تواصل قضية -بل فضيحة- التنصت التي يديرها مكتب رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، تتفاعل في العراق، وتطرح أسئلة في كل اتجاه، على رأسها احتمال تأثيرها على العلاقات الاستخباراتية بين بغداد وواشنطن.
ويعد التعاون الأمني والاستخباراتي بين أمريكا والعراق حجر الزاوية في جهود مكافحة الإرهاب بالمنطقة، ومع انكشاف خروقات أمنية داخل الحكومة العراقية، يبقى التساؤل حول مدى تأثير هذه الأزمة على استمرارية تبادل المعلومات الحسّاسة بين البلدَين.
شبكة تنصُّت.. ما القصة؟
كشفت تقارير إعلامية عن صدور أوامر اعتقال بحق مسؤولين كبار في مكتب رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، بسبب تورطهم في إدارة شبكة تنصت على المكالمات الهاتفية، جرى الكشف عنها داخل القصر الحكومي في بغداد أواخر الشهر الماضي.
وأعلنت السلطات العراقية في 20 أغسطس/ آب 2024 أنها كشفت عن شبكة “تنصت وابتزاز” تعمل داخل القصر الحكومي، حيث يمارس السوداني عمله اليومي، واستهدفت أنشطتها كبار القادة السياسيين وأعضاء البرلمان وكبار المسؤولين والقضاة ورجال الأعمال.
ونقلت صحيفة “نيو ريجون” الأمريكية عن مسؤولين عراقيين لديهم اطّلاع على التحقيقات، أن أبرز من صدرت بحقهم أوامر اعتقال السكرتير العسكري للسوداني الفريق أول عبد الكريم السوداني، ومدير مكتب السوداني إحسان العوادي، وأحمد إبراهيم السوداني مدير مكتب رئيس جهاز المخابرات.
ووصف مراقبون الكشف عن شبكة التنصت داخل مكتب رئيس الوزراء، بأنه أكبر فضيحة تضرب رئيس الحكومة منذ توليه منصبه في أكتوبر/ تشرين الأول 2022، ويعدّ محمد جوحي، مساعد مدير الإدارة في مكتب رئيس الوزراء، أبرز المعتقلين السبعة الذين يجري التحقيق معهم بشأن هذه القضية المثيرة للجدل في الأوساط العراقية.
يأتي ذلك فيما استبعد سياسيون عراقيون تورُّط رئيس الوزراء العراقي بشبكة “التنصت والابتزاز”، التي جرى اعتقال عدد كبير من أفرادها خلال الأيام الماضية. ويشير معهد واشنطن إلى أن عمليات التنصت استهدفت جميع الشخصيات السياسية الكبرى في العراق تقريبًا، من خلال اختراق أو مراقبة أجهزة الاتصال الخاصة بها.
ومن أبرز المستهدفين كان رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي فائق زيدان، ورئيس الوزراء السابق نوري المالكي وصهره، ورئيس مجلس النواب السابق محمد الحلبوسي، فضلًا عن عدد من كبار قادة الإطار التنسيقي الحاكم في العراق.
وأشار المعهد الأمريكي إلى أن خلية التنصت حاولت الإيقاع بشخصيات سياسية مختلفة وإعداد ملفات مسيئة لها، ومن بين هذه الشخصيات أعضاء في مجلس النواب ومسؤولين قضائيين وضباط استخبارات وأفراد العائلات من النساء لشخصيات هامّة.
وقالت النائب سروة عبد الواحد في 20 أغسطس/ آب الماضي، إن “محمد جوحي الذي زوّر وهدد وأرسل أخبارًا مفبركة إلى النواب ليس المتهم الوحيد بانتحال الصفة، فهناك شخص اسمه جهاد يدّعي أنه مستشار رئيس مجلس الوزراء، والآن يجري التحقيق معه أيضًا بسبب إساءته إلى رئيس الوزراء من خلال استخدام اسمه وتهديده للنساء وإهانتهن، والقضية الآن أمام القضاء”.
وطالبت عبد الواحد مكتب رئيس الوزراء بمتابعة الإجراءات وعدم التنازل عن حقه، ليكون هؤلاء عبرةً لكل مبتز رخيص يمارس ابتزازه باسم السلطات.
ويؤكد مراقبون أن هذه الشبكة، سواء كانت بعلم وموافقة السوداني أو من دون علمه، تمثّل خرقًا كبيرًا وضربة قوية لقوى الإطار التنسيقي.
من جهته، قال فادي الشمري، وهو أحد مستشاري رئيس الحكومة، في مقابلة إعلامية في 6 أيلول/ سبتمبر الجاري، إن ما يثار حول قضية التنصت وما حدث خلال الأسبوعين الأخيرين هو “مجرد تضخيم إعلامي يخالف الواقع والحقيقة”.
وفي السياق ذاته، يعتقد الخبير الأمني فاضل أبو رغيف، أن قضية التنصت لم ترقَ إلى مستوى “فضيحة”، لكن الإعلام سوّقها بطريقة مشوّهة وقاصرة، فالخلية كانت مجموعة ابتزاز وانتحال صفة تقمصت أدوارها، وهي تعمل ضمن مكتب رئيس الوزراء.
وينوّه أبو رغيف في حديثه لـ”نون بوست” إلى أن مكتب رئيس الوزراء هو من قام بتسليم المتهم الرئيس محمد جوحي، قبل أن تقوم الأجهزة الأمنية باعتقال المتهمين الآخرين.
اختراق المخابرات
وكشفت التسريبات التي خرجت من غرف التحقيق عن استخدام جوحي وشبكته ممتلكات “جهاز المخابرات الوطني العراقي” ومعدّاته ومركباته لتنفيذ خطة التنصّت. وأوضح تقرير معهد واشنطن أن عملية تسييس جهاز المخابرات الوطني العراقي بدأت في أوائل عام 2023، عندما قام رئيس الوزراء محمد شياع السوداني بتعيين قريبه أحمد في إدارة الجهاز بالنيابة.
وأشار التقرير إلى أن الجهاز الذي أسّسته ودرّبته وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية على مدار 20 عامًا، كان يُعتبر معقلًا للثقة بين العراق والولايات المتحدة، لكن هذه التغييرات أدّت إلى تراجع ثقة الحلفاء الدوليين بالجهاز بسبب التدخلات السياسية.
ونوّه إلى أن حكومة السوداني قامت منذ عام 2022 بتطهير جهاز المخابرات من الضباط الموثوقين لدى الولايات المتحدة، واستبدلتهم بعناصر موالية للميليشيات المدعومة من إيران.
ويلفت التقرير إلى أن جهاز المخابرات الوطني العراقي كان يعدّ أحد الأجهزة القليلة التي حافظت على ثقة الولايات المتحدة والحكومات الغربية، لكن التغيرات السياسية التي طالته زعزعت الثقة فيه، ما أدّى إلى تقليص حجم التعاون الأمني والاستخباراتي بين العراق وحلفائه الغربيين.
بدوره ذكر معهد الشرق الأوسط في واشنطن، أن الميليشيات المدعومة من إيران داخل قوات الحشد الشعبي العراقية عززت نفوذها داخل المؤسسات الأمنية منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2022، حيث شغل أفراد مرتبطون بهذه الميليشيات مناصب رئيسية داخل جهاز المخابرات الوطني العراقي وجهاز الأمن الوطني، من بين كيانات أخرى.
لكن الخبير أبو رغيف ينفي بشكل قاطع وجود أي اختراق من قبل أي مجموعة لجهاز المخابرات الوطني العراقي، كونه يمتاز بالدقة والحرفية العالية، وحقق نجاحات كبيرة ضد الإرهاب والجريمة المنظمة.
تداعيات خطيرة
تنذر قضية التنصت بتداعيات خطيرة تهدد المشهد السياسي والأمني في العراق، مع تزايد المخاوف بشأن مستقبل التعاون الاستخباراتي وثقة المجتمع الدولي، وهذا قد يؤدي إلى عزلة أكبر للعراق وتدهور العلاقات مع القوى الغربية، ما يعمّق الأزمات الداخلية.
ويعتقد الكاتب والباحث السياسي وقاص القاضي، أن تداعيات قضية التنصت لن تقف ضمن حدود العراق، بل من المؤكد أنها ستتعدّاها وصولًا إلى الدول التي أعلنت دعمها لحكومة السوداني، إذ سيتوجّس الجميع من مخاطر تسرُّب المعلومات إذا ما تبيّن أن إيران أو روسيا طرفان بشكل مباشر أو غير مباشر بالفضيحة، عبر تزويد العراق بأجهزة أو تقنيات فنية خاصة بالأمن السيبراني.
ويرى القاضي في حديثه لـ”نون بوست” أن قضية شبكة التجسس التي كُشف عنها داخل مكتب السوداني، تؤكد بما لا يقبل الشك انهيار جسور الثقة بين قوى ائتلاف الدولة، ويتجلى ذلك من خلال تصريحات النائب عن حركة العصائب، علي تركي، بأن عمليات التنصت لم تقتصر على سياسيين فحسب، بل طالت المراجع الدينية وزعماء في “محور المقاومة”، والذي أدى إلى اغتيال بعضهم على حدّ قوله.
ويؤكد القاضي أن “فضيحة شبكة التجسس، ورغم محاولات لجنة الأمن والدفاع النيابية التقليل من آثارها بزعم أنها أخذت حيزًا أكبر من قدره، لكنها وثّقت بالدليل أن العراق ما زال هشًّا يفتقر إلى مفهوم دولة المؤسسات التي من المفترض أنها خط أحمر يُحرّم على الخصوم استغلالها ضمن الصراع على السلطة”.
مخاوف أمريكية
تُثير قضية التنصت تساؤلات كثيرة حول مصير العلاقات الأمنية والاستخباراتية بين العراق والولايات المتحدة، التي بدأت في مراجعة استراتيجياتها وتعاملها مع الحكومة العراقية، خصوصًا مع تصاعد مطالب الانسحاب الأمريكي من العراق.
وأشارت التقارير إلى أن واشنطن تواجه معضلة بشأن دعم السوداني في حال ثبوت تورطه في الفضيحة، وقد تلجأ الولايات المتحدة إلى إعادة تقييم موقفها، خصوصًا إذا استغلّت بعض القوى هذا الوضع لتعزيز نفوذها في الحكومة العراقية.
وتتجه الولايات المتحدة -بحسب التقارير- إلى تقييد التعاون الاستخباراتي وتبادل المعلومات الحساسة مع أجهزة الدولة العراقية، مثل جهاز المخابرات الوطني العراقي وجهاز الأمن الوطني، حتى يتم تطهيرها من العناصر السياسية المرتبطة بالميليشيات الموالية لإيران.
بدوره يتوقع أبو رغيف استمرار التعاون الوثيق الحِرفي والمهني والتقني بين بغداد وقوات التحالف الدولي، من خلال الدعم اللوجستي والمعلوماتي وتطوير تسليح وتجهيز القوات العراقية، لا سيما الاستخباراتية منها.
وبحسب تقديرات أبو رغيف، لن يكون هناك تقييد للمعلومات، حتى وإنْ انسحبت القوات الأمريكية من العراق، فإنها ستبقى موفِّرة للجانب المعلوماتي والفني من خلال التسليح والتجهيز والتطوير لرفع المستوى القتالي للقطاعات العراقية.