“ملك.. مصعب.. مجاهد.. مريم.. إسلام”.. قرأ الأسماء على الكفن فيما تظهر عليه علامات الصدمة، فبقيَ اسم ناقصًا، سألوه: “شو اسم بنتك اللي مفقودة؟”، فأجاب: “مش متذكر”، حاول كثيرًا أن يذكر اسم طفلته التي بقيت جثتها تحت الأنقاض لكن لم يفلح، بعد 4 ساعات من إرهاقه لعقله وبذل مجهود كبير لكي يتذكر، قال: “غالية”.
لم يستوعب كيف لم يتذكر اسم الإنسانة الأحب على الإطلاق والأقرب إلى قلبه، أراد أن تفارقه الروح فى تلك اللحظة لكن صمد وصبر لأجل طفله الناجي أحمد، ثم أغمض عينيه وحاول جاهدًا أن يذكر وصايا أطفاله الأخيرة، فباغته صوت مريم: “بابا تغطيش وجهي بالكفن بخاف من العتمة”.
هنا نحكي مع خالد العسكري، الناجي الوحيد هو وطفله من منزلهم الذي قصفه الاحتلال الإسرائيلي ببرميل متفجّر، ليحكي عن زوجته وأطفاله، وليخبرنا عن ملك ومصعب اللذين رباهما بعد استشهاد شقيقه، فماذا يعني أن تفقد العائلة دفعة واحدة؟ وماذا أن تفارقك ابنتك المدللة التي لطالما تشبثت بك في كل لحظاتها؟ ماذا عن الأب الفاقد وجرحه الذي لا يشفى بمرور الأيام بل يتفاقم؟
وفقًا لمكتب الإعلام الحكومي بغزة، فإن عدد الأطفال الشهداء وصل إلى 15 ألفًا و517 طفلًا، والأعداد في ازياد نظرًا إلى تواصل المجازر الإسرائيلية، ويوجد 17 ألف طفل يعيشون من دون والديهم أو من دون أحدهما، و115 طفلًا رضيعًا وُلدوا واستشهدوا في حرب الإبادة الجماعية، واستشهد 36 نتيجة المجاعة.
9 شهداء في 3 قبور
في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، وفي تمام الساعة الثامنة والنصف مساءً، لمع ضوء في سماء معسكر جباليا، وإذ به صاروخ إسرائيلي يعرف هدفه جيدًا، سقط على رؤوس عائلة خالد وهم نيام ليقتل 9 أفراد، زوجته وأطفاله ووالديه.
يقول خالد لـ”نون بوست”: “يوم استهداف المنزل لم أعرف ما الذي حدث إلا حينما عدت للوعي في المشفى، وفورًا سألت عن عائلتي، أجابوني أن طفلي أحمد مصاب، حمدت الله فور رؤيته على قيد الحياة، سألت عن غالية ابنتي الأحب لقلبي فصمتوا، ثم سألت أين الأهل، أخذوني نحو ثلاجات الموتى، فلم أستطع وداعهم إذ كانت أجسادهم مشوّهة ومقطّعة بفعل الصاورخ، لم أودع سوى آخر العنقود مجاهد”.
كانت لحظة قاسية عليه وهو يقف قبالة الأكفان، وما زاد ألمه أنه نسيَ اسم غالية، لام نفسه كثيرًا: “كيف ما تذكرت بنتي الغالية على اسم إمي؟ كيف ما تزكرت حبيبة قلبي؟”، تفوقت الصدمة على الذاكرة حينها، وبقيَ يؤنّب نفسه مرارًا وتكرارًا، ورفض أن يدفنوا العائلة دونها، وحينما وجدوها باليوم التالي دفنهم أعمامهم، أما الأب، خالد، فلم يقوَ على وضع التراب عليهم والرحيل، وحينما عادوا أخبروه بأنهم دفنوا الـ 9 في 3 قبور فقط.
في الواحدة ليلًا يوم قتلتهم “إسرائيل”، جلس خالد في أروقة المشفى ينتظر خبر عن حالة طفله أحمد الناجي الوحيد من أطفاله، فجاء وجه ابنته مريم أمامه وهي تبتسم وتوصيه: “بابا لما استشهد ما تغطي وجهي بخاف من العتمة”، قفز من مكانه نحو ثلاجات الموتى، فمنعوه نظرًا إلى حالته النفسية، لكنه أصرّ عليهم وأخبرهم بوصية طفلته.
فيضيف لـ”نون بوست”: “توجهت أنا وصديقي نحو الثلاجات، ويومها كانت الكهرباء منقطعة عن المشفى، فأشعلنا الكشاف لنرى جيدًا، كانوا جميعهم يضمهم الكفن بكامل أجسادهم إلا مريم، كان وجهها ظاهرًا من كفنها لكن نصفه مقطوع”.
“روح والدها” شهيدة
لم يفرّق خالد يومًا بين أطفاله وابنَي شقيقه الشهيد ملك ومصعب، فكانا يناديانه “بابا”، رزقه الله بعدها بإسلام ومريم وغالية ومجاهد وأحمد، فاعتبر نفسه محظوظًا بكفة البنات التي رجحت، كان أبًا محبًّا لبناته، يعتبرهن انتصاره العظيم في هذه الحياة، وعلى رأسهن غالية التي كان أخوتها يغارون من حب أبيها لها، يخبرنا خالد: “بحب كل ولادي بس غالية إلها بالقلب الحصة الأكبر.. بتذكر لما كنت اطلع بالحرب ما كانت ترضى تطلعني كانت خايفة علي استشهد”.
فيكمل لـ”نون بوست”: “كان قلبي يغلي على غالية وهي مفقودة، لم تغفُ عيني طوال الليل، وأنا أفكر هل هي حية تحت الأنقاض، ماذا شعرت، هل تبحث عني، كانت تدعو الله دائمًا وتقول: “يارب إن هينقصف البيت علينا يا رب أكون نايمة عشان بخاف من صوت القصف بديش أحس”، وهذا دعاء طفلة لم تتجاوز التاسعة من العمر، لكن حقق الله لها أمنيتها واستشهدت وهي نائمة”.
يخبرنا خالد عن مرض غالية قبل الحرب بحوالي شهر، حينما أجرت عملية الزائدة، فيقول: “لما عملت العملية كان وجعها وجعي مش متخيل أنه تتوجع أو حتى تنخدش، ضليت 3 أيام أنام عندها بالمشفى ما بتحرك من مكاني خايف على زعلها، أساسًا مش مستوعب أنه الغالية راحت، بدلعها بشقاوتها”.
لم يكفّ خالد عن النظر إلى صور غالية في ذكرى ميلادها الأخيرة، يذكر حينما قال لها: “ليس معي مال لكي اشتري لك الهدايا والكيك”، فأجابت: “مش مهم يا بابا عادي”، ثم فاجئها بحفلة في المطعم الذي تحبه، كان يكفيه ابتسامة منها ليشعر أنه يملك الدنيا وما فيها.
وفي وقت سابق كان قد حذّر المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا”، فيليب لازاريني، من الحرب التي تشنّها “إسرائيل” على أطفال غزة، مؤكدًا أن عدد الأطفال الذين قُتلوا من 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 يعتبر الأعلى في الحروب التي شُنّت في العالم خلال آخر 4 سنوات.
وقال إن الإحصاءات التي تصدر عن أعداد الأطفال الشهداء في غزة صادمة، وأن هذه الحرب هي حرب على مستقبل الأطفال.
لكل ابن من أبناء خالد أمنية، فهذه إسلام كانت توصي والدها بأن يدفنها مع جدتها في قبر واحد، أما مصعب كان يدعو الله أن ينجو وكل عائلته لكي لا يتحسر أحد على أحد، وهذه ملك تتمنى أن تنتهي الحرب لتكمل دراسة الثانوية العامة وتدرس الحقوق، ومريم وغالية ومجاهد بأحلامهم البسيطة التي تدور كلها حول وصايا الشهداء.
كان لدى خالد آمال وأحلام كثيرة، يودّ أن يرى أطفاله في أعلى المراتب، كان يستعد ليسكنهم بيتًا واسعًا، لم ينسَ وجه الصغار وهم يخططون كيف ستكون غرفهم، وزوجته وهي تخطط كيف ستكون غرفة الصالون والمطبخ، وأي الألوان ستغلب على البيت، نسوا كل شيء في الحرب وتمحورت الأمنيات حول النجاة فقط من المحرقة.
أحمد الناجي الوحيد
أما عن طفله الناجي أحمد البالغ من العمر 12 عامًا، يحكي لنا خالد ويقول: “كانت إصابة أحمد خطيرة، تهتّك بالطحال والبنكرياس، وحروق شديدة في اليد والقدم والبطن والظهر، وكسر معقّد في فخذ الرجل اليمنى مع وجود قصر حوالي 7 سنتيمرات، لم تقتصر المعاناة على الألم الجسدي، فعانى نفسيًا عندما عرف باستشهاد كل العائلة، تصيبه نوبات صراخ متواصلة، وعندما يسمع أحد ينادي على أمه يبكي بعنف، حتى اضطررنا في كل مرة أن نحقنه بإبرة مهدئة”.
لم ينسَ خالد أن يخبرنا عن محاصرة الجيش الإسرائيلي للمشفى الأندونيسي في شمال قطاع غزة، والتي كان أحمد يخضع للعلاج فيها، فكانت أيام مريرة وقاسية، إذ أجبروهم على النزوح عنوة إلى الجنوب.
مع حاجة أحمد لاهتمام طبي وإجراء عمليات في القدم لا يمكن إجراؤها في غزة نظرًا إلى قلة الإمكانيات، قدّم له والده على تحويلة طبية للسفر للعلاج بالخارج، وبالفعل وضع اسمه على قائمة المسافرين للعلاج، لكن ما نغّص على خالد رفض السلطات الإسرائيلية سفره كمرافق مع طفله، فسافر أحمد جريحًا وحيدًا إلى تركيا ليبدأ رحلة علاجية صعبة.
يكمل والد أحمد لـ”نون بوست”: “تأثرت أنا وأحمد بمنعي من السفر ولكن لا بأس، دعمته معنويًا وقلت له سنكون سويًا عبر الهاتف، استمر علاجه لفترة طويلة لكن بفضل الاهتمام الطبي بتركيا به تحسنت حالته كثيرًا، وأصبح يمشي على قدميه، وتم التسجيل له بمدرسة في أنقرة حتى لا يفوته عام دراسي آخر، وأنا آمل الآن أن تنتهي الحرب لكي ألتقي بابني الوحيد”.
في السياق ذاته، قال المتحدث باسم اليونيسف جيمس إلدر: “هذه حرب على الأطفال، لا نقول ذلك باستخفاف، ولا نقول ذلك للاستهلاك الإخباري، بل نقوله بناءً على الأدلة المستندة على التأثير غير المتناسب الذي تحدثه هذه الحرب على الأولاد والبنات”.
يشار إلى أن حصيلة الشهداء في غزة ارتفعت إلى 41 ألفًا و84 شهيدًا و95 ألفًا و29 إصابة، وما زالت الأعداد ترتفع إثر استمرار المجازر الإسرائيلية في غزة، والتي تتعمّد استهداف عائلات بأكلمها وتمسحهم من السجل المدني.