كثيرًا ما نسمع عن موجات الهجرة غير النظامية التي تنطلق من السواحل التونسية نحو دول أوروبا الغربية بحثًا عن الجنة الموعودة والكرامة المفقودة، هجرة غير نظامية يخاطر فيها المهاجر بحياته في “قوارب موت” تتلاقفها أمواج البحر.
لكن هناك في الطرف المقابل هجرة أخرى تعرف بـ”هجرة الأدمغة” التي إن كانت بطريقة نظامية ودون أي خطر على المهاجر فإن العديد يحذر منها، ولإن اختلفت الثانية عن الأولى في الطريقة فإنهما يجتمعان في السبب، حتى باتت هجرة الأدمغة بمثابة “التهجير القسري”.
الثانية عربيًا في هجرة الكفاءات
في السنوات الأخيرة احتلت تونس، وفقًا لتقرير أنجزه المرصد الاجتماعي التونسي التابع للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (حقوقي مستقل)، المرتبة الثانية عربيًا خلف سوريا في هجرة الكفاءات العلمية، حيث سجلت وزارة التعليم العالي خلال الـ6 سنوات الماضية مغادرة قرابة 94 ألف كفاءة تونسية، 84% منها غادرت باتجاه دول أوروبية.
وتوصف بـ”هجرة الأدمغة” تلك الحركة البشرية العابرة للحدود للعاملين من ذوي الكفاءات العالية من بلد إلى آخر خاصة من البلدان النامية إلى البلدان المتقدمة، ويعرف هؤلاء بأنهم من درسوا للحصول على درجة علمية أو يملكون خبرة في مجال أكاديمي معين.
وخلال هذه السنة والسنة التي سبقتها سجلت تونس مغادرة 8500 كفاءة 10% منهم من النساء، ويتوزع المهاجرون إلى 2300 أستاذ باحث ومثلهم مهندسون إضافة إلى 1000 طبيب وصيدلي و450 تقنيًا، ومهن أخرى.
يرجع النظام التونسي والماسكون بزمام الحكم في البلاد سبب هجرة الكفاءات إلى بحثهم المتواصل عن المال، دون التطرق إلى باقي المشاكل التي تتعرض لها الكفاءات التونسية خاصة المعنوية منها
يتصدر الأساتذة الجامعيون والباحثون المرتبة الأولى في صفوف عدد المهاجرين بنسبة 24% أي ما يقدر بـ25 ألف أستاذ، وقال اتحاد الأساتذة الجامعيين الباحثين التونسيين إنه خلال سنوات ما بعد الثورة سُجلت هجرة ثلث الجامعيين، مشيرًا إلى أن عدد الجامعيين في تونس يقدر بـ12 ألف أستاذ، بينهم 4 آلاف أستاذ هاجروا إلى دول الخليج أو نحو الدول الأوروبية.
لم تقتصر “هجرة الأدمغة” على الأساتذة الجامعيين والباحثين فقط، وإنما شملت أيضًا الأطباء والمهندسين، فقد عرفت أعداد المهاجرين منهم في السنوات الأخيرة ارتفاعًا كبيرًا، ما جعل بعض المنظمات تدق ناقوس الخطر للتصدي لهذه الظاهرة.
وقبل ذلك كشفت منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية في دراسة لها أن التركيبة السكانية للتونسيين المقيمين بالخارج يغلب عليها الشبان المتعلمين والحاصلين على شهادات جامعية شاملة لعدة اختصاصات، وأضافت المنظمة أنه سُجلت تحولات نوعية وكمية لتوجه المهاجرين التونسيين في السنوات الأخيرة، وذلك من دول أوروبا التقليدية إلى دول الخليج العربي وكندا والولايات المتحدة الأمريكية.
وفي شهر يونيو/حزيران 2017 أظهرت دراسة أعدها مركز تونس للبحوث الإستراتيجية أن 78% من الكفاءات ترغب في الهجرة بحثًا عن أوضاع مهنية أفضل، وهو مؤشر مفزع بالنسبة للبلاد التي كثيرًا ما راهنت على التعليم لتحقيق الارتقاء الاجتماعي.
تهجير قسري
هذه الهجرة لم تقتصر على فئة معينة، بل شملت معظم المجالات في تونس، فأغلب المهاجرين أجبرتهم قسوة الظروف المادية وغياب مواطن الشغل والتهميش المهني والإقصاء المعنوي، على الهجرة إلى البلدان الأجنبية بهدف تحسين أوضاعهم المالية وتطوير خبراتهم المهنية.
يرجع النظام التونسي والماسكون بزمام الحكم في البلاد سبب هجرة الكفاءات إلى بحثهم المتواصل عن المال، دون التطرق إلى باقي المشاكل التي تتعرض لها الكفاءات التونسية خاصة المعنوية منها، فالشباب التونسي يعاني وفقًا للعديد من الشهادات من الإقصاء المعنوي والتقليل من شأنه وعدم الاهتمام به.
ارتفاع نسبة البطالة في تونس خاصة لدى أصحاب الشهادات العليا
الشاب التونسي وإن كان صاحب شهادة جامعية عالية وكفاءة كبيرة، لا يعدو أن يكون مجرد رقم في الدولة ليس أكثر، فلا توجد سياسات واضحة للنهوض بوضعيته، حتى إنه اختار اعتزال الفضاء العام والبحث عن أول فرصة للخروج من تونس، ليس بحثًا عن المال كما يردد بل بحثًا عن “كرامة مفقودة” في بلاده.
ويؤكد العديد من التونسيين الذين خبروا الهجرة أو ممن ينوي الهجرة أن السبب وراء سعيهم لذلك يعود في درجة كبيرة إلى تعرضهم إلى أبشع أشكال التحقير المادي والمعنوي من طرف المسؤولين، سواء على مستوى الإدارات المركزية أم على مستوى إدارات المؤسسات التي ينتمون إليها وظيفيًا.
يرى هؤلاء في الدول الغربية وكندا والولايات المتحدة الأمريكية فضاءً بديلًا يوفر لهم كرامة العيش التي فقدوها في بلادهم، ويحول دون إجهاض مشاريعهم العلمية والفكرية التي أرادوا من قبل تحقيقها في الفضاء الوطني التونسي.
سياسات خاطئة
بدورها اعتبرت سناء مدللة بنضو المديرة التنفيذية للمعهد العربي للديمقراطية بتونس أن هجرة الأدمغة ترتبط بالناحية المادية والمعنوية، وفي حديثها لنون بوست قالت بنضو: “نعم هي من ناحية نتيجة رغبة المهاجر في تحسين وضعه المالي، ومن ناحية أخرى هي نتاج لوضع اجتماعي وسياسي يدفعه إلى الهجرة أي أنها تهجير قسري”.
وتضيف بنضو أن “هجرة الأدمغة في تونس نتاج لعدة أسباب، أولها انتمائهم لبلد من العالم الثالث أي أن الباحث والعالم والمفكر يولد في بيئة غالبًا ما تغرس فيه طموح الخروج من وضعية اجتماعية صعبة نظرًا لتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية كذلك، وهو ما يجعله شمعة أمل لعائلته مع بداية نجاحه في مشواره الدراسي”.
وتضيف بنضو: “يبدأ هذا الباحث بالتفكير الجدي في الهجرة عندما يصطدم بواقع وممارسات تكسر فيه حتى أمل العيش الكريم، في وقت يكون فيه من هو أقل علمًا ومهارة أكثر حظوة ومكانة نتيجة للمحسوبية وعدم تكافؤ الفرص، وهنا نلاحظ أن التهميش والتحقير الذي يتعرض له صاحب الكفاءة يدفع به إلى التفكير في الهجرة، أي أن هجرة الأدمغة مرتبطة بجوانب عدة أولها السياسات التي تتبعها الدولة منذ البداية حتى في تسيرها للمناهج العلمية”.
وفق العديد من الدراسات تخسر تونس سنويًا المئات من الكفاءات التي تلقت تكوينًا عاليًا في جامعاتها العمومية والخاصة
من السياسات الخاطئة التي تنتهجها الدولة، وفق سناء، أنها تحرم الباحث من منحة بحث، ففي بعض الحالات يجد الباحث نفسه غير قادر حتى على توفير مصاريف الطباعة والتنقل، في وقت تفتح له الجامعات الأوروبية والأمريكية فرصًا كبيرة تساعده حتى على الخلق والإبداع، ولنا في نجاحات التونسيين بالخارج نموذج، وفق قولها.
ووفق العديد من الدراسات تخسر تونس سنويًا المئات من الكفاءات التي تلقت تكوينًا عاليًا في جامعاتها العمومية والخاصة، وتقول الدولة إنها راهنت على هذه الكفاءات لتسيير مؤسساتها وتحريك التنمية بما يعزز عملية التحديث الاجتماعي ويرفع من قدرات المجتمع في استخدام العلوم التكنولوجية.
ولمعرفة قدر سعي التونسيين أصحاب الشهادات الجامعية الكبرى للسفر إلى الخارج لك أن تلقي نظرة سريعة على وكالة التعاون الفني (حكومية) التي يقع مقرها في الضاحية الشمالية لتونس العاصمة، فهناك ستجد العشرات يوميًا يبحثون عن فرص للهجرة تؤمنها الدولة بالتعاون مع الدول الغربية.
“الإهانة تأتي من الجميع حتى أصبحت عادة”
صابر، مهندس تونسي في مجال الإعلامية والبرمجيات، يبلغ من العمر 31 سنة، حصل على شهادته الجامعية منذ 6 سنوات، عمل على إثر ذلك في العاصمة تونس مهندسًا في أحد المكاتب، لكن لم يلبث قليلًا حتى هاجر لفرنسا للعمل هناك.
يقول صابر لنون بوست: “خلال رحلة البحث عن عمل في تونس واجهت العديد من المصاعب، غالبًا ما أقدم طلب العمل فلا يتم التفاعل معي سلبًا ولا إيجابًا، غالبًا ما يتسلم المطلب حارس المؤسسة ولا يسمح لي حتى بالدخول لمقابلة أحد المسؤولين والحديث معه، عله ينتدبني”.
يضيف صابر: “بعد بحث طويل، تم انتدابي في مكتب يطور البرمجيات ويبيعها للحرفاء، اشتغلت هناك مدة 3 سنوات تقريبًا، لكن لم تكن الأمور على ما يرام، فالأجر ضعيف رغم أني مهندس في الإعلامية وهذا الاختصاص مطلوب كثيرًا، ولم تكن المعاملة جيدة”.
يعاني الشباب التونسي من التهميش
لم تكن الهجرة مطمح صابر فهو لا يحب فراق أمه وأخيه، لكن الظروف حتمت عليه ذلك وفق حديثه لنون بوست، “حالتي المادية كانت مقبولة” يقول صابر، ويضيف: “لكن حالتي النفسية والمعنوية لم تكن جيدة، لم أدرس طوال هذه السنوات كي أعامل بهذه الطريقة السيئة، فالإهانة تأتي من الجميع حتى أصبحت عادة”.
ومنذ عام بدأ صابر بالعمل في فرنسا، في البداية كان في العاصمة باريس ثم انتقل إلى مدينة ليل، ومؤخرًا عاد إلى باريس، فهو يتنقل حسب توزيع الشركة لمهندسيها. وهنا يقول صابر إنه وجد راحته المادية والنفسية هناك فلا أحد يقلقه، وخلال هذه السنة زار صابر أهله مرتين، غير أنه لا يفكر في الرجوع إلى مسقط رأسه بل إنه يفكر حاليًّا في الزواج من تونسية وأخذها معه لفرنسا والاستقرار هناك نهائيًا.
“من وجد فرصة الهرب عليه أن يستثمرها”
ليس صابر فقط من خير الابتعاد عن أهله وبلده، والاستقرار في بلد أجنبي مخيرًا، فغيره بالآلاف في تونس، تقول حنان، وهي شابة تونسية لم يتجاوز عمرها 25 سنة لنون بوست: “كنت أدرس في تونس في مجال الاتصال ولم تكن تراودني مسألة الهجرة بتاتًا، إلا أن ضعف التعليم في البلاد حتم علي البحث عن فرص أخرى لإكمال دراستي فاخترت جامعة السوربون بفرنسا”.
تعتبر تونس أن تعويض خسارتها البشرية – وإن جزئيًا – قد يكون من خلال التحويلات النقدية للمهاجرين
هذه السنة من المنتظر أن تنهي حنان دراستها، لكنها الآن لا تنوي الرجوع إلى تونس، فقد وجدت هناك كل ما تريد، فحتى نظرة الناس إليها في تونس تغيرت بعد سفرها، فقديمًا لا أحد يأبه لها لا الدولة ولا غيرها فهي مجرد رقم، إلا أنها الآن تعتبر كفاءة تونسية في الخارج يحسب لها ألف حساب، فهي مصدر للعملة الأجنبية.
تختم حنان حديثها لنون بوست: “بمجرد انتهائي من الدراسة سأبحث عن العمل وإن كان وقتيًا، المهم أن أبقى هنا وألا أرجع لتونس حتى لا أهان ثانية، فمن وجد فرصة الهرب عليه أن يستثمرها وألا يلقي بنفسه إلى التهلكة ثانية، مخطئ من يعود”.
مصدر لجني العملة الصعبة.. لكن نتائجها على التنمية وخيمة
نتيجة عدم اهتمام الدولة التونسية بظاهرة هجرة الكفاءات بالشكل المطلوب، أضحت هذه المشكلة تمثل خطرًا كبيرًا على الدولة، فهي بمثابة النزيف الخطير الذي ينخر جسد تونس، وتعود بداية هذه الظاهرة إلى سنوات السبعينيات، فقبلها كانت الهجرة تقتصر على اليد العاملة غير المختصة.
وخلفت الهجرة المكثفة للأساتذة الجامعيين حالة من التصحر في الجامعات التونسية، الأمر الذي أدى إلى غلق العديد من المختبرات ووحدات البحوث، إلى جانب تأثير هذه الهجرة على جودة التعليم والكفاءة في التأطير.
تعتبر تونس أن تعويض خسارتها البشرية – وإن جزئيًا – قد يكون من خلال التحويلات النقدية للمهاجرين ونقل التكنولوجيا العائدة من خلالهم
كما خلفت هجرة الأطباء نقصًا فادحًا في الإطارات الطبية في المستشفيات العمومية، ما جعل الصحة التونسية “تحتضر”، احتضار نتيجة هجرة الأطباء والممرضين فضلًا عن تفشي ظاهرة الفساد في هذا القطاع الحيوي الذي كان يمثل الاستثناء في المنطقة العربية من حيث الجودة.
ولا ترى تونس في هؤلاء المهاجرين إلا عملة أجنبية يحولها المهاجر إلى أهله نهاية كل شهر تساهم بها الدولة في تغطية حاجياتها من العملة الصعبة، حتى إن بعض المسؤولين ما فتؤوا يشجعون الشباب الحامل للشهادات العليا على الهجرة والبحث عن عمل في الخارج، كي لا تتعبهم مطالبه ولا يضطرون بين الفينة والأخرى لسماع شكواه، حتى إن كانت النية السماع دون الإصغاء.
وتعتبر تونس أن تعويض خسارتها البشرية – وإن جزئيًا – قد يكون من خلال التحويلات النقدية للمهاجرين ونقل التكنولوجيا العائدة من خلالهم، إلا أنها لا تعي أن هذه الهجرة ستضطرها إلى استيراد الخبراء الأجانب بعقود باهظة بدلًا من أبنائها المؤهلين الذين لم يجدوا لهم مستقرًا فيها.
استمرار نزيف هجرة الكفاءات من تونس يمثل وفقًا للعديد من الخبراء، ضياعًا حتميًا للكفاءات القادرة على الإبداع وخلق بنى اقتصادية جديدة وفتح آفاق علمية وتكنولوجية جديدة في البلاد، تنقذها من الوضع الذي تعيش على وقعه.