تعتبر إحدى أبرز مزايا الدولة العثمانية وبعدها الدولة تركيا الحديثة هو مدى الاعتناء بالوقف، فقد أصبح الوقف لدى الأتراك مؤسسات عملاقة لها مشاريعها وخططها القصيرة والبعيدة المدى، بالإضافة لوجودها بأماكن متفرقة من العالم، والمميز فيها أن هذه الأوقاف لم تعتنِ بجانب دون جانب آخر، بل لها جوانب متعددة، تعتني بطلبة العلم والعلماء وكذلك تعتني بالطيور وتجهيز العروس ليلة عرسها، وقد كتب أحدهم من الغرب عندما درس أوقاف تركيا فقال إن الإسلام جعل من الأتراك أكثر متصدقين في العالم.
لماذا الأوقاف؟
تساؤل لطالما يطرح بشكل مستمر أن المسلمين اعتنوا عناية فائقة بالأوقاف، وعلى مدار التاريخ كان للوقف مؤسسات متعددة تعني بجوانب الحياة جميعها، فلم تقتصر على المساجد أو العلماء، ويورد الكاتب محمد حسن القدو في تقرير نشر بموقع “ترك برس” أن الوقف هو “حبس العين عن تمليكها لأحد من العباد والتصدق بالمنفعة على مصرف مباح”.
لعل الوقف يفرق عن الزكاة والصدقة بميزة خاصة له؛ وهي أن فيه ديمومة واستمرارية، وتعود الديمومة لسبب رئيسي وهو أنه تحول لمؤسسة تستطيع المحافظة على إنتاجها واستمرارها
ويشمل الوقف الأصول الثابتة كالعقارات والمزارع وغيرها، والأصول المنقولة التي تبقى عينها بعد الاستفادة منها كالآلات الصناعية والأسلحة، أما التي تذهب عينها بالاستفادة منها فتعتبر صدقة كالنقود والطعام وغيرها، ويختلف الوقف عن الصدقة في أن الأخيرة ينتهي عطاؤها بإنفاقها، أما الوقف فيستمر العين المحبوس في الإنفاق بأوجه الخير حتى بعد الوفاة.
يقول باحثون إن أحد أبرز أسباب استمرار الدولة العثمانية هو عنايتها بالوقف منذ نشأتها، وفي هذا السياق يضيف القدو: “إن إمبراطورية تستمر كل هذه الفترة في هذه المساحات الشاسعة وبأساليب اتصال قديمة بين أقطارها، لا بد أن تكون قد أمّنت لديمومتها ما تغني عن ضعف الاتصالات السائدة في ذاك الزمن بين المركز وولاياتها ومدنها طيلة هذه القرون التي تربعت بها على عرش القوة العالمية بلا منافس”.
لعل الوقف يفرق عن الزكاة والصدقة بميزة خاصة له؛ وهي أن فيه ديمومة واستمرارية، وتعود الديمومة لسبب رئيسي وهو أنه تحول لمؤسسة تستطيع المحافظة على إنتاجها واستمرارها، وفي نفس الوقت القائمون عليه موظفون يتقاضون أجورهم من أموال الوقف.
غرائب وعجائب الأوقاف في العهد العثماني
إن المتتبع لتاريخ الأوقاف في تركيا منذ بداية الدولة العثمانية يجد لها اهتمامات عجيبة وغريبة وعلى أصعدة متفرقة من نواحي الحياة، فلم تقتصر على المساجد أو طلبة العلم الشرعي، بل تعدى نفعها إلى المرافق العامة وحاجات البشر بأشكالها المختلفة، وهنا نورد مجموعة من هذه الأوقاف، أهمها:
– وقف بيت الطيور في إسطنبول: وهو مأوى وعشش للطيور بنيت من الحجر بطريقة هندسية رائعة وكأنها تحفة فنية نادرة في الشكل والمقصد، تزيد المدينة جمالًا ورونقًا، حيث توفر الحماية للطيور وتؤمن متطلباتها من مأكل ومشرب، شيدت من أموال الوقف ويصرف عليها كذلك من المؤسسة الوقفية في الحضارة العثمانية، وما زال هذا الوقف متعة للناظرين والسائحين.
– خان المسافرين (كروان سراي): وهو مأوى يوفر لابن السبيل والمسافرين سبل الراحة والمعيشة والأمان، من إيواء وطعام وشراب واستحمام، ويوفر سبل الراحة لـ3 أيام، وبعدها يترك المجال لغيره ليستفيد مسافر آخر من ذلك الخان.
– وقف (لكل محتاج فاكهة): خصص هذا الوقف لتوفير سلال الفاكهة لكل محتاج ومريض، لأن الفاكهة في موسمها تكثر ويتمتع بأكلها أهل القدرة على الشراء، وأما الفقير فالوقف يوفر له ولأطفاله سلة من الفاكهة بين حين وآخر.
– وقف إطعام الطيور في وقت الثلوج: وخصص هذا الوقف لتوفير الذرة ونثرها على الثلوج لكيلا تموت الطيور من الجوع في فصل الشتاء، وعندما يكسو الثلج الأرض وتنقطع بالطيور سبل التقاط الطعام، وكان يموت بعض منها من الجوع، فكان هذا الوقف امتثالًا لقوله (صلى الله تعالى عليه وسلم): “وفي كل كبد رطب أجر”.
التنوع بالأوقاف يعطي القارئ صورة واضحة عن مدى عناية الوقف بحاجة الحيوانات على سبيل المثال، فترى وقفًا للطيور وطعامها ومسكنها، فضلًا عن عنايته بحاجات البشر كتجهيز العروس، وحاجة العلماء إلى المحابر فجعل لهم وقف الحبر، ولم يدع أهل الحاجة من الحمالين وأصحاب القوارب بل جعلهم جزءًا لا يتجزأ من اهتماماته
– وقف تجهيز العروس: وهذا الوقف خصص لتوفير جهاز للعروس الفقيرة التي تريد الزواج، ولا تجد ما يجعلها كمثيلاتها من النساء، فتأخذ ما تريد من باب الإعارة من كساء ومجوهرات وأدوات للتزين.
– وقف الحبر: وهو وقف خصص لتزويد العلماء والنساخ بالحبر حتى يستمر تأليفهم ونسخهم للكتب، وهذا من تقديرهم لمكانة العلم والعلماء، ونشر العلم بنشر الكتب.
– وقف أصحاب القوارب والحمالين: وخُصص لمساعدة كبار السن من أصحاب القوارب والحمالين الذين لا يتمكنون من الاستمرار في العمل بسبب كبر السن، فيحفظ كرامتهم ويرعى حاجاتهم.
إن هذا التنوع بالأوقاف يعطي القارئ صورة واضحة عن مدى عناية الوقف بحاجة الحيوانات، فترى هناك وقف للطيور وللطعام وللسكن، فضلًا عن عنايته بحاجات البشر كتجهيز العروس، وحاجة العلماء إلى المحابر فجعل لهم وقف الحبر، ولم يدع أهل الحاجة من الحمالين وأصحاب القوارب بل جعلهم جزءًا لا يتجزأ من اهتماماته.
ما أهم الأوقاف في تركيا الحديثة؟
بعد أفول نجم الدولة العثمانية وانتهاء الدولة التي حكمت العلماء ما يقارب 600 عام، هل انتهى الوقف برحيلها أم استمر الأحفاد على سنة الأجداد؟ لقد استمر الأتراك على سنة أجدادهم العثمانيين وبقوا مبدعين في استحداث الأوقاف، والأوقاف التركية لها جهود في أنحاء العالم كافة، ويذكر الدكتور مصطفى رباحي في بحث له في مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية عددًا من هذه المؤسسات الوقفية وسنوردها في هذا التقرير بشكل مختصر، ومن أهم هذه الأوقاف:
Kimse yok me .1 وقف ألا يوجد أحد
وهو اسم لإحدى المؤسسات التضامنية التي تأسست عام 2002 في تركيا، وتهدف لتقديم الإغاثة للفقراء والمحتاجين والوقوف معهم لتخفيف معاناتهم وتوفير احتياجاتهم، عن طريق جمع التبرعات من أهل الخير، ولم يتقتصر عملها على تركيا بل انفتحت على معظم أنحاء العالم وقدمت المعونات للمحتاجين نتيجة الكوارث الطبيعية، وأبرز مشروع عرفت به المؤسسة هو العائلات المتآخية، ويقوم على التآخي بين عائلة ميسورة الحال مع عائلة معسورة الحال لتقديم المساعدة لها وتخفيف المعاناة عليها.
2. وقف التحري والإنقاذ: تأسس هذا الوقف بعد زلزال أغسطس 1999، حيث وصل الآلاف من المتطوعين من كل أرجاء تركيا إلى منطقة الزلزال، من بينهم نساء وأطفال وعمال المصانع وأصحاب الشركات ورجال من كل المهن، لم يكن هذا الوقف منظمًا وإنما كان عملًا فرديًا، ولكن بعد هذا العمل قرروا إنشاء وقف التحري والإنقاذ، واحتل المرتبة الأولى على تركيا في عملية الإنقاذ من حيث التنظيم وحركته المستمرة وزيه الموحد وخبرته الطويلة في عمليات الإنقاذ، الوقف له 25 فريقًا في مناطق مختلفة من البلاد، وبعد أن كانوا 7 متطوعين أصبحوا 1200 متطوع.
إن الأوقاف في عهد الدولة العثمانية وعهد تركيا الحديثة عنصر مهم للبحث والكتابة، خصوصًا أن التجربة مميزة ومفيدة من ناحية الإدراة والتنظيم، بالإضافة لعنصر الديمومة والاستمرار لعصور طويلة متتالية
3. وقف تقييم جهود المرأة: تأسس هذا الوقف عام 1986، وهدفه تحسين ظروف النساء ذات الآمال الضعيفة، يعني دعم النساء في أعمالهن ومساعدتهن من أجل تحسين أوضاعهن وأوضاع أولادهن ومكانتهن في مجتمعهن، بالإضافة إلى دعمهن من أجل موقعهن القيادي في العمل والمجتمع، والوقف له مشاريع منها روضات ما قبل المدرسة في المناطق الفقيرة، بالإضافة لدور حضانة (مراكز المرأة والطفولة) في المناطق الفقيرة.
4. وقف آلتي نقطة للمكفوفين: وقد تأسس من أجل مساعدة المحرومين من حاسة البصر، ففتح الوقف مكتبة إلكترونية ليتسنى للمكفوفين مطالعة الكتب، ويقوم متطوعو الوقف بقراءة الكتب على المكفوفين، وفكرة وقف المكتبة مستوحاة من وقف المكتبة السليمانية التي أوقفها السلطان سليمان القانوني.
5. ihh: وقف الإغاثة والحقوق والحرية الإنسانية
أسس هذا الوقف من أجل مد يد المعاونة والمساعدة المادية والمعنوية إلى الأيتام واللاجئين والأرامل والجرحى المتضررين من الحروب والمعارك التي تحصل في العالم، حيث يقدم الوقف الخدمة انطلاقًا من إيمانه ومبادئه الإنسانية دون التحيز للون أو دين أو جنس، وهو منتشر على مستوى 120 دولة، 57 منها إسلامية والبقية غير إسلامية، ويعمل هذا الوقف بنشاط دائم ومستمر، وقد شارك الوقف فيما يعرف بـ “أسطول الحرية” لكسر الحصار عن قطاع غزة عام ٢٠٠٨، وله نشاطات وأعمال متميزة على مستوى العالم، مستمرة إلى يومنا هذا.
إن الأوقاف في عهد الدولة العثمانية وعهد تركيا الحديثة عنصر مهم للبحث والكتابة، خصوصًا أن التجربة مميزة ومفيدة من ناحية الإدراة والتنظيم، بالإضافة لعنصر الديمومة والاستمرار لعصور متتالية دون توقف أو تعطل.