ذُكرت مدينة “بيتوم” أو “Pa-yuum ” في سفر الخروج (1:11) كمدينة مصرية قديمة عُرف معنى اسمها بـ”إله الشمس”، وذُكر أنها مجموعة من البيوت بناها اليهود بأمر من الفرعون قبل خروجهم من مصر، ربط الكثير من المؤرخين بين “بيت الإله” أو “بيتوم” وتعني البحيرة والفيوم (مدينة تبعد عن القاهرة بنحو 100 كيلومتر) وعلى الرغم من أنه لا يوجد دفاع واضح عن زعم ذكرها في الكتب المقدسة فإن الفيوم بالفعل كان لها حضارة عُرفت باسم حضارة البحيرة أو حضارة البحيرات امتدت قبل سيطرة الفراعنة وحتى وصول الرومان إلى البلاد.
قبل الميلاد بنحو 7000 عام وأكثر استعمر الناس منطقة مصرية عُرفت بالفيوم كأول وجود بشري على الأرض في تلك المنطقة، بدأت بعدها ببضعة آلاف من السنين ظهور علامات لأول حضارة زراعية في تلك المنطقة وأول مظاهر لثورة زراعية قبل تلك التي عرفها البشر حديثًا في نهايات القرن الـ18، بعدما كانت الفيوم التي كانت تبعد 100 كيلومتر عن “ممفيس” عاصمة مملكة مصر القديمة بمثابة منطقة صحراوية جافة قبل أن تتحول إلى واحة خصبة تجذب حياة البشر والنباتات والحيوانات.
لم تتمركز الحضارة المصرية على المعابد والأهرامات، بل هناك آثار معينة توقف الحديث عنها ونقلها عبر التاريخ بعد وفاة المؤرخ المعروف هيرودوت الذي أرخ كثيرًا من حقب الحضارة المصرية القديمة في ممالكها الثلاثة، وهذا ما أثر بشكل كبير على عمليات التنقيب والبحث عما خلفته تلك الحضارة تحديدًا من إسهامات ثقافية وحضارية، إلا أن المملكة الوسطى عُرفت بأنها أكثر الممالك إسهامًا في الفن والثقافة، وأُرخت في التاريخ على أنها أكثر الحقب ازدهارًا بالأعمال الفنية التي وُجدت لأول مرة في التاريخ، وعلى الرغم من ذلك لم يكن هناك آثار موجودة تُثبت ذلك التأريخ بشكل مادي، لأسباب مختلفة من بينها اختفاء تلك الآثار نتيجة السرقة أو العوامل البيئية.
اختفاء أهرامات ولوحات غامضة
صورة للأهرامات التي كانت موجودة من قبل على بحيرة قارون في منطقة الفيوم والتي اختفت في العصر الحاليّ
لطالما كان هناك إشاعات بشأن “بحيرة قارون” في أوساط المصريين عن حضارة غارقة تحت البحيرة، ربما لهذا عُرفت حضارة الفيوم بحضارة البحيرة في السجلات التاريخية، لأن كل ما ظهر منها في ذلك الوقت كان فوق سطح مياه البحيرة، ولم يكن ذلك مجرد معابد أو تماثيل، بل كان هناك صور ووصف لهرمين كانا قد سبقا أهرامات الجيزة في وقت البناء، وُوجد لهم وصف في مؤرخات “هيرودوت” عُرفت بعنوان “متاهة مصر المفقودة” التي كان لها آثار فوق بحيرة قارون ترتفع عن البحيرة بنحو 600 قدم عن سطح المياه عرفها الأخير بـ”مدينة التماسيح”.
وصف “هيرودوت” في مؤرخاته حضارة الفيوم بأنها تتمتع بأعلى ضرائب في المنطقة، وهو ما شكك البعض في كون حضارة الفيوم حضارة منفصلة تمامًا عن الحضارة الفرعونية وكونها منافسة لها
لا يوجد أي معلومات حديثة عن “متاهة مصر المفقودة” وأهرامات الفيوم بعد ما أرّخه هيرودوت، إلا أنه كان هناك اكتشاف حديث في عام 2012 لعالمة آثار تُدعى أنجيلا ميتشل، حيث وجدت دلائل تشير إلى وجود أهرامات قديمة بالفعل في منطقة الفيوم من خلال صور لخرائط ملتقطة من أقمار صناعية للمنطقة، وهو ما وجده كثير من علماء الجيولوجيا صورًا حقيقية لآثار كانت موجودة ووصفوا الحقبة بـ”حضارات ما قبل الأهرامات”، كما وُجد كثير من الحفر في طبقات الأرض لم يُعرف ماهيتها قبل الاختفاء، ربما كانت لآثار كانت اختفت تحت البحار ومن ثم ردمها التراب أو من الممكن أن تكون حفر لبراكين.
وُجد في وصف هيرودوت عن حضارة مصر المفقودة أو حضارة البحيرة التي كانت تعرف في مؤرخات حديثة بحضارة “مدينة الفيوم” أقوال غريبة بعض الشيء بشأن نظامها التجاري، حيث قال إن منطقة مدينة الفيوم وما حولها من قرى ومدن صغيرة وأنهار كانت موجودة في ذلك الوقت كانت تتمتع بنسب ضرائب عالية جدًا مقارنة بالضرائب المفروضة على المواطنين في المناطق الأخرى، وأكثر من الضرائب المفروضة في أي منطقة جغرافية أخرى في تلك الحقبة من التاريخ، وهو ما لم يدعمه هيرودوت في المؤرخات بتفاصيل عن نشاط تلك المنطقة التجاري أو سبب كونها تتمتع بأعلى ضرائب في المنطقة تُدفع للحاكم أو الفرعون في ذلك الوقت.
لوحات الفيوم: صور تشبه المصريين الحاليين كثيرًا
توجد كثير من لوحات الفيوم في متحف “جيتي” في كاليفورنيا بالولايات المتحدة وعرض المتحف الصور على الإنترنت في محتوى رقمي سهل الوصول إليه
اكتُشفت لوحات عُرفت بـ“لوحات الفيوم” في سابقة من نوعها عام 1888 ميلاديًا، ومجددًا عام 1911 على يد العالم البريطاني فليندرز بيتري ضمن رحلات صندوق دعم استكشافات مصر البريطاني الموجود في لندن منذ قرن من الزمان، اكتشف حينها عالم الآثار البريطاني مجموعة ضخمة من اللوحات المرسومة على قطع خشبية مُكتشفة في مقابر جمعت العديد من الهياكل العظمية التي عُرف فيما بعد أنها تعود إلى مواطنين محليين وليسوا فراعنة أو أباطرة، وصفها بيتري بلوحات الفيوم أو بورتريهات الفيوم.
عُرفت اللوحات في الأوساط الفنية كذلك بأول فن تصويري واقعي للوجه في التاريخ
عمل عالم الآثار البريطاني بيتري جنبًا إلى جنب مع زوجته عالمة الآثار أيضًا هيلدا بيتري في اكتشاف أكبر قدر ممكن مما خلفته آثار حضارة الفيوم، وحظوا بمجموعة ضخمة من اللوحات الخشبية المستخرجة من مقابر أصحابها، نقلوها بشكل منظم إلى المتحف البريطاني في لندن تزامنًا مع الاحتلال البريطاني لمصر منذ عام 1882 وحتى 1956، وقتها فقط بدأ يسمع العالم وكل المهتمين بالتاريخ بقصة لوحات حضارة الفيوم بعد نقلها للمتحف البريطاني وبعض المتاحف الأوروبية التي اشترت بعض اللوحات من المتحف الأخير.
أدهشت الرسوم الموجودة على كل لوحة من لوحات الفيوم العالم البريطاني، لأن قصتها كانت فريدة من نوعها على الحضارة المصرية، لم يكن هناك لوحات مرسومة يدويًا لكل جثة فرعونية تم تحنيطها أو حتى لكل جثة فرعونية وجدت في المقابر المُكتشفة حديثًا، ولكن كان هناك لوحة لأغلب الجثث التي دُفنت في حضارة الفيوم مع أصحابها في الحقبة ما بين ازدهارها قبل 7 آلاف سنة قبل الميلاد وحتى انحدارها وقلة عدد مواطنيها نحو 3 آلاف سنة قبل الميلاد.
كان الأمر مختلفًا في سرقة لوحات الفيوم، لم يعرف عنها كثير من المصريين شيئًا على الرغم من كونها جزءًا من الآثار التاريخية لحضارات كانت الأولى من نوعها في تلك المنطقة الجغرافية في ذلك الوقت
عاش في مصر أقليات من أصول إغريقية ورومانية بعد هزيمة الرومان لكليوباترا، وبدأ الرومان في تقليد المصريين في طقوس وعادات دفن موتاهم، حيث كان الرومان يحرقون موتاهم ويضعون ما تبقى من رمادهم في أوانٍ فخارية، إلا أنهم اقتنعوا باقتناع الفراعنة بأن الموت ما هو إلا مرحلة من أجل الوصول إلى الأبدية ولهذا قاموا أيضًا بمحاولة تحنيط أجساد موتاهم، ولأن الرأس يكون مُغطى بالكامل وجد الرومان صعوبة في تعرف الروح على الجسد فيما بعد، ولهذا قرروا رسم لوحات للمتوفى توضع على رأسه أو على التابوت الذي يحمله كما هو الحال في بورتريهات الفيوم.
بعدما انتشرت بورتريهات الفيوم في المتاحف الأوروبية وبدأ يذاع صيتها في الأوساط المهتمة بالتاريخ، وعُرفت في الأوساط الفنية كذلك بأول فن تصويري واقعي للوجه في التاريخ، استُخدم فيها أسلوبان للرسم، النوع الأول كان عبارة عن استخدام ألوان مخلوطة بالغراء للرسم على الألواح الخشبية، أما النوع الثاني فكان عبارة عن استخدام صبغات مخلوطة بالشمع الساخن وهو ما ساعد على بقاء تلك اللوحات كما هي، بمساعدة مناخ مصر الجاف كذلك.
قال المؤرخ الفني البريطاني ديفيد تومسون “العديد من اللوحات هي صور مثالية للمتوفى قبل وفاته وكانت تعلق في المنزل خلال حياته وتوضع على جثته في مقبرته بعد الوفاة”
نقل عالم الآثار البريطاني أكثر من 1000 لوحة من لوحات الفيوم، عُبر فيها عن أجناس مختلفة عاشت في مصر في تلك الفترة لمصريين من أصول إغريقية أو رومانية أو مصريين من الفلاحين البسطاء في مجتمعات حضارة الفيوم الزراعية، فمن الممكن تحليل الأجناس والأعراق من بعض الملامح الشخصية كالشعر الإفريقي الذي يتميز به كثير من المصريين، والأنف القبطي أو العيون الرومانية أو الإغريقية.
هناك عامل مشترك بين اللوحات أنها رُسمت لأشخاص توفوا في أعمار صغيرة جدًا وقلما وجدت لوحة لشخص كبير في العمر
فُقدت كثير من الآثار التاريخية في الشرق الأوسط في الحقبة التي وصل فيها المستعمر الأوروبي إلى البلاد في بدايات القرن الماضي، أُخذ بعضها بشكل رسمي بعد خضوع الحاكم الوطني للاستعمار الفرنسي أو البريطاني وموافقته على نقل الآثار إلى بلاد المستعمر، حيث توجد أصول مصرية لتماثيل مشهورة تاريخيًا مثل تمثال نيفرتيتي إلا أنه لا يوجد في مصر وموجود حاليًّا في المتحف الألماني، وطالبت مصر بإعادة أكثر من 3000 قطعة أثرية سُرقت من أرضها وقت الاستعمار الأوروبي بمختلف حقبه إلا أنها لم تتلق استجابة حتى الآن.
كان الأمر مختلفًا في سرقة لوحات الفيوم، لم يعرف عنها كثير من المصريين شيئًا على الرغم من كونها جزءًا من الآثار التاريخية لحضارات كانت الأولى من نوعها في تلك المنطقة الجغرافية في ذلك الوقت، وكونها أسهمت بشكل كبير وجذري في تقديم أنواع جديدة من الفن إلى الحضارة البشرية، إلا أنها لم تُعرف إلا حديثًا وبسبب ذلك لم توجد بحوث مستمرة عليها، كما هو الحال مع الحضارة الفرعونية المستمر البحث والتنقيب عن آثارها إلى اليوم، ولا يوجد أي تأريخ لأحداثها ومعاركها وصلاتها بالحضارة الفرعونية بعد وفاة المؤرخ هيرودوت، وكل ما بقي منها ملامح أصلية لشكل المصريين قبل أكثر من 2000 عامًا قبل الميلاد.