أجبرت حرب 15 أبريل/نيسان المستمرة في السودان لأكثر من 16 شهرًا بين الجيش وقوات الدعم السريع، نحو 13 مليون نازح على الفرار من بيوتهم، منهم 10.7 مليون نزحوا داخليًا، و2.3 مليون عبروا الحدود نحو دول الجوار بحسب مصفوفة تتبع النزوح التابعة للمنظمة الدولية للهجرة.
إلى جانب ذلك، يواجه السودانيون ظروفًا مأساوية بسبب الكوارث الطبيعة مثل السيول والفيضانات التي تسببت في العديد من الخسائر وعمقت جراح البسطاء، ولم يتوقف الأمر على ذلك حيث تم تصنيف نحو 25.6 مليون شخص على أنهم يعانون من مستوى أزمة أو أسوأ، من بينهم نحو 755 ألفًا و300 شخص من المتوقع أن يواجهوا مستوى الكارثة – أي المجاعة – في سبتمبر/أيلول 2024 وفقًا لبيانات وكالات أممية.
مع غياب أي أفق للحل السياسي للنزاع، وتقاسم مناطق السيطرة العسكرية بين أطراف النزاع، وتعثر مفاوضات جنيف، يترقب الكثير من السودانيين بارقة أمل تضع حدًا لمعاناة أثقلت كاهلهم، وتخفف من وطأة الحرب التي وصفها البعض بالمنسية.
في هذا الملمح، تحكي لنا “زينة” قصة النزوح المروعة لعائلتها من السودان إلى مصر، والتحديات التي واجهتها في النزوحات المتكررة، ثم محاولة تأقلمها مع الواقع الجديد.
زينة.. رحلة معاناة من أوار الحرب
في خضمّ النزاع الدامي الذي اجتاح مدينة الخرطوم بحري، وجدت زينة، طالبة جامعية سودانية، نفسها وأفراد أسرتها في مواجهة معركة من نوع آخر، لا تقاومها الأسلحة بل الصعوبات في رحلة نزوح أولى إلى ولاية الجزيرة، تجددت مرة أخرى إلى مصر بعد سيطرة قوات الدعم السريع على ولاية الجزيرة.
عندما بدأت الحرب تعصف بالخرطوم بحري، كانت تقيم زينة وأسرتها بجوار سلاح المظلات، تحولت حياتهم إلى كابوس، “كنت في الخرطوم بحري، وكان الوضع سيئًا للغاية، أصوات القذائف كانت تعلو، وكانت الشوارع مغلقة، لا ماء ولا كهرباء” تقول زينة.
مع تصاعُد العنف وتزايُد الخطر، قررت زينة وعائلتها النزوح إلى ولاية الجزيرة المجاورة لولاية الخرطوم في مدينة رفاعة هربًا من النزاع، تصف زينة الوضع حينها بأن “الأصوات كانت مدمرة لدرجة أن البيت كان يهتز، والشبابيك والأبواب كانت تتخلخل، كنا نعيش في حالة من الذعر، وكانت قوات الدعم السريع تقوم بإخلاء الحي من السكان، لم ننتظر حتى يأتوا إلينا، بل خرجنا على الفور”.
تسرد زينة لـ”نون بوست” تفاصيل الرحلة التي تخللها الكثير من القلق والخوف، حيث واجهت أسرتها نقاط تفتيش عسكرية تابعة لقوات الدعم السريع على الطرق، لكن بفضل معرفة أخيها ببعض عناصر الدعم السريع تمكنوا من المرور، “لم يكن هناك تفتيش دقيق، فقط كانوا يسألون عن وجهتنا، لكننا مررنا بسلام” تردف زينة.
وعلى الرغم من الخطر الذي واجهوه، لم يكن الأمر خاليًا من العلامات المؤلمة، حيث عثروا على آثار رصاص على السيارة التي كانت تقلّهم برفقة أسرتها، ربما كانت من رصاص طائش.
حياة جديدة بعد نزوح أولي
عاشت زينة برفقة أسرتها بعد نزوحهم الى مدينة رفاعة حوالي 10 أشهر، ومع تصاعد التهديدات من قوات الدعم السريع بدأ الوضع يصبح أكثر خطورة، وبالفعل تمددت رقعة الحرب بسيطرة الدعم السريع على مدينة ود مدني وتوسعت إلى مدينة رفاعة، حيث مكان النزوح الأول لزينة.
في هذا الصدد تصف زينة تلك الأيام بقولها: “عندما دخلت قوات الدعم السريع إلى رفاعة، كانت الأخبار تتحدث عن سرقة السيارات وقتل الناس، كان أبي يخشى على سيارته الكروزر، فقررنا إخفاءها في حوش جيراننا”.
لكن الخوف لم يتوقف هنا، ذات يوم جاء عناصر من قوات الدعم السريع إلى منزل الجيران، أطلقوا الرصاص وطلبوا السيارات والأموال، “تدخّل أبي وأوضح لهم أنه ليس لديهم أي صلة بالنظام البائد”، وأنهم ليسوا “كيزان” لحسن الحظ، كان قائد المجموعة متفاهمًا، و”تمكن أبي من إقناعهم بأن يأخذوا السيارة لكن دون أن يأذوا أحدًا”، حتى أنهم “قدموا لأبي شيئًا رمزيًا مقابل السيارة” تردف زينة.
كانت هذه الحادثة نقطة تحول بالنسبة إلى عائلتها، حيث قررت زينة وأفراد أسرتها المغادرة من ولاية الجزيرة بحثًا عن الأمان في رحلة نزوح ثانية، تبددت بعدها آمال العودة إلى الخرطوم.
وتصف زينة لحظة النزوح للمرة الثانية بأنها “من أصعب اللحظات في حياتي، لم نكن نعرف إذا كنا سنلتقي بأهلنا مرة أخرى أم لا، كان الوداع صعبًا للغاية، وأكثر ألمًا من مغادرتنا الأولى لمنزلنا في الخرطوم بحري”.
نزوح ثانٍ
كانت مغادرة مدينة رفاعة بمثابة التحدي الكبير لزينة وأسرتها، وتقول في هذا الصدد: “لم يكن هناك سيارات أو ركشات، كانت الأمور أسوأ ممّا توقعنا، كنا ننتقل بالكارو، وهو وسيلة نقل بدائية، ثم قمنا باستئجار حافلة بعدما رأينا بعض الناس يغادرون”.
رحلة الخروج من رفاعه كانت مليئة بالصعوبات، في تلك اللحظات كانت قوات الدعم السريع انتشرت في أجزاء واسعة من ولاية الجزيرة، وقد واجهوا نقاط تفتيش متكررة بحسب وصف زينة: “كل ربع ساعة تقريبًا كان هناك تفتيش من قوات الدعم السريع، كانوا يسألون عن الأوراق ويقومون بتفتيش الأمتعة رغم ذلك، لم يسألونا عن هويتنا كنساء”.
وفي السياق ذاته، أشارت زينة أنه كان يتعيّن على من يخرج بسيارته الخاصة من مدينة رفاعة، دفع رسوم معينة لقوات الدعم السريع، ومن لا يدفع يقومون بالاستيلاء على سيارته.
بعد رحلة شاقة وصلت زينة وأسرتها إلى مدينة القضارف في شرق السودان، والتي تقع ضمن مناطق سيطرة الجيش السوداني، الذي يقوم أيضًا بإجراءات التفتيش الروتينية، وتقول زينة: “بمجرد وصولنا إلى القضارف، اضطررنا إلى المبيت في الباص بسبب الحظر المفروض على الحركة ليلًا، بعد القضارف كان هناك ارتكازات للجيش بنفس سيناريو التفتيش”.
رحلة الموت
في 24 يناير/ كانون الثاني، بدأت زينة رحلة جديدة من مدينة حلفا في شمال السودان إلى منطقة تسمى التخزينة في رحلة كانت أسهل نسبيًا من سابقاتها عن طريق عربة البوكس، الهدف النهائي كان الدخول الى مصر عبر طريق التهريب بتكلفة 300 ألف جنيه سوداني للفرد الواحد، تحدثت زينة عن معاناة خالتها من المرض، وقد قرروا العودة إلى حلفا، “لكن خالتي أصرّت على الاستمرار” بحسب وصفها.
تواصل زينة حديثها: “تحركنا من التخزينة في وقت متأخر من الليل، وكان الجو باردًا جدًّا، كنا في البوكس مع خالتي المريضة و9 آخرين. للأسف كانت تجربتنا مع الركاب الآخرين صعبة، ولم يشعروا بالمسؤولية، على الطريق توقفت السيارة لأن السائق أراد أن يستريح، بينما كنا نحن في حالة من القلق الشديد”.
تروي زينة حادثة لا تنسى، بألم شديد تستذكر لحظات المعاناة والحزن في تلك الساعات عندما توقف السائق: “طلبت خالتي المريضة منه أن يتحرك لأنها كانت تعاني من الألم الشديد، وقد قالت للسائق إنها ربما تموت إذا لم يتحرك الآن”، لكنها لم تجد سوى تجاهل السائق الذي قال لها: “الأعمار بيد الله”، واستمر في النوم بلا مبالاة منه.
“عندما وصلنا إلى أسوان في الصباح، كانت خالتي قد توفيت بالفعل”، تقول زينة بلهجة مفجعة، وتضيف: “وصلنا إلى مستشفى أسوان للتأكد من حالتها، وبعد التأكد من وفاتها قمنا بدفنها هناك، كانت تجربة مؤلمة”.
تحديات التأقلم في مصر
بينما عانت زينة من النزاع المستمر في السودان، ونزوح متكرر هربًا من بطش قوات الدعم السريع، وجدت نفسها تواجه تحديات جديدة في مصر، تذكر زينة صعوبات التأقلم في بلد غريب، وكيف واجهت تحديات عملية وإدارية أثّرت على حياتها بشكل كبير.
تصف زينة تلك التحديات: “كانت الحياة في مصر صعبة بالنسبة إليّ، خاصة لأنني شخصية خجولة، انتقلت إلى بلد جديد، وكل شيء كان مختلفًا تمامًا عمّا اعتدت عليه”.
بدأت زينة بالعمل في مركز اتصالات، لكنها واجهت مشاكل كبيرة بسبب عدم امتلاكها لبطاقة عمل رسمية: “في الشركة التي عملت فيها لم يسألوني عن البطاقة، لكن تأخري بسبب العمل وعودتي المتأخرة إلى المنزل بسبب نقاط التفتيش أثّرت على حياتي بشكل كبير”.
وتستطرد: “ذات مرة توقفت السيارة التي كنت أركبها في إحدى الارتكازات، وسألوا جميع الركاب عن أوراقهم. لم يسألوني، لكنني كنت خائفة بسبب القصص التي سمعتها عن الاعتقالات، قررت ترك العمل لأنه أصبح من الصعب التأقلم مع الوضع”.
تواجه زينة أيضًا تحديات أخرى بعد تركها لعملها الأول: “لا أستطيع العثور على فرص عمل بسبب عدم وجود أوراق رسمية، ولم أتمكن من الالتحاق بدورات تدريبية، شعرت وكأن حياتي توقفت”.
رغم الصعوبات، تثني زينة على تعامل المصريين الطيب معها: “المصريون كانوا لطيفين معنا، والحياة هنا بها بعض الجوانب الجيدة، أخيرًا حصلت على بطاقة الإقامة قبل حوالي شهر من الآن”، إلى جانب ذلك تشير زينة إلى نقص الدعم من المفوضية السامية لحقوق اللاجئين، وأنها لم تتلقَّ أي دعم منها.
تداعيات اللاجئين السودانيين في مصر
بحسب المنظمة الدولية للهجرة فر نحو 514 ألفًا و827 لاجئًا سودانيًا إلى مصر منذ اندلاع النزاع في أبريل/نيسان 2023، وفي ذات السياق وجهت منظمة العفو الدولية في يونيو/حزيران الماضي اتهامًا لمصر باعتقال وترحيل لاجئين سودانيين بطريقة غير قانونية.
وذكرت المنظمة الحقوقية أنها وثقت 12 واقعة رحلت فيها السلطات المصرية ما يقدر بنحو 800 سوداني بين يناير/كانون الثاني ومارس/آذار من العام 2024، دون منحهم فرصة لطلب اللجوء أو الطعن في قرارات الترحيل، بعد احتجازهم في ظروف قاسية وغير إنسانية، في المقابل نفى المجلس القومي لحقوق الإنسان في مصر النتائج التي توصلت إليها منظمة العفو الدولية بقوله إن السلطات المصرية تحترم القانون الدولي.
وبعد أقل من شهرين على بدء الحرب في السودان، كانت مصر قد علقت التزامها بإعفاء النساء والأطفال والرجال السودانيين الذين تزيد أعمارهم على 49 عامًا من الحصول على تأشيرة، ما دفع بالكثير من السودانيين إلى اختيار طريق التهريب بغرض الدخول إلى مصر.