت مصارفه – مصرف الشرق الأوسط للاستثمار العراقي، ومصرف الأنصاري الإسلامي ومصرف القبضة الإسلامي – أول البنوك التي تم حظرها من التعاملات بالدولار من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي ووزارة الخزانة في أواخر سنة 2022. لم يشرح المسؤولون الأمريكيون القرار علنًا وقالوا سرًا إنه تم إيقاف البنكين بسبب حجم تعاملاتهما الكبير من المعاملات المشبوهة. ولم يتم اتخاذ أي إجراء ضد غلام شخصيًا.
من جهته، نفى غلام أن تكون البنوك التي يتعامل معها قد أرسلت أموالًا عن علم إلى فيلق القدس أو الحكومة الإيرانية. وقال في مقابلة معه: “ليس لدى الأمريكيين أي شيء ضدي. فلا علاقة لي بغسيل الأموال أو إيران”.
قال إن حياته في لندن، حيث يعيش هو وعائلته بعد انتقاله من بغداد في سنة 2018، انقلبت رأسًا على عقب منذ قطع الدولار الأمريكي. ويقع منزله الذي تبلغ تكلفته 40 مليون دولار، والذي تم تجديده مؤخرًا بأرضيات رخامية لامعة وحوض سباحة في الطابق السفلي وقفص ببغاء، على بعد بضعة مبانٍ فقط من مقر إقامة السفير الأمريكي. وبعد ممارسة المشي الرياضي، غالبًا ما يتوجه إلى مطاعم لندن المفضلة في سيارته الرولز رويس رباعية الدفع. ويقول: “النظام سيء، لكن كل البنوك في العراق كانت تعمل بالنظام نفسه. إذن لماذا جلب الأمريكيون هذا النظام؟”.
منذ حظر بنوك غلام، ضغطت وزارة الخزانة والبنك الاحتياطي الفيدرالي لإجراء المزيد من التغييرات الشاملة في العراق. ومنعت الولايات المتحدة 24 بنكًا عراقيًا آخر من إجراء معاملات بالدولار. وتتطلب القواعد الجديدة الصارمة، التي فرضها البنك المركزي العراقي منذ أواخر سنة 2022 تحت ضغط الولايات المتحدة، من البنوك الإفصاح عن المتلقين النهائيين للتحويلات البرقية.
وقال مسؤولون إن بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك في ذلك الوقت تقريبًا بدأ مراقبة التحويلات البرقية من حسابات العراق الرسمية بعناية، ورفض أي تحويلات لا تتوافق مع الإجراءات القياسية للتحويلات المالية الدولية. كما أعلن البنك المركزي العراقي أيضًا عن خطط للتخلي عن نظامه الحالي لتحويل الدولارات إلى الخارج بحلول نهاية هذه السنة. ولم يستجب البنك لطلبات التعليق.
وقال علي محسن العلاق، محافظ البنك المركزي العراقي في آب/ أغسطس لوكالة الأنباء الرسمية في البلاد: “سمح النظام السابق ببعض إساءة استخدام هذه القنوات، مثل المعاملات التي تنطوي على مصدرين وهميين”. وأضاف أن العراق “يقيم علاقات مباشرة بين المصارف العراقية والمصارف المراسلة، متجاوزًا الحاجة إلى التنفيذ من خلال البنك المركزي أو الاحتياطي الفيدرالي”.
قالت متحدثة باسم بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك في بيان: “نحن نحافظ على أنظمة امتثال قوية تتطور بمرور الوقت استجابةً للمعلومات الجديدة وبالتواصل مع الوكالات الحكومية الأمريكية الأخرى. ومن خلال العمل بالتعاون مع [البنك المركزي العراقي] ووزارة الخزانة الأمريكية، سنواصل تحديث وتنقيح ضوابط الامتثال لدينا لمنع إساءة استخدام قنوات الدفع لدينا على أفضل وجه، بينما يعيد البنك المركزي العراقي تشكيل المشهد المصرفي العراقي لدعم المبادلات التجارية المشروعة والحد من التمويل غير المشروع”.
وقال مسؤول في وزارة الخزانة الأمريكية إن الولايات المتحدة حافظت على دورها في معالجة التحويلات البرقية حتى يتمكن العراق من “مواصلة إجراء التجارة الدولية في بيئة عالية المخاطر، بما في ذلك خلال الحرب ضد تنظيم الدولة”، مضيفًا أن النظام “قيّم بالنسبة للأمن القومي الأمريكي”.
انتقال الميليشيات إلى العمل المصرفي
على الرغم من انتهاء الاحتلال الأمريكي للعراق في سنة 2011، لا يزال الدولار يحظى بشعبية لدى العراقيين العاديين والشركات، ويعمل تقريبًا كعملة رسمية ثانية. ولا تزال طائرات الشحن تنقل شحنات من العملة الأمريكية ــ عائدات بيع النفط العراقي ــ إلى البنك المركزي العراقي، بما يصل إلى 10 مليارات دولار سنويًا، وما يصل إلى 35 مليار دولار أو أكثر سنويًا تتدفق إلكترونيًا.
وفي إطار عملية نقل هذه الدولارات إلى الاقتصاد العراقي، يجري البنك المركزي العراقي عملية بيع نقدية يومية للدولار مقابل الدينار بسعر ثابت. ويمكن للمصارف بعد ذلك إعادة بيع الدولار بالسعر الأعلى غير الرسمي الذي تقدمه شركات الصرافة الخاصة وتجار الدولار، مما يحقق أرباحًا فورية بشكل قانوني. وفي إجراء منفصل للتحويلات المالية الخارجية، تقوم البنوك العراقية بإيداع الدينار في البنك المركزي، الذي يرسل رسالة إلى البنك الفيدرالي لإرسال مبلغ مكافئ من الدولارات إلى حسابات أجنبية تحددها البنوك، وهو نظام فريد من نوعه في العراق.
عندما رأت الميليشيات العراقية القوية الدولارات التي يمكن جنيها من هذا النظام، بدأت الاستيلاء على البنوك الخاصة. ثم انخرطت في أعمال تحويل الأموال إلى الخارج، وأساءت استخدام النظام عن طريق فواتير مزوّرة أو مضخمة لواردات غير موجودة، وذلك وفقًا لمسؤولين ومصرفيين عراقيين.
قال مسؤولون إنه بمجرد وصول الأموال إلى الخارج، والتي عادةً ما تكون في الإمارات العربية المتحدة، يتم سحب الدولارات نقدًا أو نقلها عبر قنوات غير رسمية تُعرف باسم الحوالة، والتي لا تخضع لأي ضوابط تذكر. وتجدر الإشارة إلى أن البنك المركزي الإماراتي لم يستجب لطلبات التعليق.
وانتهى المطاف ببعض الأموال مع الحرس الثوري الإيراني، الذي استخدم علاقاته الوثيقة مع وسطاء السلطة العراقية لاختلاس مبالغ غير معروفة، وفقًا لوزارة الخزانة الأمريكية. وبعض الأموال انتهى بها المطاف في العراق في أيدي ميليشيات وكيانات قوية أخرى، بما في ذلك مصرفيون.
بدأ صعود غلام في القطاع المصرفي العراقي بعد الغزو الأمريكي سنة 2003. فالفراغ في السلطة “سمح للعديد من العراقيين الفقراء بجمع الثروات وسط الاضطرابات الاجتماعية”، وفقًا لشركة “كي تو إنتيغريتي” الاستشارية في مجال الجرائم المالية في مانهاتن التي أجرت عمليات التدقيق في بنوك غلام لصالح البنك المركزي العراقي بعد أن حظرت الولايات المتحدة التعامل معها.
افتتح غلام شركة ملابس في بغداد كانت واجهة “لبيع الدولار الأمريكي في السوق السوداء”، وذلك وفقًا لعمليات التدقيق التي تضمنت مقابلات متعددة مع عراقيين لم تُذكر أسماؤهم وُصفوا بأنهم على دراية جيدة بعائلة غلام ومسيرته المهنية. كما انضم إلى “جيش المهدي”، وهي ميليشيا شيعية يقودها رجل دين تربطه علاقات وثيقة بإيران، التي قاتلت ضد القوات الأمريكية في السنوات الأولى للاحتلال الأمريكي، حسب ما ذكرته عمليات التدقيق.
قال غلام، في المقابلات التي أجرتها معه الصحيفة، إن تلك الروايات عن خلفيته كاذبة ونشرها خصومه، وأنه لا تربطه أي علاقات بالميليشيات، لكن معظم المصرفيين الآخرين كانت لهم علاقات بالميليشيات. وأقر بأن “العمل في العراق صعب للغاية إذا لم يكن لديك ميليشيا خاصة بك”.
وذكر أنه أسس في سنة 2008 شركة صرافة وبدأ بشراء أسهم في مصرف الشرق الأوسط العراقي للاستثمار. كان متزوجًا من امرأة كانت تعمل موظفة في البنك، والتي أخبرته في سنة 2002 – عندما كان لمخبز والده في بغداد حساب في البنك – أنه يمكن ربح أموال جيدة من تجارة العملة.
وفي سنة 2008، اختطفه رجال مسلحون يرتدون زي الشرطة من منزله ببغداد حقنوه بمخدر منوم – وذلك حسب إفادته – وأُطلق سراحه بعد 19 يومًا بعد أن دفع والد زوجته فدية قدرها 900,000 دولار.
وفي سنة 2014، سيطر على مصرف الشرق الأوسط العراقي للاستثمار بعد أن اشترى ثاني أكبر حصة في المصرف. وعندما اعترض مؤسس البنك – الذي كان صاحب أكبر حصة في السابق – على اختياراته لمجلس الإدارة، ظهر غلام في اجتماع مجلس الإدارة مع رجال مسلحين لتنصيب أقاربه وشركائه، بمن فيهم ابن عمه الذي أصبح رئيس مجلس الإدارة، وفقًا للعديد من المسؤولين والمصرفيين العراقيين.
ذكر غلام أن الرجال الذين كانوا يرافقونه هم حراسه الشخصيون الذين وظفهم منذ اختطافه، ونفى أن يكون قد استخدم الترهيب للاستيلاء على البنك، قائلاً إنه بصفته المساهم الجديد صاحب الحصة الأكبر في البنك كان له الحق في تسمية أعضاء مجلس الإدارة، وأضاف أنه عاش لفترة من الوقت في الطابق العلوي من البنك ليكون في مأمن من الخاطفين. ومنح البنك غلام إمكانية الوصول إلى نظام سحب الدولارات المودعة في بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك. بالعمل من خلال البنك المركزي العراقي، سرعان ما حوّل غلام نشاط تحويل المدفوعات إلى الخارج إلى ثروة كبيرة واستحوذ على بنكين آخرين وأصبح أكبر لاعب في هذا المجال.
علامات التدقيق التحذيرية
أظهرت عمليات التدقيق التي أجرتها “كيه تو” أن بنوك غلام أرسلت ما مجموعه 3.5 مليار دولار إلى خارج العراق في الأشهر الستة التي سبقت حظر 2022، وكلها بمبالغ ضخمة بالدولار، إلى عدد قليل من الشركات المغمورة في الإمارات العربية المتحدة.
كان أصغر تحويل بمبلغ 2,970,000 دولار بالضبط، وأكبر تحويل بمبلغ 17,000,000 دولار بالضبط. وفي الأشهر الستة التي تم التدقيق فيها، أرسلت شركة عراقية واحدة 243,000,000,000 دولار بالضبط في 17 دفعة من خلال مصرف الشرق الأوسط للاستثمار العراقي. ووصفت عمليات المراجعة هذه الأرقام المدققة بأنها علامات تحذيرية لاحتمال غسيل الأموال لأن مثل هذه المبالغ لا تُرى تقريبًا في المعاملات التجارية المشروعة.
أظهرت الوثائق التي راجعها المدققون أن بنوك غلام أرسلت الأموال نيابةً عن مجموعة صغيرة من العملاء، وفتح العديد منهم حساباتهم في البنوك في نفس اليوم في سنة 2016. وورد في الفواتير أن المدفوعات كانت من أجل “بضائع عامة” أو “سجاد” أو “سيارات” أو فئات أخرى واسعة، وفي بعض الحالات “جميع أنواع البضائع”. وذكرت عمليات التدقيق أن الفواتير كانت تحتوي على معلومات تعريفية محدودة أنها و”بدت بسيطة بشكل غير مناسب بالنظر إلى تعقيد المدفوعات”، وكانت تفتقر إلى مستندات التصدير الداعمة مثل سندات الشحن وشهادات المنشأ.
حوّلت بنوك غلام الأموال إلى خمس شركات غير معروفة فقط، وكان لدى جميع المستلمين حسابات في بنك واحد في دبي ولكن لم يكن لهم أي وجود على الإنترنت تقريبًا، ولم يكن هناك ما يشير إلى أنهم قادرون على تصدير البضائع إلى العراق بحجم المدفوعات التي تلقوها. وخلصت إحدى عمليات التدقيق إلى أن “الأنشطة التجارية الدقيقة والمواقع الدقيقة للعملاء لا تزال غير واضحة”، كما أن المدفوعات تفتقر إلى “غرض اقتصادي/ تجاري واضح”.
كان من بين أكبر المستفيدين شركة وادي السيليكون “إف زد إي”، وهي شركة إماراتية ورد في تسجيلها أنها متخصصة في تجارة المعدات الكهربائية ومواد البناء والإلكترونيات وقطع الغيار. وعلّقت السلطات الإماراتية رخصة عملها بعد أيام من حظر بنوك غلام من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، وفقًا لمراجعة الحسابات. ورفض مالك الشركة، عمر عوض زحمك، التعليق قائلاً عبر وسيط “إن جميع أعماله في الإمارات العربية المتحدة قد توقفت”.
أظهرت عمليات التدقيق إنه بمجرد تحويل الأموال إلى شركات في دبي، تم توزيعها بعد ذلك على 163 مستلمًا آخرين في الإمارات معظمهم “غير معروفين تمامًا” من سجلات البنك. وتم تتبع إحدى المدفوعات الخاصة بـ “قطع غيار السيارات” إلى 14 مستلمًا آخرين، وتم تحديدهم فقط “كتجار جملة للهواتف المحمولة وملحقاتها”. وخلصت عمليات التدقيق إلى أن جميع الأطراف في المعاملات بدت وكأنها جزء من شبكة.
وجاء في عمليات التدقيق: “يبدو أن عملاء [بنوك غلام] يعملون كجزء من الشبكة، وقاموا بتحويل الأموال إلى مجموعة من المستفيدين الذين يبدو أنهم يعملون أيضًا كجزء من الشبكة وكوسطاء تجاريين، بعد أن سهّلوا حركة الأموال نيابةً عن نفس المجموعة من المستفيدين النهائيين”.
قال مسؤول مصرفي عراقي رفيع المستوى إن استمارات الجمارك العراقية والفواتير وغيرها من الأوراق التي قدمتها بنوك غلام إلى البنك المركزي العراقي تشير إلى أن بعض المنتجات التي تم دفع ثمنها عن طريق التحويلات البنكية كانت تصل من إيران عبر معبر حدودي في شمال العراق. ولكن بعد إجراء تحقيق، قال المسؤول إنه اتضح أن معظم الواردات التي مولتها بنوك غلام لم تصل إلى العراق.
وقال غلام في المقابلات إن عملاءه كانوا تجارًا عراقيين وليسوا إيرانيين، وأن المبالغ الدولارية التي تم نقلها إلى الإمارات كانت بسبب النظام الذي وضعته الولايات المتحدة والبنك المركزي العراقي، الذي قال إنه يفضل تجميع المعاملات بالدولار في مبالغ تقريبية لإبقاء عدد المعاملات البنكية اليومية محدودًا. وأضاف أنه “من المحتمل جدًا” أن جزءًا من الدولارات التي نقلها ربما انتهى بها المطاف في إيران، ولكن فقط بعد أن خرجت الأموال من تحت سيطرة بنوكه.
برنامج تجريبي
لم تتعقب عمليات التدقيق التي أجرتها “كي تو” الأموال إلى إيران، لكن أفرادًا لم تُذكر أسماؤهم “على دراية بالقطاع المالي العراقي” أخبروا المدققين أن غلام له علاقات بـ”إيران وجماعات الميليشيات المدعومة من إيران”.
وقال أحدهم إن غلام أرسل لإيران أكثر من مليار دولار في سنة 2021. وقال آخر لمراجعي الحسابات إنه قام بتهريب أموال نقدية وسبائك ذهبية إلى لبنان وسوريا وإيران نيابة عن رئيس وزراء عراقي سابق. وأفادت عمليات التدقيق بأنه لم يكن من الممكن التحقق من صحة العلاقات التي تم الإبلاغ عنها بين غلام وأفراد وكيانات إيرانية وحليفة لإيران.
قال الأشخاص الذين تمت مقابلتهم للمدققين إن غلام كان على صلة بحمد الموسوي الذي ساعده على إقامة علاقات مع الميليشيات المتحالفة مع إيران ومع السفارة الإيرانية في بغداد. وفرضت الولايات المتحدة عقوبات على الموسوي – وهو مصرفي عراقي – بتهمة غسل الأموال ودعم الجماعات المصنفة إرهابية.
كان الموسوي يمتلك بنك الهدى في بغداد، وهو أحد البنوك المحظورة والخاضعة للعقوبات الأمريكية أيضًا. وقال بيان لوزارة الخزانة الأمريكية في كانون الثاني/يناير إن البنك “استغل وصوله إلى الدولار الأمريكي” لإرسال أموال إلى الحرس الثوري الإيراني وكتائب حزب الله، وهي جماعة ميليشيا عراقية لها علاقات مع طهران صنفتها الولايات المتحدة منظمةً إرهابية.
وجاء في البيان أن الموسوي “تلقى توجيهات” من فيلق القدس، الجناح شبه العسكري للحرس الثوري الإيراني، لإنشاء البنك في سنة 2008 “واستخدم وثائق مزوّرة لتنفيذ تحويلات مالية لا تقل عن 6 مليارات دولار من العراق”.
قال غلام إنه يعرف الموسوي منذ سنوات لكنه لم يتواصل معه كثيرًا منذ سنة 2018. ولم يستجب الموسوي لطلبات التعليق. وقال غلام إنه لا يزال يأمل أن يستعيد الاحتياطي الفيدرالي إمكانية حصوله على الدولارات، وهو ما قال مسؤولون أمريكيون إنه أمر مستبعد.
ذكر مسؤولون أمريكيون ومصرفيون عراقيون إن الحملة الأمريكية قللت إلى حد كبير من المعاملات غير المشروعة بالدولار التي تتم من قبل البنوك العراقية.
وأكد مسؤولون أمريكيون أن بنك الاحتياطي الفيدرالي لا يزال يتعامل مع بعض التحويلات من البنوك العراقية ولكن فقط بعد التحقق من متلقي الدولارات من قبل “كي تو”. ويخطط البنك المركزي العراقي في نهاية المطاف لتوجيه جميع المعاملات البنكية العراقية عبر البنوك الدولية، بدلاً من البنك الفيدرالي.
أفاد العلاق، محافظ البنك المركزي العراقي، لوكالة الأنباء التي تديرها الدولة في البلاد: “نحن نخطط بحلول نهاية العام للوصول إلى نسبة 100 بالمائة للتحويلات الخارجية بين البنوك العراقية والبنوك المراسلة دون المرور عبر الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي”.
وبناءً على إلحاح من بنك الاحتياطي الفيدرالي، أنشأ البنك المركزي العراقي برنامجًا تجريبيًا تقوم فيه أربعة بنوك عراقية بمعالجة التحويلات بالدولار من خلال سيتي غروب، ويقوم البرنامج بالتحقق من وجهة الأموال قبل الموافقة على التحويل. يتدفق الآن ما يصل إلى 800 مليون دولار أسبوعيًا من خلال البرنامج، وفقًا للوائح الدولية القياسية. ورفضت كارين كيرنز المتحدثة باسم سيتي بنك التعليق على البرنامج.
وحسب ما قاله نيلسون، وكيل وزارة الخزانة الأمريكية السابق، للصحيفة، فإن التحركات الأمريكية لم توقف محاولات طهران لاستخدام العراق كمصدر للدولارات، إذ “لا تزال إيران تسعى إلى إساءة استخدام النظام المالي الدولي ليس فقط في العراق، وإنما في جميع أنحاء المنطقة، وبصراحة أينما أتيحت لهم الفرصة للقيام بذلك”.
المصدر: وول ستريت جورنال