هل هانت تونس على أهلها؟
إنها تونس ولحظتها الهشة. لا يعلم القائم من نومه فيها ماذا يفعل بيومه. حتى العودة إلى المدارس وقد كانت احتفالًا عائليًا صارت كابوسًا ممضًّا، فالأسر تحتار في كلفة تجهيز تلميذ واحد فما بالك بمن زاد. نزل غيث كثير في أماكن كثيرة وانتشرت موضة الإخبار عن الغيث في السوشيال ميديا كتعزية لقوم فقدوا القدرة على تناول حبة تفاح. لقد زادت مناسيب الخوف والقرف من أحاديث السياسة.
اتقدت بورصة العاطفة إثر الإعلان عن انتخابات رئاسية وتحمس الكثيرون وزكوا مرشحين مغامرين بوضع أسمائهم في قائمات اسمية قد تقع بيد رقيب، لكن رفض المرشحين الثلاثة نزل كموجة صقيع على فورة الحماس، فبردت واستبد بالجميع السؤال أين نحن ذاهبون؟ وكاتب المقال لا يملك الإجابة لكنه يعاين الهشاشة.
هل كان على المرشحين المقصيين أن يتحدوا؟
في وضع الهشاشة يبدو كل صواب احتمالًا غير يقيني. لقد آثر المقصيون وأعني الثلاثة الذين حكمت لهم المحكمة الإدارية ضد قرار الهيئة الانتخابية أن يواصلوا التظلم القانوني وسمعنا منهم الحديث عن القضاء الدولي، لكن لم نر أي بادرة تحريك الجمهور المتحمس لهم، فقد لزموا الصمت بحجة أن إثارة الشارع تعطي مفعولًا عكسيًا.
هل لديهم علم كامل بمزاج الجمهور لو أثاروه في طلب حق؟ يذهب بنا الشك إلى أن ليس لهم جمهور حقيقي مستعد للتضحية بنفسه من أجل فرض حقه وحقهم بقوة الشارع، لذلك آثروا العمل القانوني ومن خارج البلد أيضًا. هل توقف الشارع عن منح ثقته للسياسيين؟ وغلبه الحذر والتحوّط من المواجهة.
احترامًا لقارئ محتمل نقول إن أي حديث عن مزاج الشارع في تونس هو ضرب من الشعوذة، فقد أصيب الشارع بخيبة كبيرة من نخبته ولا حيلة لنا لفهم تكيفه مع الهشاشة السائدة، ونعتبر أن بقاء المرشحين في وضع النضال من الخارج وبأحاديث افتراضية فيه استهانة كبيرة بالناس. نخب لا تدفع كلفة نهوضها إلى المسؤولية، لا تعطي الشارع أي دافع للنضال من أجلها وهي تخشى أن تتقدم الصفوف. لماذا لم يتحد الثلاثة في بيان واحد ويقودوا شارعًا موحدًا؟ سيضطرهم الزمن إلى الإجابة عن هذا السؤال لكن بعد فوات الأوان. وكل إجابة ستكون تبريرًا لنضال بأقل كلفة ممكنة. نضال لا يكسب ثقة الجمهور.
التمسك بقشة المرشح الأخير
ظهر ميل هادئ للمرشح الباقي مع الرئيس ومع زلمته (مرشح ثان على نفس القاعدة الخاصة بالرئيس) السيد الزمال يتنقل الآن بين السجون وليس بين الاجتماعات الانتخابية والتهم تتوالي ولا يبت فيها، وكلها تشكيك في التزكيات الشعبية التي جمعها بصمت. وجمهور مثقف أو متعلم يعبر عن آرائه في الفيسبوك التونسي عن الرضا بالمرشح الأخير، محاولين تأليف سيرة سياسية له.
هل يكون هو المنقذ من الهشاشة؟ بعض الحماس له مبني حتى الآن على فكرة التصويت العقابي أي ضد من يسجنه، لكن هذا تصويت عاطفي قد لا يتفق فيه الكثيرون، لذلك فإن فكرة المقاطعة اليائسة لا تزال رائجة في قطاعات واسعة تقول لا جدوى من استبدال الثوم بالبصل، ولأن المرشح لن يتكلم في حملة انتخابية فإنه حتى اللحظة لا يملك سوى رصيد عاطفي يزداد ببطء بقدر ما يزداد التنكيل بالمرشح. هل هذا كاف للذهاب إلى الصندوق؟ هذه علامة هشاشة فاجعة. سيذهب الناس للصندوق مترددين وبنسب ضعيفة وبلا يقين من خلاص. سيقول أكثرهم حكمة قد تنجينا القشة من الغرق.
حراك إداري غير مفهوم
حدث في الأثناء تعديل حكومي واسع لم نقرأ فيه رأيًا موحدًا ولم نصل بدورنا إلى قراءة مستقرة، أعقب ذلك تعديل في قائمة الولاة (المحافظين) وفوجئنا بعزل ولاة الرئيس الذين اعتمد عليهم مند 25-07 وحل محلهم إداريون بلا أسماء ولا سير مثلهم مثل الوزراء.
بعض التأويلات ترى أن هذه التعديلات هي بخار صراع أجهزة اتخذت قرارًا بالحفاظ على هيئة الدولة من تغيير جذري يحمله الرئيس، وهي بالتالي تسحب الإدارة من تحته قبل إسقاطه أو في أقل الاحتمالات الإبقاء عليه في قصره دون أن تمتد يده إلى الدولة، وهذا تأويل يستهين بعناد الرئيس وإصراره على مشروعه، ونظن الأجهزة الصلبة أعلم به وبسلوكه من الناس الذين يفتقدون إلى المعلومات.
ترد تحليلات أخرى بأن هذه التعديلات تعبر عن عزيمة الرئيس واستعداده لمرحلة ما بعد الانتخابات وقد ضمن فوزه قبل الصندوق، وهذا التأويل يقوم بدور الضربة الأخيرة على الرأس ويرفع مناسيب اليأس وبالتالي المقاطعة فالأمر محسوم. واختلاف التأويلات بل تنافرها وتناقضها هو أكبر علامة على فقدان الصواب وتيه القراءة، وبالتالي توسيع رقعة الهشاشة في أوساط الجمهور.
نختم بصورة أدبية في وضع صار الشعر فيه لغوًا ونراها تلخص وضع تونس وشعبها. رجل ينزل منحدرًا حادًا وبين يديه قصعة ماء والرهان أن لا يخرج الماء من القصعة حتى يصل السفح ويستقر بقصعته.
يجب أن لا تحدث فوضى وأن لا يجوع الناس وأن يتوقفوا عن الهجرة الانتحارية وأن تتحسن مؤشرات الاقتصاد ليجد الناس رزقًا وأن تصلح المدرسة وأن يصير للدبلوم التونسي قيمته القديمة في سوق العمل وأن يصلح حال الزراعة والتجارة ويخف التداين. فمن لتونس يحمل قصعة مائها في المنحدر حتى تستقر؟
هل بلغت تونس هذا المستوى من الهشاشة في تاريخها؟ يفيق المرء فيها صباحًا ولا يعلم ماذا يفعل في يومه، فينتظر ليله ليتوقف عن طرح السؤال عن الغد.