ترجمة وتحرير: نون بوست
تقع قرية كوجوك كوي الخلابة في شمال غرب تركيا، على بعد ستة أميال فقط من بلدة أيفاليك، المدرجة على قائمة اليونسكو للتراث العالمي. كما تزخر هذه القرية بتاريخ حافل عن الهجرة. وقد تأسست هذه القرية خلال القرن الخامس عشر من قبل الإنكشاريين، وهم جنود قوات النخبة في الإمبراطورية العثمانية. الجدير بالذكر أن القرية استقبلت لأول مرة يونانيين من جزيرة لسبوس، ثم استقبلت في أوائل القرن العشرين البوسنيين الفارين من حروب البلقان. وفي نهاية المطاف، أصبحت القرية مستعمرة تضم الفنانين الذي فروا من المدن الكبرى خلال العقد الماضي.
تستعد القرية المطلة على بحر إيجة لافتتاح مركز للإبداع التكنولوجي في 29 تشرين الأول/ أكتوبر، الموافق لعيد الجمهورية في تركيا، وهو مركز تابع لجامعة صابانجي في إسطنبول. وتجدر الإشارة إلى أن مقر المركز يقع في مدرسة ابتدائية قديمة، حيث يتم تقديم فصول جامعية خلال فصل الصيف. كما يتم توفير تدريب على مدار السنة في مجال التكنولوجيا والفنون للمراهقين الموجودين في المنطقة، فضلا عن تخصيص ورشات عمل دولية حول العلوم والتكنولوجيا والفنون والرياضيات.
تأسست هذه القرية على يد الإنكشاريين الذين استقروا هناك خلال القرن الخامس عشر، بموجب أمر من محمد الثاني الفاتح
في هذا الصدد، أخبرت سيماي دينش، التي اتصلت بكل من بلدية أيفاليك وجامعة صابانجي التركية قبل سنتين من تنفيذ هذا المشروع، موقع المونيتور، أن “افتتاح هذا المركز سيمثل خطوة إضافية نحو جعل هذه القرية مركزا للتكنولوجيا والفنون”. كما أضافت دينش أن “هذا المركز سيكون الركيزة الأساسية لرحلتنا، التي ستمتد على خمس سنوات، والتي تهدف إلى تحويل هذا الموقع إلى قرية ذكية صديقة للبيئة، حيث لن يرحب بالمواهب المحلية فقط بل بالدولية أيضا”.
في الحقيقة،، و يعني اسم القرية “كوجوك كوي” حرفيا “القرية الصغيرة” باللغة التركيةقد تأسست هذه القرية على يد الإنكشاريين الذين استقروا هناك خلال القرن الخامس عشر، بموجب أمر من محمد الثاني الفاتح. وكانت أنظار السلطان الشاب الذي حقق النصر باستيلائه على مدينة إسطنبول، مسلطة على جزيرة لسبوس، التي رغم صغر مساحتها كانت ثرية بالموارد، علما وأنه في نهاية الأمر أعلن سيطرته الكلية عليها سنة 1462. وفي السياق ذاته، أرسل محمد الثاني الفاتح 300 من جنوده إلى ساحل الأناضول الغربي الذي يقع على الطرف المقابل من الجزيرة التي احتلها، للتأكد من أن سكان الجزر لن يفكروا في التمرد أو رفض دفع الضرائب التي فرضها عليهم الباب العالي (الحكومة العثمانية).
نتيجة لذلك، أقامت القوات الإنكشارية قرية على الأرض الخصبة بين بساتين الزيتون والشاطئ الرملي، والتي عرفت باسم “ينيشارهوري” أو “بيت الإنكشاريين”. وسرعان ما انضم إلى هذه القوات مهاجرون من لسبوس، حيث بنوا منازل يونانية تقليدية باستخدام صخور مربعة الشكل، كما شيدوا حدائق في الجهة الخلفية لهذه المنازل.
منظر لقرية كوجوك كوي بتاريخ 10 شباط/ فبراير 2018.
بعد مرور خمسة قرون، انضم البوسنيون من الجبل الأسود، الذين هربوا من حروب البلقان، إلى الأتراك واليونانيين، حيث أسسوا منازلهم الخاصة كما فتحوا مقاهي صغيرة تقدم الشاي والمعجنات التقليدية المعروفة باسم “الفطائر البوسنية”. وفي أوائل القرن العشرين، غادر اليونانيون الجزيرة، إثر التبادل السكاني بين اليونان وتركيا الذي وقع بعد انتهاء حرب الاستقلال التركية. ونتيجة لذلك، استولى كل من الأتراك والبوسنيون المحليون على بعض من منازل اليونانيين. لكن القرية كانت في حالة من الفوضى إلى حين تدفق الموجة الأخيرة من المقيمين الذين كان أغلبهم من الفنانين والمثقفين القادمين من إسطنبول، حيث كانوا يبحثون عن مكان ليعيشوا فيها، بالإضافة إلى أنهم كانوا يرغبون في إنشاء قرية فنية.
في هذا السياق، أفادت دينش، التي تملك فضاء عمل مشترك ومعرضا فنيا يحمل اسم “كيرارتاني” وسط القرية أنه “عندما وصلنا إلى هنا منذ خمس سنوات، كان هناك العديد من المقاهي والمتاجر لبيع الحلويات”. وفي فناء صغير لإحدى المباني اليونانية القديمة، تقوم دينش برفقة شقيقها بتعليم الأطفال المحليين الفنون الرقمية، بما في ذلك إنشاء ألعاب الفيديو. وفي هذا الشأن، صرحت دينش أنه “بعد فترة، قابلت أوغور شاليشكان، وهو نحات استقر هنا في القرية. وقد عملنا سويا بجد لإعادة إنشاء القرية من جديد والتعريف بها. كما تعاونا مع البلدية من أجل تخصيص شارع للنساء فقط، وذلك كي تتمكن النساء البوسنيات اللاتي تعشن في القرية من بيع منتجاتهن المصنوعة يدويا هناك”.
برهان يلدريم، وهو فنان قدم من مدينة إسطنبول، فقد وضع كل مدخرات عائلته في مشروع كان حجر أساسه منزلا حجريا متهاويا بلا سقف
وسط هذا الشارع، تقوم 10 نساء شقراوات ذوات عيون زرقاء وملامح الشعوب السلافية، ببيع الأقمشة المطرزة والفطائر وزيت الخروع، حيث يزعمن أن سكان جزيرة البلقان يستخدمونه لعلاج العديد من الأمراض بدءا من الجروح وصولا إلى آلام المعدة. وقد أضافت دينش قائلة: “لقد قمنا بإحياء المهرجانات، بما في ذلك مهرجان الربيع التقليدي في البوسنة الذي يزوره حوالي 3500 بوسني كل سنة. كما قمنا باستضافة مرشدين ورجال أعمال دوليين لاستكشاف إمكانيات القرية”.
بالنسبة لبرهان يلدريم، وهو فنان قدم من مدينة إسطنبول، فقد وضع كل مدخرات عائلته في مشروع كان حجر أساسه منزلا حجريا متهاويا بلا سقف. وفي هذا الصدد، قال برهان: “كان أغور وربيعة شاليشكان وهما أصحاب ‘معرض أرتورو’، قد قدما إلى هنا أولاً. وقد اشترى أوغور المنزل في نيسان/أبريل سنة 2013، ولحقناه بعد بضعة أشهر، ليأتي فيما بعد أصدقاء وزملاء آخرون”.
في الواقع، تضم القرية اليوم حوالي 12 معرضًا فنيًا ومتحفيْن وبضع شركات عقارية، التي ينبأ وجودها بأن المنازل اليونانية القديمة على وشك أن تصبح ممتلكات ثمينة. في هذا الإطار، قال صاحب أحد المعارض إنه “يمكنك شراء لوحات فنية من الدرجة الأولى، أو مجوهرات فريدة من نوعها أو الحصول على بعض القهوة من الجيل الثالث، ولكن لا يمكنك الحصول على وجبة فاخرة إلا إذا كنت بالطبع مغرما بالحلويات البوسنية”.
قامت مستثمرة من مدينة إسطنبول تدعى غمزة بلجي، بشراء أحد المنازل المتهاوية في القرية لتحوله فيما بعد إلى مقهى أطلقت عليه اسم “ذا نوزي ويتش”
في الأثناء، تضم القرية عددا من الفنانين والنحاتين الذين يبلغ عددهم الإجمالي حوالي 30 فنانًا، وفقا لما أفاد به النحات أوغور شاليشكان لموقع “المونيتور”. وقد قدم أوغور من مدينة أنقرة وقُدّرت قيمة أحد تماثيله، الذي أطلق عليه اسم “بوست أبوكالبتيك ساتير” 10 آلاف دولار. وقد قال أوغور: “لقد تمكنا من إحياء الحضارة القديمة للقرية. إنها مدينة مفتوحة حيث تكون النساء حاضرات في الحياة الاجتماعية، ويختلط القرويون بسهولة مع الزائرين الجدد”.
من جهتها، قامت مستثمرة من مدينة إسطنبول تدعى غمزة بلجي، بشراء أحد المنازل المتهاوية في القرية لتحوله فيما بعد إلى مقهى أطلقت عليه اسم “ذا نوزي ويتش”. وتقوم فكرة مشروعها على إضفاء أجواء خصوصية للمكان حيث يحصل رواد المقهى عند دخولهم إليه على قبعة ساحر داكنة اللون ومذببة. وفي تعليقها على مشروعها في هذه القرية، قالت غمزة: “تتمتع هذه القرية بأجواء خاصة ويرجع ذلك أساسًا إلى أنها مكان يضم مهاجرين. كما يدرك الناس هنا ضرورة تقديم المساعدة لبعضهم البعض”.
في السياق ذاته، صرحت غمزة بلجي لموقع “المونيتور” أنه “في اليوم الذي سبق افتتاح المقهى، قدمت 50 امرأة من القرية للمقهى لمدّ يد المساعدة. لقد قمن بغسل الأكواب والأطباق وترصيفها وترتيب الوسائد حتى نتمكن من فتح المقهى في اليوم التالي”. ومع تنامي سمعة القرية، قدمت دينش فكرة إنشاء مركب جامعي في قرية كوجوك كوي، أو مركز تعليمي على الأقل. وقبل سنتين، اتصلت بالمديرة التنفيذية في شركة صابنجي القابضة، غولر صابنجي، التي احتلت المرتبة 58 على قائمة أقوى 100 امرأة في العالم لسنة 2017 حسب تصنيف مجلة فوربس العالمية.
في هذا الصدد، أوضحت دينش قائلة: “لقد قمنا بدعوة السيدة صابنجي التي تملك منزلا صيفيا في مدينة أيفاليك المجاورة للقرية، وهي تعرف المنطقة جيدا. وطلبت منها التفكير في خطتنا لبناء مركز إبداعي في مبنى مدرسة قديمة. وقد وافقتْ على ذلك وعملت جامعة صابانجي بجد لمدة سنتين للحصول على موافقة لفتحها. وأخيراً، في شهر نيسان/ أبريل، وقّعت البلدية وجامعة صابانجي بروتوكولاً لتخصيص المدرسة القديمة والأرض المحيطة بها لبناء المركب الجامعي في كوجوك كوي”.
أصبحت القرية مصدر إلهام للاجئين الذين شاركوا في ورشات العمل، حيث أثبت تاريخ القرية الذي يعود إلى خمسة قرون خلت، قدرتها على انتزاع روح العصر وتغييرها من قوة عسكرية في القرن الخامس عشر إلى مركز للتكنولوجيا سنة 2010
من جهة أخرى، أشار أوغور شاليشكان إلى أن “هذا أمر عظيم، إذ أننا بذلك سنكون قادرين على توفير حاضنات للابتكار، وبرامج للفنانين المقيمين، من خلال هذا المركز. ونحن نأمل أن يأتي المزيد من الأشخاص ذوي المهارات في مجال التكنولوجيا والفنون وغيرها من الخبرات لزيارة هذه القرية”. كما نظمت دينش في شهر تموز/يوليو العديد من ورشات العمل في فضاء “كيرارتاني” حول موضوع الهجرة لمجموعة من الأكاديميين والبيروقراطيين ورجال الأعمال ومسؤولين من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وجميعهم أعضاء في المجتمع غير الرسمي الذي يُدعى “تاكت أغورا”.
عندما سئل أعضاء هذه المجموعة عن سبب اختيار قرية كوجوك كوي، أجاب أزغور أتانور، وهو موسيقار وخبير في الاتصالات الإبداعية وعضو في تاكت أغورا، في تصريح لموقع “المونيتور” أن “صانعي التغيير العالمي يسعون إلى اللجوء إلى أماكن تتمتع بالأصالة للحفاظ على الحياة والإبداع. وتعد قرية كوجوك كوي مثالا على هذا التنوع. لذلك، كان من الطبيعي بالنسبة لنا كمجموعة من الحالمين والفاعلين أن نختار هذه القرية، التي يعود تاريخها إلى القرون الوسطى، لمناقشة قضايا تهم اللاجئين وهويتهم، والأحكام المسبقة التي يواجهونها وقدراتهم في عالم متحول”.
أصبحت القرية مصدر إلهام للاجئين الذين شاركوا في ورشات العمل، حيث أثبت تاريخ القرية الذي يعود إلى خمسة قرون خلت، قدرتها على انتزاع روح العصر وتغييرها من قوة عسكرية في القرن الخامس عشر إلى مركز للتكنولوجيا سنة 2010. وفي حديثه عن الهوية والأحكام المسبقة ضد المهاجرين، قال خالد فتال، وهو لاجئ سوري يدرّس الأطفال السوريين مادة العلوم وتكنولوجيا الروبوتات في مدينة غازي عنتاب: “أنا غير مهتم بما يطلقون علي من ألقاب، ذلك أنني مهتم فقط بما يمكنني تحقيقه”.
المصدر: المونيتور