منطقة القرن الإفريقي ذات الموقع الإستراتيجي أصبحت حاليًّا ساحة تنافسٍ وصراع كبير بين عدد من الدول والتكتلات، اقتصاديًا تهيمن عليها الصين بدرجة كبيرة إلى جانب تركيا، بينما يتراجع دور أمريكا وأوروبا، أما سياسيًا فقد أخذت تتنافس عليها مؤخرًا دول محورَيْ الصراع الكبير في الشرق الأوسط، قطر وتركيا من جانب والإمارات والسعودية من الجانب الآخر.
وتضم منطقة القرن الإفريقي كل من الصومال وإثيوبيا وإريتريا والسودان وجيبوتي وكينيا، وتكمن أهمية هذه الدول في أن معظمها يطل مباشرة على مضيق باب المندب الذي يستأثر بقدرٍ كبير من التجارة الدولية وحركة مرور ناقلات النفط والبضائع، كما تشكل المنطقة الجسر الرابط بين قارتي آسيا وإفريقيا، إلى جانب استحواذها على مخزون وافر من المعادن والثروات طبيعية الأخرى.
أين تقف أديس أبابا من صراع الشرق الأوسط؟
فور اندلاع الأزمة الخليجية في يونيو/حزيران العام الماضي، أعلنت الدولة المحورية في منطقة القرن الإفريقي ـ إثيوبيا ـ الحياد ودعمها للوساطة الكويتية لحل الخلاف بالطرق الدبلوماسية، رغم أن وزير خارجية السعودية عادل الجبير سارع إلى حضور قمة الاتحاد الإفريقي التي انعقدت بعد نحو شهر من بداية الأزمة، وكان غرض الجبير من المشاركة في القمة حشد أكبر عدد ممكن من الدول الإفريقية في مواجهة قطر وهو المشروع الذي فشل فيه مرتين حضر فيهما قمم إفريقية.
لقي ظهور آبي أحمد إلى جوار ابن زايد في أبو ظبي انتقادات في مواقع التواصل الاجتماعي، حيث أبدى العديد من الإثيوبيين تخوفهم من مآلات التدخل الإماراتي
الإمارات بدورها سعت سعيًا حثيثًا لتعزيز حضورها في العاصمة السياسية للقارة السمراء، حيث سجلت أديس أبابا زيارات قياسية لعدد من المسؤولين أبرزهم وزير الخارجية عبد الله بن زايد وريم الهاشمي وزير الدولة للتعاون الدولي الممسكة بالملف الإفريقي إماراتيًا، ثم كانت الزيارة المفاجئة لولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد يوم عيد الفطر الماضي التي أعلن خلالها تقديم الإمارات مساعدات اقتصادية لإثيوبيا بقيمة 3 مليارات دولار منها مليار وديعة مباشرة في البنك المركزي الإثيوبي ومليارين استثمارات متنوعة.
لم تنتهِ مساعي أبو ظبي عند هذا الحد فسرعان ما روّجت الأذرع الإعلامية للإمارات إلى أن المصالحة التاريخية بين إثيوبيا وإريتريا تمت بوساطة ورعاية إماراتية وهو الأمر الذي نفاه في البداية ملّس ألِم المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الإثيوبية قبل أن تضغط دولة الإمارات على طرفي المصالحة “إثيوبيا وإريتريا” إذ أصّر ابن زايد على حضور رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد والرئيس الإريتري أسياس أفورقي إلى أبو ظبي ليتم تكريمهما بوشاح زايد ولكي يعلم العالم كله أن الصلح بين الجارتين اللدودتين لم يكن ليتم لولا جهود الإمارات!
وقد لقي ظهور آبي أحمد إلى جوار ابن زايد في أبو ظبي انتقادات في مواقع التواصل الاجتماعي، حيث أبدى العديد من الإثيوبيين تخوفهم من مآلات التدخل الإماراتي، وهاجم بعضهم رئيس الوزراء بصورةٍ صريحة معتبرين أنه رضخ لأجندة أبو ظبي وسعيها لإبطاء العمل في سد النهضة إرضاءً للحليف المصري.
ولذلك يبدو أن آبي أحمد ـ وهو متابع جيّد لما ينشر في مواقع التواصل ـ قصد أن يهاجم ابن زايد في خطابه الشهير أمام الجالية الإثيوبية في واشنطن عندما ذكر أنه قال لولي عهد أبو ظبي “الإسلام ضاع منكم” ولعل رئيس الوزراء الإثيوبي أراد أن يرد على منتقديه الذين اعتبروا أنه وضع يده في يد ابن زايد، ويقول لهم إنني قادر على انتقاده ومهاجمته كيفما أشاء، أو قد يكون قصد أن يقول للقيادة الإماراتية إن العلاقات معكم ليست شيكًا على بياض بحسب تعبير الكاتب الإثيوبي نور عبدا.
من رسائل #أبي_احمد من خلال الكشف عن حواره مع #محمد_بن_زايد :
١- العلاقة مع #الامارات ليست شيك على بياض، هي تقاطع مصالح محسوب.
٢- #اثيوبيا ليست طرفا في الصراع الصفري والفكري في الشرق الأوسط.— Nur Abda نورالدين عبدا (@NurAbda) July 31, 2018
ورغم أن المتحدث الرسمي لوزارة الخارجية الإثيوبية ملس ألم عاد وحاول التخفيف من شدة العبارات التي وردت في خطاب آبي أحمد، فإن وجود الفيديو الواضح على ما ذكره رئيس الوزراء جعل كلام المتحدث الرسمي وتبريراته مجرد حديث دبلوماسي لا غير.
جدير بالذكر أن دولة الإمارات فضّلت الصمت التام وابتلعت كلمات آبي أحمد القاسية فلم تبد أي ردة فعل رغم وجود الخلايا الإلكترونية الجاهزة للرد والإساءة لكل من يذكر قيادتها بسوء، ولكن يبدو أن التعليمات لم تصدر لهم بمهاجمة أديس أبابا حرصًا على علاقات أبو ظبي معها ومشروعها الجديد في القرن الإفريقي الذي يهدف إلى تحسين السمعة بعد النكسات التي ألمت بها في المنطقة مؤخرًا.
قطر ترسل وفدًا من رجال الأعمال
عندما كان آبي أحمد يلقي قنبلته أمام الجالية الإثيوبية في واشنطن كان هناك وفدٌ من رجال الأعمال القطريين وصل إلى أديس أبابا للبحث في الفرص الاستثمارية التي تزخر بها إثيوبيا، وربما يكون ذلك في إطار تنفيذ الاتفاقيات التي وقعتها الدوحة مع إثيوبيا في العام الماضي عندما تبادل كل من الشيخ تميم بن حمد آل ثاني ورئيس الوزراء السابق هايلي مريام ديسالين الزيارات بين البلدين.
في تصريح سابق للسفير فوق العادة لجمهورية إثيوبيا في الدوحة متاسبيا تاديسي فإن “النمو المتواصل للاقتصاد الإثيوبي جعله يتبوّأ مرتبة عالية ضمن أسرع الاقتصادات على مستوى العالم، ومن أكثر البلدان جذبًا للاستثمارات بشهادة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي”
وبحسب صحيفة العلم الإثيوبية الناطقة باللغة العربية فقد انعقد بأديس أبابا منتدى الأعمال بين الشركات القطرية ورجال الأعمال الإثيوبيين، ونقلت الصحيفة عن عائض حسن القحطاني مدير ترويج الصادرات في بنك قطر للتنمية قوله: “المنتدى سيلعب دورًا أساسيًا في تأسيس شراكة أعمال جديدة ومستدامة بين رجال الإعمال القطريين والإثيوبيين”
وفي تصريح سابق للسفير فوق العادة لجمهورية إثيوبيا في الدوحة متاسبيا تاديسي فإن “النمو المتواصل للاقتصاد الإثيوبي جعله يتبوّأ مرتبة عالية ضمن أسرع الاقتصادات على مستوى العالم، ومن أكثر البلدان جذبًا للاستثمارات بشهادة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي”، وكشف تاديسي “وجود 15 منطقة صناعية مكتملة وجاهزة في إثيوبيا للمستثمرين”، داعيًا الحكومة القطرية ورجال الأعمال القطريين إلى انتهاز الفرصة والاستثمار في بلاده.
مشيرًا إلى التجارب الناجحة للمستثمرين القطريين مثل مجموعة شركات السليطين للإنتاج الزراعي التي تمثل أكبر الشركات القطرية التي دخلت السوق الإثيوبية بقوة، إلى جانب شركة بروة العقارية التي شرعت في إنشاء منتجع سياحي فاخر على مساحة تقدر بـ150 ألف متر مربع في موقع مميز في قلب العاصمة الإثيوبية أديس أبابا.
كيف سيتعامل آبي أحمد مع قطر والإمارات؟
قبل أن نجيب عن السؤال نشير إلى أن الحكومة الإثيوبية والإماراتية اتفقتا على إجراء دراسة لبناء خط أنابيب النفط يربط ميناء عصب الإرتري مع إثيوبيا خلال جلسة مباحثات جمعت بين رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد ووزيرة الدولة الإماراتية للتعاون الدولي ريم الهاشمي قبل يومين في مكتب الأول بأديس أبابا.
تدل الزيارات المتلاحقة للمسؤولين الإماراتيين إلى أن أبو ظبي تسعى بكل ما يمكن إلى احتواء إثيوبيا وإبعادها نهائيًا عن المحور القطري التركي
ويعكس المسعى الإماراتي لبناء خط النفط إلى رغبة الحكومة الإماراتية في السيطرة على نفط إثيوبيا المكتشف حديثًا في إقليم أوغادين لتصديره عن طريق ميناء عصب الإرتري الذي شرعت الإمارات في تطويره، وربما تهدف أبو ظبي أيضًا إلى إرسال مساعدات نفطية إلى إثيوبيا عن طريق الميناء المذكور ووقف أديس أبابا استيراد النفط من السودان.
وتدل الزيارات المتلاحقة للمسؤولين الإماراتيين إلى أن أبو ظبي تسعى بكل ما يمكن إلى احتواء إثيوبيا وإبعادها نهائيًا عن المحور القطري التركي، غير أن ذلك لا يمكن في تقديرنا للأسباب الآتية:
أولها: مكانة إثيوبيا وريادتها في القارة الإفريقية، فإذا أعلنت أديس أبابا رسميًا انحيازها لمحور السعودية الإمارات فإن ذلك يفقدها رمزيتها كدولة قائدة للقارة السمراء.
ثانيًا: الانتقادات التي يتعرض لها آبي أحمد حاليًّا بسبب علاقاته مع أبو ظبي التي تتحالف مع الرياض لقتل أطفال اليمن “حسب نشطاء إثيوبيين”؛ تجعله لن يفكر في اتخاذ قرار بالانحياز التام لأبو ظبي.
ثالثًا: إثيوبيا لا تزال بحاجة إلى مزيد من الاستثمارات ورؤوس الأموال، بحسب تقرير نشره موقع أخبار “والتا” المستقل فإن أديس أبابا بحاجة إلى 362 مليار دولار لتحقيق أهداف الأمم المتحدة الإنمائية بحلول عام 2040 ولذلك ليس من الحكمة خسارة دولة مثل قطر أو تركيا لأنه يمكنهما ضخ مبلغ يوازي ذلك الذي استثمرته الإمارات أو أكبر منه.
يعتقد على نطاق واسع أن وساطة الإمارات للصلح بين إثيوبيا وإريتريا هدفها الانتقام من جيبوتي تحديدًا بعد أن طردت الأخيرة شركة موانئ دبي من أراضيها
رابعًا: الدور الإماراتي في المنطقة اكتسب سمعة سيئة وأدى إلى طرد دولة الإمارات من دولتين جارتين “الصومال وجيبوتي”، هذا بخلاف حملات التشهير وإشانة السمعة التي تطلقها الأذرع الإعلامية الإماراتية ضد كل من يختلف مع توجهاتها فردًا كان أم دولة أم مؤسسة، والحملة المسعورة التي تواجهها دولتا جيبوتي والصومال خير مثال على ذلك.
خامسًا: وجود مكتب إقليمي لقناة الجزيرة القطرية في أديس أبابا، إذ عملت القناة في وقت سابق على التسويق للمقومات السياحية في إثيوبيا من خلال برنامج “إثيوبيا على الأقدام” الوثائقي، إلى جانب تقديم القناة برامجًا متخصصة عن الطفرة التي يشهدها الاقتصاد الإثيوبي والاستثمار في البلاد. وهو ما عزز صورة إيجابية عن إثيوبيا التي يتجاهلها الإعلام العربي كثيرًا، ولذلك فإن اتخاذ قرار بقطع العلاقات مع قطر يجعل حكومة آبي أحمد تخسر وسيلة إعلامية مهمة.
سادسًا: بذلت السفارة الإثيوبية في الدوحة مجهودًا كبيرًا في التعريف بالفرص الاستثمارية الموجودة في البلاد وأقنعت العديد من الشركات الخاصة ورجال الأعمال بالاستثمار في مجال الزراعة، كما نجحت في توقيع اتفاقيات لاستيعاب العمالة الإثيوبية في السوق القطرية مما يخفف من البطالة التي يعاني منها المجتمع الإثيوبي.
سابعًا: في إثيوبيا لا يتخذ رئيس الوزراء قرارًا مصيريًا كهذا القرار وحده إلا بعد التشاور مع أعضاء ائتلاف “الجبهة الثورية الديمقراطية للشعوب الإثيوبية” الحاكم وموافقة البرلمان.
ثامنًا: يعتقد على نطاق واسع أن وساطة الإمارات للصلح بين إثيوبيا وإريتريا هدفها الانتقام من جيبوتي تحديدًا بعد أن طردت الأخيرة شركة موانئ دبي من أراضيها ولذلك ربما أرادت أبو ظبي تكبيد جيبوتي خسائر كبيرة بإبعاد إثيوبيا عن مينائها والاستعاضة عنه بميناء عصب الإريتري، وهو ما لن يكون في صالح إثيوبيا لأنها لا يمكن أن تفرط في الجار الجيبوتي، فالرئيس الإريتري شخص غير مأمون ولا يستبعد أن ينقض اتفاق الصلح.
قطر لن تقف متفرجة ومكتوفة الأيدى، فقد تشهد الفترة المقبلة تحركًا قطريًا تجاه أديس أبابا حتى لا تفقد ما بنته من علاقات وصداقة
ونعتقد كذلك أن الخطوات الإماراتية المتسارعة في إثيوبيا تأتي لتثبيت أقدام أبو ظبي في الدولة المؤثرة إفريقيًا بثقلها السكاني الكبير وباحتضانها مقر الاتحاد الإفريقي واللجنة الاقتصادية للأمم المتحدة، كما يرى الإماراتيون أن خلق النفوذ وتثبيت الأقدام في ظل حكومة جديدة تنتهج سياسات مغايرة سيكون سهلًا ويسيرًا وليس بعيد المنال كما كان في عهد رئيس الوزراء السابق هايلي مريام ديسالين.
في تقديرنا، قطر لن تقف متفرجة ومكتوفة الأيدى، فقد تشهد الفترة المقبلة تحركًا قطريًا تجاه أديس أبابا حتى لا تفقد ما بنته من علاقات وصداقة، ونعتقد أن السيناريو الأقرب لذلك التحرك هو أن يقوم رئيس الوزراء القطري عبد الله بن ناصر آل ثاني بزيارة إلى إثيوبيا استجابة لدعوةٍ وجهت إليه قبل فترة للإسراع في تنفيذ المشروعات الاقتصادية والتنموية المتفق عليها بين الجانبين.
ولعل ذلك سيشجع إثيوبيا على الانخراط في علاقات متوازنة مع الأطراف كافة بعيدًا عن الاستقطابات كما يؤكد المسؤولون الإثيوبيون دومًا.