عديدة هي الأنواع الموسيقية التي تعبر عن ثقافة ما وترمز لمعاناة فئة لم تجد في غير الفن وسيلة للتعبير عن مأساتها، من ذلك موسيقى “الكناوة” التي أضحت عنوانًا رئيسيًا للثقافة الزنجية، وصوتًا عابرًا للزمان والمكان للمأساة الإفريقية التي حملها رقيق إفريقيا جنوب الصحراء في رحلتهم إلى المغرب الأقصى.
الرقص على نغمات “الكنبري”
موسيقى ذات حساسية خاصة تؤرخ لمعاناة الرقيق السود الذين استقدموا من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء للعمل في القصور الملكية المغربية، قبل أن يعتنقوا الإسلام ويؤسسوا طريقتهم الصوفية الخاصة بهم المتأثرة بالطقوس الإفريقية القديمة والعادات الإسلامية المنتشرة حينها في المغرب، كما تروي حكاية تعايش العربي والأمازيغي والإفريقي المسلم على أرض المغرب.
يعود انتشار “الكناوة” في المغرب وفقًا لعدد من العارفين بتاريخ هذا الفن إلى القرن الـ16
تقوم عروض فرق كناوة على الرقص على نغمات “الكنبري” وتنويعاته المختلفة من “هجهوج” و”سنتير” وأوتاره الثلاث، الوسطية والتحتية والفوقية (آلة وترية تستعمل في العزف)، والطبول والقراقب (صنوج حديدية تأخذ شكل رقم 8، وتُستعمل باليدين بتصادم الجزئين).
ويرتدي أعضاء الفرقة في أثناء العرض، ألبسة بألوان فاقعة وقبعات مرصعة بالأحجار، وتحمل كل فرقة من الفرق المشاركة أعلامًا ملونة، وترتدي أزياءً فاقعة الألوان وقبعات مرصعة بالأحجار، تختلف دلالتها في الأسطورة الشعبية بين فرق الكناوة ذات العمق الإفريقي والفرق العشبية الصوفية.
الصويرة.. مهد الكناوة
لكل فن مهد، ومهد تطور الكناوة هي دون اختلاف مدينة الصويرة التي يطلق عليها قديمًا “موغادور”، وقد شكلت هذه المدينة المغربية مهد تطور هذا الفن الشعبي الروحاني والمقصد الأول لكبار الموسيقيين العالميين الذين جذبتهم الرغبة في توظيف الإيقاعات الكناوية وإدماجها في محاورات موسيقية تجريبية.
في كل سنة، منذ عام 1998، وهذه المدينة المصنفة تراثًا عالميًا من منظمة اليونيسكو تحتضن مهرجانًا يحتفي بهذا الفن بعنوان “كناوة وموسيقى العالم”، وخلاله تستقبل المدينة آلاف الجماهير للاستمتاع بهذا الفن النبيل الغاية في الروعة، كما تستقبل خلال المهرجان كبار الموسيقيين العالميين القادمين من عوالم الجاز والبلوز والروك الذين رغبوا في توظيف الإيقاعات الكناوية وإدماجها في محاورات موسيقية تجريبية.
لإن اتفق المغاربة أن مدينة “الصويرة” مهد تطور هذه الموسيقى، إلا أنهم اختلفوا في أصلها، فبعضهم يرجعه إلى عاصمة مالي “تمبكتو”، فيما يقول آخرون إن أصلها يعود إلى السودان، كما يرجعها البعض الآخر إلى أرض السنغال.
ويعود انتشار الكناوة في المغرب وفقًا لعدد من العارفين بتاريخ هذا الفن إلى القرن الـ16، ففي تلك الفترة ازدهرت الحروب وتجارة الرقيق، حيث جيء بالرقيق وأسرى الحرب إلى المغرب، وتزوجوا واختلطوا بباقي المغاربة، إلا أنهم تمسكوا بتقاليدهم وحنينهم إلى أرض الأجداد وألفوا موسيقى الكناوة.
الكناوة.. موسيقى الأرواح
قديمًا، قبل بداية تنظيم مهرجان الصويرة الدولي ومعانقة هذه الموسيقى للعالمية، ظلت الكناوة لعقود طويلة منحصرة في فضاءات شعبية ومواسم جماعية غريبة في كنف الزوايا المنتشرة في كامل أنحاء المملكة المغربية.
لهذا ارتبط هذا الفن قديمًا بالشعوذة والممارسات الغيبية ومداواة الأمراض النفسية والمس بالجن وغيرها من المعتقدات الشعبية، فهي لا تختلف كثيرًا عن أنواع موسيقية مغربية أخرى مرتبطة بهذا الجانب مثل “عيساوة” أو “حماشة”، ويخلط أهل كناوة في موسيقاهم بين سيرة النبي محمد صل الله عليه وسلم وصحابته وكبار المتصوفة والقوى الخفية الخارقة (الأرواح والجن) الآتية من معتقدات سكان الأدغال الإفريقية ورواسب التقاليد الوثنية التي ترتكز على تقديس السلف.
تعتبر الكناوة ليلة النصف من شعبان أفضل موسم للتواصل مع الجن
تقول دراسات إن الكناوة بطقوسها وأدائها الغنائي ورقصاتها وشطحاتها تصبح ذات نجاعة شفائية انطلاقًا من اعتقاد شعبي راسخ بوجود عالم موازٍ لعالمنا المرئي تسكنه أرواح خفية، وهو عالم في اتصال دائم مع أفعالنا وأقوالنا.
ويعتمد الاستشفاء في “الليلة الكناوية” أساسًا على جو من الاحتفال والاحتضان الجماعي للمريض، كما تلعب الموسيقى والإيقاع وما يصاحبهما من طقوس وألوان وأبخرة، دورًا مهمًا في تخليص الجسد من أعبائه، حسب دراسة بعنوان “كناوة: إضاءة ثلاثية في التاريخ والأنثربولوجيا والتحليل الموسيقي”.
وتحيي الكناوة مناسبات دينية عديدة، أبرزها ليلة النصف من شعبان، فهي تعتبر أن النصف الثاني من شعبان أفضل موسم للتواصل مع الجن والتفاوض مع ملوكهم، كما يحيون ما يسمى “الليلة الدردبة” ويكون ذلك بطلب من شخص يبتغي الشفاء فهو يعتقد أن المكروه أو الحظ العاثر الذي أصابه بفعل تدخل من كائن خفي.
والدردبة تعني نزول الجن، فالقصد إذًا استحضار ملوك الجن، لغرض شفائي، وتنقسم هذه الليلة إلى قسمين: عام، يمكن أن يشاهده الجميع، ويحصل في الشارع بقصد طرد الأرواح الشريرة عن طريق القرع بالطبول، وخاص، يحدث في منزل أحد شيوخ الطريقة ويقتصر على المنتظمين فيها والشخص الذي يقصدها للعلاج.
https://www.youtube.com/watch?v=IZD_HENCPZ0
تتطلب هذه المرحلة توفير معدات ومستلزمات مثل المناديل الملونة والأبخرة، وخصوصًا “الجاوي”، وهو أهم الأبخرة في الليلة الكناوية، له ثلاثة ألوان، الأبيض والأسود والأحمر، ويستغنى فيها عن الطبول ويحتكم إلى عود “الكنبري” ويلبس فيها كل مريد بما يرمز إلى ملك خاص، كعبد القادر الجيلاني المعرف بالأبيض أو سيدي حمو المعرف بالأحمر.
وفي فترة الملوك، يقوم “المعلم” وهو رئيس المجموعة الموسيقية الكناوية الذي اكتسب اللقب بفضل مراسه وخبرته القوية، بتمرير سلسلة من الأغاني وفق 8 محلات توافق سبع ألوان، لكل لون ألحانه ومستلزماته من المعدات والبخور مما توفره المُقدِمة وهي “سيدة الليلة” التي تلعب دور العرافة وتقود الراغبين في الاستشفاء إلى التماهي مع لون معين يناسب نفسيتهم وطبيعة الروح التي تسكنهم.