شعورنا بالامتنان حيال كلّ ما هو جميل وجيّد في حياتنا أمرٌ ضروريّ وملحّ، وسواء كان ذلك ناتجًا عن تقديرك للطفِ أحدهم أو لعظمة الخالق أو اعترافًا بهبات الطبيعة ورضاك عنها، فإنّ الشعور به يُثري جميع مجالات التجارب الإنسانية تقريبًا. وبغض النظر عن قدرته على خلق فوائد ملموسة، إلا أنه مما لا شكّ فيه أنّنا نشعر في أفضل لحظات حياتنا أننا ممتنّين لما نعيشه من خير وحرية وعطاء.
ومع ذلك، نجد أنفسنا دومًا محصورين ما بين مطرقتين اثنتين، فمن جهة نحن ممتنّون لبعض التفاصيل الصغيرة، ومن جهةٍ أخرى فإننا محكومونا بطموحاتنا وآمالنا تمامًا كما أنّنا مقيدون برغبتنا بالتحكّم بمصيرنا. فنحن نعلم نظريًا أننا يجب أن نكون ممتنين لما لدينا، ولكن من يوم إلى آخر، نجد أنفسنا أسارى الكفاح والسعي من أجل علاقات أفضل وحياة مهنية أفضل ومجتمعٍ أفضل. فكيف نفهم الامتنان كفضيلةٍ دعت إليها الأديان وعززتها الفلسفة وأكدتها علوم النفس وسط كل تلك التناقضات التي يجد الإنسان نفسه أسيرًا لها؟
كان “الامتنان” على مدى التاريخ ضروريًا لتنظيم العلاقات البشرية وتقويتها لضمان البقاء والاستمرار كما يرى علم النفس التطوّري.
في اللغة، كلمة امتنان مشتقة من “منَنَ”، أي عدّ له ما فعله له من الخير وما قدّمه من فضل. أما في الإنجليزية، فكلمة “gratitude” مشتقة من الكلمة اللاتينية “gratia” والتي تعني الفضل، والكلمة “gratus” التي تعني الرضا. وفي كثيرٍ من لغات العالم، جميع مشتقات المصطلح لها علاقة باللطف والسخاء والعطاء والتقدير. ولو عدنا إلى أصل الحياة البشرية حتى يومنا هذا، لوجدنا أنّ الكثير من جوانبها تدور حول الإعطاء والأخذ وتبادل المنافع والخيرات، ولهذا كان “الامتنان” على مدى التاريخ ضروريًا لتنظيم العلاقات البشرية وتقويتها لضمان البقاء والاستمرار كما يرى علم النفس التطوّري.
الامتنان في الدين والفلسفة
يمتلك مصطلح “الامتنان” معنىً مزدوجًا؛ يمكن أنْ نشير إليهما بمصطلحيْ دنيوي وسماوي. في معناه الدنيوي، فإن الامتنان هو شعور يحدث في التعامل المشترك بين الأشخاص عندما يقرّ أحدهم بفضل آخر عليه. وعليه، فيعرّفه علم النفس الإيجابي بأنه حالة عاطفية ترتبط عادةً بالإدراك بأنّ الشخص قد تلقّى منفعةً أو خيرًا من شخصٍ آخر تبعًا لنواياه الحسنة.
الامتنان هو في صميم وقلب كل التقاليد الدينية والروحانية والثقافات الدنيوية المختلفة، ما يشير إلى أنه جزء جوهريّ وأصيل من نسيج الطبيعة البشرية
أمّا المعنى السماوي للكلمة والمتعارف عليه في الأديان القديمة كما في الإسلام والمسيحية واليهودية، تمامًا كما هو متعارف عليه في التقاليد الروحية الحديثة، فيركّز على فعل الشكر بمثابة استجابة للخالق أو للحياة والطبيعة، بدءًا من تفاصيل الحياة اليومية حتى الحياة ككل. وتختلف الكلمات المتشابهة بالمعنى المتعلقة بالامتنان، فهناك على الشكر والعرفان والحمد والتحدّث بنعمة الله وغيرها.
وبكلماتٍ أخرى، نستطيع القول أنّ الامتنان، بتعريفاته المختلفة، هو في صميم وقلب كل التقاليد الدينية والروحانية والثقافات الدنيوية المختلفة، ما يشير إلى أنه جزء جوهريّ وأصيل من نسيج الطبيعة البشرية. ويمكن تفسير الأمر تبعًا للإدراك البشريّ بأنّ وجودهم وحياتهم لا تحكمها فقط القوى المادية الملموسة، بل أنّ ثمّة ما هو أوسع منها وأكثر تساميًا، قوة غامضة روحية تكسّر نرجسية الأفراد وتمركزهم حول ذواتهم.
وبهذا المعنى، فإن روحانية الامتنان تتعارض مع فكرة أنّ الذات تستحقّ الخدمة أو النعم التي تتمتع بها. وبالتالي، فإنّ الامتنان الحقيقي يقود الناس إلى تجربة مواقف الحياة بطرق تدعوهم إلى الانفتاح على الانخراط مع العالم والآخرين لتقاسم وزيادة الخير الذي يتمتّعون به. إنه الشعور بالارتباط مع الإنسانية الناتج عن الإحساس بالدهشة الذي يجلبه الاشتراك في شبكة الوجود والحياة المعقّدة.
الامتنان في بيئة العمل:
هناك عدد من الأسباب التي تجعل العاملين يفقدون الحافز، أحد تلك العوامل المركزية، وواحدٍ من أهم الأسباب يعود إلى الشعور بعدم التقدير. فقد يبدو الامتنان وكأنه شيء صغير تافه، لكنّ غيابه يؤدي فعلًا لانخفاضٍ حادّ في الإنتاجية. وعندما لا يشعر الفرد بقيمته أو قيمة ما يقوم به فإنه سيتوقف عن بذل قصارى جهده، كما أنه سيفقد الرغبة بالوصول إلى حالٍ أفضل في العمل أو إنتاجية أعلى.
غياب الامتنان والتقدير يؤدي فعلًا لانخفاضٍ حادّ في الإنتاجية فعندما لا يشعر الفرد بقيمته أو قيمة ما يقوم به فإنه سيتوقف عن بذل قصارى جهده
لسنواتٍ طويلة، ركّز المسؤولون وأرباب العمل على الكيفية التي يمكن للخوف فيها أنْ يحرّك الناس ويدفعهم، ولم يدركوا أنّ الامتنان والتقدير هما فعليًّا من أهم المحرّكات والدوافع التي تحفّزهم. ومع ظهور “علم النفس التنظيمي والإداري” في العقود الأخيرة، وهو الفرع الذي يهدف إلى دراسة سلوك الموظّفين في بيئات العمل لتعزيز رفاهيتهم وزيادة الإنتاجية، أصبح التركيز على هذه الفضيلة آخذٌ بالزيادة، خاصّة مع زيادة الأبحاث السيكولوجية الحديثة التي هدفت وتهدف إلى دراسة أثره وسلبيات غيابه ومواضيع أخرى متعلقة به.
يركّز “علم النفس التنظيمي” على تعزيز الامتنان بين الإدرايين والعاملين لما له من فوائد على بيئة العمل
ويمكن إرجاع الفشل في تقديم الامتنان في بيئة العمل إلى عدد من المعتقدات الخاطئة لدى الإداريّين، قد يكون أولها أنّ المال كافٍ يُغني عن كلمات الشكر والتقدير. لكنّ كون المال هو الحافز الوحيد في العمل أثبت عدم فعاليّته وعجزه عن زيادة الإنتاجية وخلق الشعور بالرضا عند الأفراد. فالفكرة القائلة بأن مجرد الدفع لهم يجب أن يكون كافيًا تجعلهم يشعرون بالإهانة وأنهم ليسوا ذي قيمة، نظرًا للإحساس الذي يُفضي بأنّ إرادتهم تُشترى مقابل مبلغٍ من المال.
كما أنّ الاعتقاد الخاطئ بأنّ الخوف والصرامة في الإدارة يؤديان إلى نتائج أفضل من اللُطف والتقدير. وهذا جدالٌ قديم منذ روما القديمة وعهد مكيافيلي الذي جادل بأنّ الناس بطبيعتهم جسالى وجبناء، وأنه لكي يكون المرء قائدًا فعالًا فيجب عليه جعلهم يخافون منه بدلًا من أنْ يحبوه، فوحده الترهيب هو الفعّال بالنسبة له.
تشير الدراسات الحديثة إلى أنّ الامتنان يرتبط ارتباطًا قويًّا بالصحة العقلية والنفسية وسمات الشخصية الإيجابية مثل التفاؤل والتعاطف
الامتنان في العلاج النفسيّ
تشير الدراسات الحديثة إلى أنّ الامتنان يرتبط ارتباطًا قويًّا بالصحة العقلية والنفسية وسمات الشخصية الإيجابية مثل التفاؤل والأمل والتعاطف، إضافةً لكونه يحمي من الدوافع السلية مثل الحسد والجشع والاستياء والشجع وغيرها. كما يمكن للأفراد الذين يمتلكون هذه السمة التعامل بشكلٍ أكثر فاعلية مع قلقهم اليوميّ وإظهار مرونة متزايدة في مواجهته ومواجهة الإجهاد الناجم عن الصدمات النفسية التي قد يمرّون بها، عوضًا عن أنه قد يوفّر حمايةً ضد الاضطرابات النفسية.
ولذلك، فيركّز العلاج النفسي على زرع الامتنان والتقدير كقيمة أساسية ومهمّة في نفوس الأفراد نظرًا للفكرة التي تستدعي أنّنا ومن خلال الامتنان والتقدير لما هو خارجنا فإنّنا نملك القدرة والإمكانية مع ما هو أكبر من أنفسنا وأبعد من ذواتنا وحسب، ما يُعطي شعورًا بالاطمئنان ويفتح أعيننا على اتّساع الحياة بعيدًا عن ضيق الذات وتمركزنا حولها.
إذ ترتكز مشاعر الامتنان على اثنين من الحقائق التي يعالجها الفرد. أولها، التأكيد على الخير أو “الأشياء الجيدة” في حياته. وثانيها هو الاعتراف بأن مصادر هذا الخير تقع على الأقل جزئيًا خارج الذات وبعيدًا عن دائرتها. ولهذا غالبًا ما يسعى المعالِج النفسيّ إلى تحفيز مرضاه على تعداد الأشياء والأمور يشعرون نحوها بالامتنان في حياتهم، مهما كانت صغيرة وبسيطة.
كيف شوّهت الاستهلاكية والتكنولوجيا شعورنا بالامتنان؟
تحفّز الرأسمالية والاستهلاكية طموحاتنا المادية بشكلٍ مستمر ومتزايد، وتخلق شعورًا ملحًّا عند الأفراد بالتفوق على أقرانهم ومن حولهم بشكلٍ أو بآخر، ففقدت المجتمعات الحديثة شعورها بالامتنان والتقدير شيئًا فشيئًا، حتى أصبحت فكرة أن نكون راضين بما لدينا وما نحن عليه تشعرنا بالغرابة، فكلّ ما حولنا يخبرنا أنّ علينا أنْ لا نرضى وألّا نمتنّ أبدًا، وإنما علينا مواصلة السعي نحو التفوّق.
أصبحت فضيلة الامتنان تتضاءل في العصر الحديث، وبتنا نركّز على ما نفتقر إليه أو ما يمتلكه غيرنا لا على ما نمتلكه نحن
كما تخلق تلك المجتمعات خوفًا دائم التدفّق في نفوس أفرادها من اللحظة الحالية واللحظات القادمة، خوفًا من فشلنا في الحصول على متعنا وتحقيق طموحاتنا. الأمر الذي عزّزته وسائل التواصل الاجتماعي ومنصّاتها، خاصة من خلال تعزيز المقارنة الاجتماعية السلبية بين الأفراد، فأصبحنا غير ممتنّين مما نملك وغير راضين عن حياتنا وأنفسنا نظرًا لأننا نطمح بالمزيد أو أننا ننظر لغيرنا ممن نعتقد أنه أفضل منا تبعًا لما تظهره لنا تلك المواقع.
وبكلماتٍ أخرى، أصبحت فضيلة الامتنان تتضاءل في العصر الحديث، وبتنا نركّز على ما نفتقر إليه أو ما يمتلكه غيرنا لا على ما نمتلكه نحن وما هو بين يدينا مما يستدعي منّا تقديره والامتنان له. وأصبحت المقارنة السلبية هي المعيار الذي يحكم العلاقات والروايط الاجتماعية، ما يؤدي إلى تآكلها وتشويه جوهرها.
أما كيف نتخلص من قمع الاستهلاكية لفضائلنا الجيدة، فالأمر ليس بالصعب أبدًا، إذ يمكن اعتبار الامتنان كتحصيلٍ مرتبط بنضجنا العاطفيّ يمكن تعلّمه واكتسابه بالتجربة والخبرة، فنحن لم نتعلّمه بطبيعتنا وحسب، وإنما تعلّمناها ممن حولنا واكتسبناه مع التجربة، فأنتَ تذكر بكلّ تأكيد كيف كان والداك يعلّمانك أن تشكر الله بعد الطعام، أو أنْ تقدّم شكرك لمن حولك حين يستدعي الأمر، تمامًا كما ستفعل مع أبنائك وتزرع فيهم هذه الخصلة.