لعلها المرحلة الأخطر في النظام السياسي الفلسطيني، فنحن على أبواب نظامين منفصلين تمامًا الأول في غزة بقيادة حماس والثاني في الضفة بقيادة الرئيس عباس، حماس التي تتخذ المقاومة المسلحة حلًا جوهريًا لطبيعة الصراع مع الاحتلال، تساندها كل من الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية في ذات الخيار، وفتح التي تسعى جاهدة لبناء دولة فلسطينية ولو على حدود 67، بعد رفضها أمريكيًا واتباع نهج المقاومة السلمية كبديل عن المسلحة، يساندها في ذلك عديد من الفصائل الصغيرة التي تقتات على فتات التمويل المقدم من منظمة التحرير الفلسطينية.
عُقد المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية في رام الله يوم الأربعاء 15من أغسطس 2018 الساعة السادسة مساءً، بمقاطعة الفصائل الكبيرة، من حركة حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية والمبادرة الوطنية، وحضور الأحزاب الصغيرة التي لا تكاد تذكر في الشارع الفلسطيني ولا يتجاوز أعضاؤها النصاب، ولم تحصل على أي مقاعد في الانتخابات التشريعية عام 2006 مثل حزب فدا وحزب النضال الشعبي تتزعمهم حركة فتح.
وكانت أهم قرارات المجلس المركزي بعد انتهاء الجلسة الأولى، ملف المصالحة الفلسطينية بشكل أساسي، والوضع الداخلي لمنظمة التحرير، دون حضور أي من أطراف الانقسام الفلسطيني الحاصل، ما يعني أن قراراته ستكون أشبه بإملاءات أو افتراضات.
أبلغ رئيس الحكومة الفلسطينية رامي الحمد الله الدول المانحة عبر اجتماع مع جميع سفرائهم في مكتبه برام الله عدم تمرير أي مساعدات إلى قطاع غزة إلا من خلال “الحكومة الشرعية”
وفي الوقت الذي يعقد فيه المجلس المركزي جلسته في رام الله تعقد فيه الفصائل الفلسطينية بقيادة حماس لقاءات متواصلة مع المخابرات المصرية في القاهرة لإنجاز اتفاق في غزة يتضمن رزمة مشاريع اقتصادية وتحسينات مؤقتة دون مشاركة حركة فتح، حيث أبلغت الفصائل عدم قبولها بالإجماع لعزام الأحمد عضو اللجنة التنفيذية لحركة فتح ورئيس وفد المفاوضات في حرب 2014 أن يظل على رأس الوفد، حيث التقى الأحمد المخابرات المصرية دون أن يلتقي الفصائل في القاهرة.
وأبلغ رئيس الحكومة الفلسطينية رامي الحمد الله الدول المانحة عبر اجتماع مع جميع سفرائهم في مكتبه في رام الله عدم تمرير أي مساعدات إلى قطاع غزة إلا من خلال الحكومة الشرعية، وأنها صاحبة مهمة توظيف هذه المساعدات وتوزيعها على شرائح المجتمع، وقد حذر الحمد لله من تحويل القضية الفلسطينية من قضية سياسية إلى قضية إنسانية.
وإن كانت الفصائل قد عزلت الرئيس عباس بعدم مشاركتها في المركزي، بعد أن فقد كل خطوط اتصاله معها، إلا أن الفصائل بحد ذاتها أضعفت النظام السياسي الفلسطيني بشكل واضح وذهبت لمبادرات اقتصادية تحسن من وضعها الحاليّ في غزة، وأضعفت من الشكل الوحدوي الفلسطيني المطلوب لمواجهة المجتمع الدولي.
ويعتبر المجلس المركزي الفلسطيني الذي تشكل عام 1973 هو الهيئة الدائمة المنبثقة عن المجلس الوطني التابع لمنظمة التحرير، ويكمن دوره في مساعدة اللجنة التنفيذية للمنظمة في تنفيذ قرارات المجلس الوطني وإصدار التوجيهات المتعلقة بتطور القضية الفلسطينية، وتقع مسؤوليته تحت طائلة المجلس الوطني.
غابت الفصائل مع ممثلي التشريعي، وحركات المقاومة كذلك المستقلين عن اجتماع المجلس المركزي، وهنا لا يعرف أحد عدد أعضاء المجلس المركزي الحاليّ
ومن المفترض أن يتكون أعضاء المجلس المركزي من اللجنة التنفيذية للمنظمة ورئيس المجلس الوطني وممثلين عن المجلس التشريعي وممثلين عن الفصائل وحركات المقاومة والاتحادات الشعبية والمستقلين الفلسطينيين، ليبلغ عدده 122 عضوًا، لكن الواقع اختلف تمامًا عن الافتراض.
فقد غابت الفصائل مع ممثلي التشريعي، وحركات المقاومة كذلك المستقلين عن اجتماع المجلس المركزي، وهنا لا يعرف أحد عدد أعضاء المجلس المركزي الحاليّ، ولا على أي أساس تم اختيارهم، مع الأخذ في عين الاعتبار أن الاحتلال الإسرائيلي لن يسمح لأي شخص لا يرغب بوجوده حضور اجتماع المجلس المركزي الذي عقد الأربعاء 15من أغسطس 2018 الساعة السادسة مساءً في رام الله، أي أن المركزي فاقد السيادة والاستقلالية لحضور أعضاء وإن كانوا ممثلين رسمين عن الشعب الفلسطيني ومؤسساته الرسمية دون رغبة الاحتلال.
الشرعية واللاشرعية.. صراع المنقسمين تحت الاحتلال
إن الشكل الافتراضي لهيكلية النظام السياسي الفلسطيني يتقدمه أكبر سلطة تشريعية وهو المجلس الوطني الفلسطيني، وأكبر سلطة تنفيذية وهي المجلس المركزي الفلسطيني، وهما السلطة العليا لمنظمة التحرير الفلسطينية، يندرج تحتهما مؤسسة الرئاسة ثم المؤسسة التشريعية وهي المجلس التشريعي المعطل، لكن النظام لم يتم حسمه حتى وفاة أبو عمار: هل هو رئاسي أم برلماني؟ ففي الوقت الذي كان فيه رئاسي إبان حقبة الشهيد ياسر عرفات كانت تدفع أمريكا وأوروبا لتحويله إلى برلماني لسحب الصلاحيات من أبو عمار لذلك عينت أحمد قريع رئيسًا للحكومة في البداية ثم فشلت وعينت محمود عباس ثم فشلت المحاولة.
والآن لا يوجد في الواقع الحقيقي ما يمكن اعتباره نظامًا سياسيًا فلسطينيًا جامعًا للفلسطينيين، فمنظمة التحرير خارج سياقها حماس والجهاد، والفصائل لا تجمع الكل الفلسطيني في الداخل والخارج، وهكذا يمكن اعتبار النظام شكل من أشكال السلطة المحلية في المناطق الجغرافية الموجود بها الفلسطينيون في الداخل، ولا سلطة للسلطة على الفلسطينيين في الداخل المحتل.
الضامن لبقاء الاحتلال الإسرائيلي منذ نشأته، والضامن لتقدمه بعلاقات اقتصادية أو سياسية مع محيطه والعالم هو الانفصال السياسي الفلسطيني
وفي الوقت الذي تعتبر فتح نفسها وفق القوانين السابقة التي لم تتغير أنها الممثل للفلسطينيين لثقلها في المؤسسات الرسمية من مؤسسة الرئاسة والمنظمة، تعتبر حماس نفسها ممثلًا للفلسطينيين وفق نتائج انتخابات 2006 البرلمانية، وتعتبر الجهاد وباقي الفصائل المسلحة نفسها تمثل الفلسطينيين وفق إطار المقاومة والعمل الوطني.
هنا يمكن أن نقول إن الشرعية قسمت من خلال المقسَّم نفسه، لا سلطة ولا سيادة على بقعة جغرافية داخل فلسطين حتى في غزة، فحماس لا تسيطر على أي شكل من معالم السيادة التي تربطها بالخارج أو بالاقتصاد، وكذلك السلطة لا تسيطر على الفصائل.
الانقسام الحالة التي يريدها الاحتلال لضمان بقائه
إن الضامن لبقاء الاحتلال الإسرائيلي منذ نشأته، والضامن لتقدمه بعلاقات اقتصادية أو سياسية مع محيطه والعالم هو الانفصال السياسي الفلسطيني، لم يكن الفلسطينيون يومًا ما على قلب نظام سياسي واحد، حتى في انتخابات عام 2006 لم تشارك الجهاد الإسلامي فيها باعتبارها الفصيل الثالث الأكبر في الساحة الفلسطينية ولاعتراضها على انتخابات ولدت من رحم أوسلو، وحتى منظمة التحرير الفلسطينية التي تنظر لها حركة فتح الممثل الشرعي الوحيد للفلسطينيين لا يوجد أي تمثيل رسمي لحماس أو الجهاد فيها، في حين أن الفاعل الأساسي للنظام السياسي الفلسطيني منذ نشأته هي الفصائل الفلسطينية بالمقام الأول.
ويمكن تبسيط المشهد الحاصل بما قاله دان حالوتس رئيس أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي الأسبق: “نحن لا نريد السيطرة على غزة، ولا تحمل مسؤوليتها، وعباس لا يريد رفع العقوبات عن غزة، وحماس لا تريد أن تتنازل عن غزة، وعلى هذا الأساس ذهبنا إلى مفاوضات القاهرة”.
تحمل المرحلة القادمة صراعًا جديدًا في السياق الفلسطيني الداخلي ما بين البُعد التنفيذي والبُعد الإستراتيجي، السلطة تريد دولة وسيادة مع الضفة وغزة، وحماس تريد الخروج من مأزقها بعد تنصل السلطة من دورها تجاه غزة
في حين قال المبعوث الأمريكي لعملية السلام في الشرق الأوسط جيسون جرينبلات إن أمريكا تريد التوصل إلى تهدئة بين “إسرائيل” وحماس سواء من خلال السلطة أم دونها، ما يعني أنها تريد حالة الانقسام الحاصلة وتريد التعامل معها كواقع يجب استمراره.
تحمل المرحلة القادمة صراعًا جديدًا في السياق الفلسطيني الداخلي ما بين البُعد التنفيذي والبُعد الإستراتيجي، السلطة تريد دولة وسيادة مع الضفة وغزة، وحماس تريد الخروج من مأزقها بعد تنصل السلطة من دورها تجاه غزة وفق التقليصات التي تحصل، دون معالجة القضايا المركزية، وعليه إن بقاء الأمور على ما هي رغبة أمريكية إسرائيلية للتعامل مع كلا الطرفين كل على انفراد، الضفة كحالة وفق سياق أمني أولًا وغزة أيضًا كحالة وفق سياق أمني أولًا، والمساعدات مقابل الاستقرار.
وإن كانت الولايات المتحدة تريد تجاوز الرئيس عباس في المرحلة القادمة في تعاملها مع غزة، إلا أنها تسعى لاستقرار الحالة الأمنية في الضفة الغريبة أيضًا من خلال استمرار مساعداتها الأمنية، وثقتها بعدم حصول أي حالة ثورية تنفجر في الضفة بقرار رسمي.
وكذلك الاحتلال الإسرائيلي الذي لا تفارق طائرات استطلاعه وأجهزة المراقبة من الكاميرات الموزعة في غالبية الشوارع الكبرى للضفة الغربية يبني من الآن سياسته للمرحلة القادمة، لكنه الآن يسعى لعقد اتفاق جزئي مع حماس يضمن حالة من الاستقرار في غلاف مستوطنات غزة، ويضمن معها استمرار حالة الانقسام بين الفلسطينيين، وفي كلا الحالتين الخاسر الوحيد هم الفلسطينيون أنفسهم.