تأتي زيارة العبادي للعاصمة التركية أنقرة في هذه المرحلة لتكتسب أهمية خاصة للحكومة العراقية والتركية على حد سواء، فالحكومتان تمران حاليًّا بوقت عصيب وتحديات خطيرة تمس مستقبل بلديهما بالصميم.
فالعراق الذي شِهد قبل ما يزيد على الثلاثة أشهر إجراء انتخابات نيابية شابتها الكثير من شبهات التزوير، كادت أن تعصف بالعملية السياسية برمتها، أعقبها اندلاع تظاهرات غاضبة بسبب تردي الخدمات، شملت محافظات الجنوب والوسط وما زالت مستمرة لحد الآن، ويرتفع سقف مطالبها تدريجيًا، لتأتي مشكلة جديدة تلقي بظلالها على العراق، متمثلة بباقة العقوبات الأمريكية الجديدة على إيران المرتبطة عضويًا بالعراق.
لم تجد حكومة العبادي بدًا من الانصياع للضغوط الأمريكية والتعامل باحترام مع تلك العقوبات، مما يعني عمليًا أن العراق سوف سيضطر لمقاطعة إيران اقتصاديًا، وإلا فإن العقوبات ستطاله هو أيضًا إذا فكر بالتمرد على القرارات الأمريكية.
قرار العبادي بالتعامل إيجابيًا مع العقوبات الأمريكية، فجر هجمة عنيفة وشديدة من النظام الإيراني على العبادي وحكومته وصلت إلى حد رفض زيارته التي كانت مقررًا القيام بها بعد زيارته لأنقرة، كما توالت انتقادات الأحزاب والمليشيات العراقية الموالية لإيران لخطوة العبادي بالامتثال للعقوبات الأمريكية ضد إيران.
يمكن للعراق أن يقدم الكثير لتركيا لمساعدتها بالتخلص من الأزمة الخانقة التي يمر بها اقتصادها
أما أنقرة التي تعرض اقتصادها لهزة عنيفة في الفترة الأخيرة، جراء فرض الولايات المتحدة لعقوبات رمزية على بعض صادراتها لها، بالإضافة لفرض عقوبات على وزيرين من وزرائها على خلفية اعتقال القس الأمريكي أندرو برانسون المتهم بالتعاون مع جماعة “عبد الله غولن” وهو المتهم الرئيسي في المحاولة الانقلابية الفاشلة عام 2016، كذلك تخفيض مقياس تركيا في مؤسسات التصنيف الائتماني، كل تلك الإجراءات أدت إلى انهيار سريع لليرة التركية وتكبد الاقتصاد التركي لخسائر جسيمة، لهذا تبحث القيادة التركية عن أي وسيلة لمحاولة إنعاش اقتصادها وبسرعة.
ما الذي يمكن للعراق تقديمه لتركيا؟
يمكن للعراق أن يقدم الكثير لتركيا لمساعدتها بالتخلص من الأزمة الخانقة التي يمر بها اقتصادها، فالعبادي الذي يريد أن يستغل فرصة فرض العقوبات على النظام الإيراني للتخلص من الضغط المسلط على حكومته من هذا النظام الذي حاول إسقاط حكومته وإحراجها سياسيًا حينما لم يقف معه وقطع تجهيز العراق بالطاقة الكهربائية، في الوقت الذي اندلعت فيه التظاهرات التي كان سببها الأول انقطاع التيار الكهربائي.
يحاول العبادي استغلال فرصة العقوبات، لتحويل التجارة البينية بين العراق وإيران التي تقدر بـ6 مليارات دولار ما عدا الواردات من الغاز والمشتقات النفطية، إلى تركيا، ذلك لأن الأخيرة لا تنوي استخدام تلك التجارة كوسيلة ضغط على الحكومة العراقية مثلما تفعل إيران، كما ينوي الاتفاق مع الأتراك على استيراد الطاقة الكهربائية من تركيا بدلًا من إيران التي لم تف بالتزاماتها مع العراق، ويمكن للعراق أن يؤمن احتياجات تركيا من النفط من خلال تفعيل خط نفط كركوك إلى تركيا، وبذلك يكون العبادي قد ساند تركيا بشكل كبير في أزمتها النقدية.
تحاول حكومة العبادي الحصول من تركيا على دعمها للعبادي للوصول لرئاسة الوزراء مرة ثانية، كذلك الحصول على تنازلات في وقتها الحرج هذا، من خلال الطلب منها بإطلاق الحصص المائية كاملة
يستطيع العراق أن يقدم خدمة كبيرة للأتراك من نوع آخر تتعلق بالأمن القومي التركي، من خلال شرعنة التدخل العسكري التركي في شمال العراق لملاحقة حزب العمال الكردستاني، فالعبادي الذي وعد بتأمين الحدود العراقية التركية وضمان عدم حصول أي اعتداء على تركيا انطلاقًا من العراق، ليس بإمكانه الإيفاء بهذه التعهدات، نظرًا لافتقار القوات العراقية لتلك الإمكانية، لذلك فمن المتوقع أن تكون الخطة هي السماح للقوات التركية بالتوغل بالأراضي العراقية لمكافحة حزب العمال الكردستاني بشكل مباشر.
بالمقابل تحاول حكومة العبادي الحصول من تركيا على دعمها للعبادي للوصول لرئاسة الوزراء مرة ثانية، كذلك الحصول على تنازلات في وقتها الحرج هذا، من خلال الطلب منها بإطلاق الحصص المائية كاملة التي كانت موضع خلاف خلال الفترة الأخيرة بين البلدين، بعدما قررت تركيا تشغيل سد اليسو العظيم الذي سبب حدوث شح كبير في المياه بالعراق، كانت الموافقة التركية فورية على هذا المطلب العراقي.
بعض الاتفاقات التي أبرمت بين الطرفين قابلة للتنفيذ الفوري مثل تحويل التجارة إلى تركيا وتسهيل حركة المسافرين بين البلدين وإنشاء معبر ثاني بين البلدين
تركيا تستطيع تقديم الكثير للعراق وللعبادي بشكل خاص، فهي تستطيع تأمين احتياجات العراق من السلع المختلفة والمواد الغذائية والصناعات الخدمية، بالإضافة إلى تجهيز العراق بالطاقة الكهربائية، ومشاركة الشركات التركية في عمليات البناء والتعمير في العراق، وهذا كله سيدُر على تركيا الكثير من الفوائد الاقتصادية، وسيؤمن لها موطئ قدم كبير في الداخل العراقي لمنافسة النفوذ الإيراني.
هل هذه الاتفاقات قابلة للتنفيذ؟
بعض تلك الاتفاقات التي أبرمت بين الطرفين قابلة للتنفيذ الفوري مثل تحويل التجارة إلى تركيا وتسهيل حركة المسافرين بين البلدين وإنشاء معبر ثاني بين البلدين، لكن البعض الآخر منها ربما يحتاج لوقت أطول من عُمر ولاية العبادي التي لم يتبق منها سوى بضعة أسابيع على أقصى حد.
ومن هذا يمكننا اعتبار أن جميع تلك الاتفاقات بين الجانبين، ربما ستبقى حبرًا على ورق، ما لم يتم تجديد ولاية ثانية للعبادي، ومما لا شك فيه أن تجديد الولاية للعبادي مطلب تركي ومن قبله مطلب أمريكي، كون العبادي يعتبر بشكل نسبي، بعيدًا عن التأثير الإيراني مقارنةً بباقي الأحزاب الشيعية المشاركة بالعملية السياسية.
من المتوقع أن العبادي سيتعرض لهجمة سياسية شرسة من باقي الأحزاب الشيعية المرتبطة بإيران، ناهيك عن المليشيات المسلحة ذات التأثير الواسع
وفي ظل الصراع الحاليّ بين إيران وأمريكا فإن العبادي الآن هو الخيار الأفضل أمريكيًا، وتقارب العبادي من تركيا هو أمر مقبول أمريكيًا رغم الأزمة التي تعصف بالعلاقات التركية الأمريكية، لأن من شأن تقارب العراق من تركيا، أن يجعل من العراق يبتعد تدريجيًا عن النفوذ الإيراني، وبالتالي فإنه يعتبر تقويضًا كبيرًا للنفوذ الإيراني في العراق، ومن المستبعد أن يكون العبادي قد أقدم على خطوته الجريئة تلك والمتمثلة بالتقارب من تركيا على حساب تقاربه من إيران، من دون ضوء أخضر أمريكي.
هل العبادي قادر على مواجهة خصومه من باقي الأحزاب؟
من المتوقع أن العبادي سيتعرض لهجمة سياسية شرسة من باقي الأحزاب الشيعية المرتبطة بإيران، ناهيك عن المليشيات المسلحة ذات التأثير الواسع، لأنه يعتبر بنظر تلك الأحزاب والتيارات السياسية والميليشياوية، قد خان إيران التي ساندت العراق بالقضاء على “داعش” حسب زعمهم، ومن المتوقع أن تحاول تلك الأحزاب وبقوة قطع الطريق على العبادي للوصول لرئاسة الوزراء مرة ثانية.
إن العبادي لا قِبَلَ له بالتصدي للهجمة الشرسة التي تنتظره حين عودته لبغداد، التي بدأت بوادرها منذ أيام، ما لم يكن قد ضَمِن وقوف الجانب الأمريكي الذي سيكون على استعداد للتدخل وبشتى الطرق لمساندة العبادي، وتأمين النجاح لخطواته الأخيرة، بل وستحاول أمريكا ضمان وصوله للسلطة مرة أخرى، وتنحية أتباع إيران من الوصول إليها.