تقع داغستان التي تغطي مساحتها 50 ألفًا و300 كيلومتر بالقرب من الحدود الجغرافية لأوروبا وآسيا، وعلى الطرف الشرقي من الجهة الشمالية لجبال القوقاز الكبرى وفي أقصى جنوب روسيا، ويحدّها الشيشان وقلميقيا وستافروبول وجورجيا، كما أن لها حدودًا مائية عبر بحر قزوين مع كازاخستان وتركمانستان وأذربيجان وإيران.
وفي حين يشكّل شمال داغستان جزءًا من السهوب الأوراسية الكبرى، فإن جنوبها وغربها جبليان للغاية، باستثناء سهل ساحلي ضيق بين بحر قزوين ونهاية سلسلة جبال القوقاز، وعلى مدى آلاف السنين كان هذا السهل الضيق هو طريق النقل الرئيسي بين السهوب الأوراسية إلى مناطق ما وراء القوقاز.
نستكشف طبيعة هذه البلاد وسكانها ضمن ملف “ديار الإسلام في روسيا” وفيه نسرد تاريخ منطقة سيبيريا وجمهوريات شمال القوقاز التي تضم الشيشان وإنغوشيا وداغستان وقبردينو بلقاريا وقره شاي شركيسيا، وجمهوريتي تتارستان وبشكيريا، وهي أقاليم روسية تقطنها غالبية مسلمة، يقدر عددها بنحو 25 مليونًا.
الجذور العرقية والهوية الدينية
داغستان هي واحدة من أهم المناطق التي تتمتع بأكبر قدر من التنوع العرقي واللغوي في القوقاز، ونقطة التقاء الثقافات والتنافسات الجيوسياسية، ولعلّ لقب “جبل الألسن” الذي أطلقه الجغرافي العربي أبو الحسن المسعودي في القرن العاشر على داغستان، ينقل لنا سمة أساسية من سمات هذا البلد منذ العصور القديمة
من حيث المساحة وعدد السكان، تعد داغستان أكبر جمهوريات شمال القوقاز، وفي السنوات الأخيرة نما عدد سكان داغستان بسرعة مهولة، لكن تناقصت نسبة الروس، سواء بسبب انخفاض معدل المواليد أو بسبب الهجرة.
حسب إحصاء عام 2024، فقد بلغ عدد سكان داغستان أكثر من 3.2 ملايين نسمة موزعين على أكثر من 30 مجموعة عرقية، يأتي الآفار في المقدمة بنسبة 30.53%، وهم أكثر سيطرة على الحياة بداغستان لكنهم ليسوا مجموعة عرقية متجانسة، ويتألفون من عدة مجموعات إثنوغرافية ولغوية.
المجموعة العرقية الثانية الأكثر عددًا هم الدارغيون الذين يمثلون 16.63%، يليهم القوموق 15.84% الذين يعيشون في الجزء الأوسط من داغستان، ثم الليزغيون واللاك الذين يعيشون في الأجزاء الجنوبية من داغستان وعلى طول الحدود الأذربيجانية، وأخيرًا التبسارانيون والأذربيجانيون والروس والشيشانيون والنوغاي وآخرون.
لكل من هذه الشعوب أصولها العرقية وعاداتها ولغتها الخاصة وتقسيماتها الإدارية المعقدة وغير المتجانسة، وغالبًا ما تعيش على قدر كبير من العداوات فيما بينها، ولهذا السبب تعدّ داغستان مسرحًا محتملًا للصراع بين الأعراق في أي لحظة. وهناك من يزعمون أن داغستان معرّضة لخطر التفتت، لأن تنوعها العرقي يتعارض مع الشعور الشامل بالهوية الداغستانية.
بجانب أن داغستان تعاني من العديد من النزاعات الإقليمية مع جيرانها، أبرزهم الشيشان وأذربيجان، مع العلم أنه على مدى قرون كانت العداوات بين القوميات في داغستان أو مع جيرانها ضئيلة جدًّا.
واليوم يوجد 12 لغة معترف بها رسميًا في داغستان من ضمن الـ 40 لغة، أهمها اللغة الآفارية التي يتحدث بها ما يقرب من نصف مليون إنسان، وكذلك تعدّ الروسية اللغة الأساسية في داغستان ولغة التعليم أيضًا.
وفقًا لإحصاء الحكومة الروسية لعام 2024، فإن أكثر من 90% من سكان داغستان مسلمون سنّة يتبعون المذهب الشافعي، وينتمي فقط النوغيون الذين يعيشون في الأجزاء الشمالية إلى المذهب الحنفي، وهناك أيضًا أقلية شيعية حوالي 4%، بجانب مجتمعات يهودية قديمة ومسيحية معظمها من الأرثوذكس.
طبيعة البلاد
رغم أن داغستان تمتلك طبيعة رائعة وتبلغ أنهارها الـ 1800 نهر، لكنها ليست غنية بالموارد مثل أغلب المناطق الجبلية، فقد أعاق افتقارها إلى الأراضي الصالحة للزراعة وتضاريسها المعقدة ووعورة أراضيها تطورها الاقتصادي على مرّ التاريخ، لكن هذا لا يعني أن داغستان تفتقر إلى عوامل الجذب والأهمية الاستراتيجية.
تستمد داغستان أهميتها من موقعها الحسّاس، إذ تربط أراضيها أوروبا بآسيا، لذا تتمتع بأهمية كبيرة في مجال النقل والشحن الدولي والعلاقات الاقتصادية بين روسيا والقوقاز وآسيا الوسطى وكازاخستان وتركيا وإيران، ولديها القدرة على أن تكون ممر عبور للطرق الدولية بين الشرق وأوروبا.
لكن تعدّ داغستان اليوم بلدًا فقيرًا ومن أعلى معدلات البطالة في الاتحاد الروسي، كما تعاني من العديد من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية خاصة من نقص الاستثمار، فاقتصادها مشوّه لا يلبي الاحتياجات المحلية، والفساد على كافة المستويات.
لا يوجد في داغستان أنشطة صناعية قوية، حيث عانت من التخلف طيلة عقود من هيمنة الاتحاد السوفيتي، واليوم تبلغ حصة الصناعة في الناتج المحلي الإجمالي حوالي 15%، ويعيش الجزء الأكبر من السكان على القطاع الزراعي وخاصة تربية الماشية التي تمثل أكثر من 20% من الناتج المحلي الإجمالي، كما تعدّ الحرف اليدوية وخاصة صناعة السجاد من أهم المهن التقليدية التي يعمل بها السكان اليوم.
وكما هو الحال مع بقية شعوب شمال القوقاز، فإن الداغستانيين محافظون للغاية، ويتبع أكثر من 60% من السكان الطرق الصوفية الثلاثة، النقشبندية والقادرية والشاذلية، كما توجد أقلية سلفية ازداد نفوذها مؤخرًا، والتي تكون في بعض الأحيان هدفًا للقمع الرسمي، لكن هذه الجماعات الدينية لا تلعب دورًا مهمًّا في السياسة.
بالنسبة إلى الإسلام، فما زال يلعب دورًا مركزيًا في الحياة الاجتماعية بداغستان، في كل قرية تقريبًا يوجد مسجد، وقد تضاعف عدد المساجد في داغستان 60 مرة خلال الـ 20 عامًا الأخيرة، كما يتم تدريس الإسلام في المدارس الحكومية، ومع كل ذلك استجابت دار الإفتاء بداغستان لموسكو وقامت مؤخرًا بحظر ارتداء النساء للنقاب.
🚨 MAN FORCING MUSLIM WOMAN TO REMOVE HER NIQAB
“Why are you wearing this? The Mufti forbade it!”
A man harassing a Muslim woman and trying to force her to remove her #Niqab in Makhachkala, #Dagestan.
This is a direct consequence of the recent fatwa by the so called Muftiate… pic.twitter.com/0ONLJx7vAG
— DOAM (@doamuslims) August 29, 2024
نتيجة للفتوى التي أصدرها مفتي داغستان، رجل يجبر امرأة على خلع نقابها في الشارع
ورغم أن داغستان مجتمع متجانس دينيًا، إلا أن كل مدينة لها تكوين عرقي مختلف، والمجتمع نفسه قائم في المقام الأول على الهياكل العشائرية والقَبَلية، والواقع أن الولاءات العرقية أقوى من فكرتَي الجنسية والوحدة الإسلامية. لكن لا توجد قومية واحدة مسيطرة، واستقرار المجتمع بات يعتمد على توازن قوة النخب العشائرية.
وباستثناء قوميات النوغاي والروس، فإن شعوب داغستان هم من السكان الأصليين الذين سكنوا الجبال، ومرتبطون بشعوب قوقازية أخرى مثل الشيشانيين والشركسيين والقبارديين والأديغ والأبخاز. وتنقسم كل مجموعة عرقية في داغستان إلى قبائل وعشائر فرعية ومجتمعات قروية، الوحدة الأساسية في المناطق الريفية هي مجتمع القرية.
فيما يتعلق بالمناخ السياسي، فإن داغستان لا تزال تعتبر ليبرالية نسبيًا مقارنة بالشيشان، إذ إن المجتمع المدني ممثل بشكل أقوى ممّا هو عليه في دول شمال القوقاز الأخرى، ويبدو أن التنوع العرقي بجانب توزيع السلطة والموارد وفقًا لنظام “الحصص العرقية” قد دعم درجة معينة من التعددية السياسية.
لكن نظام الحصص العرقية بحسب العديد من الباحثين قد ساعد في خلق التوترات، وعزز من تقسيم السلطة والموارد الاقتصادية وغيرها على أساس العرق، وليس على أساس الكفاءة المهنية.
وبشكل عام، المجتمعات الداغستانية اليوم منقسمة إلى 3 مجموعات، الأولى وهي الأكثر عددًا، تتمسك بالإسلام التقليدي وتؤيد السلطات؛ أما الثانية وهي أصغر حجمًا وأكثر نشاطًا، فتؤيد بدرجات متفاوتة الأفكار السلفية وتعارض النظام، وتدعم المجموعتان أسلمة داغستان.
لكن في حين تعتقد المجموعة الأولى أن هذا يمكن أن يتحقق ضمن إطار الاتحاد الروسي من خلال التكيف مع الضغوط أو إيجاد طرق للالتفاف عليها، فإن المجموعة الثانية ترى أن إنشاء دولة إسلامية أمر لا يمكن تحقيقه إلا بالاستقلال عن روسيا.
بعبارة أخرى، تضمر المجموعة الثانية طموحات انفصالية، أما المجموعة الثالثة فلا تزال تدافع عن الدولة العلمانية، معتقدة أن الأسلمة ستبعد داغستان عن روسيا، ويبدو أن أولئك الذين يؤيدون الدولة العلمانية يفقدون نفوذهم تدريجيًا.
الحياة في إحدى قرى داغستان
إن المشكلة الرئيسية اليوم في داغستان ليست التوترات بين العشائر أو المقاتلين الجهاديين، بقدر ما هي مشكلة النظام الروسي الذي رسّخ النزاعات والمشاكل المتعلقة بالأراضي، كما اعتمد على طريقة المسكنات التي تشتري بعض الوقت وتحتوي الأزمة بدلًا من معالجتها، ومؤخرًا تزايد نفوذ موسكو بين العشائر، ما أثار مخاوف البعض من أن يؤدي ذلك إلى تقويض الاستقرار الهشّ.
المجتمع الداغستاني اليوم يعاني من زعزعة الاستقرار والتمزق الداخلي بشكل كبير. ومنذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية في عام 2022، تزايدت الاضطرابات مرة أخرى في داغستان بسبب مشاركة العديد من الداغستانيين في صف موسكو في الحرب بأوكرانيا تحت ضغط الفقر، وانتشرت مقاطع فيديو في أكتوبر/ تشرين الأول 2022 لاحتجاج الآلاف في العديد من البلدات والمدن بسبب تعبئة العديد من الشباب لإرسالهم إلى الحرب في أوكرانيا.
ورغم ادّعاءات بوتين ووزير الدفاع الروسي بأن هذه التعبئة كانت “جزئية”، واقتصرت على أولئك الذين يتمتعون بمهارات متخصصة وخبرة قتالية، فقد وردت تقارير واسعة النطاق عن استدعاء كل من يقدر على حمل السلاح.
أولى صفحات التاريخ
تاريخيًا، كانت داغستان منطقة مأهولة بالسكان لعدة آلاف من السنين، كما كان تاريخها مليئًا بالمنعطفات المضطربة والتغييرات المتكررة. وخلال الألفية الأولى قبل الميلاد، كانت أراضي داغستان الحالية جزءًا ممّا يسمّى بـ“ألبانيا القوقازية”.
ونظرًا إلى موقع داغستان الجغرافي في المنطقة ذات الأهمية الجيوسياسية المتاخمة للقوى والإمبراطوريات، فضلًا عن بنيتها العرقية غير المتجانسة، فقد كانت مسرحًا لصراع العديد من الدول والإمبراطوريات خاصة الروم والفرس.
في القرن السابع الميلادي، لعبت القبائل العربية دورًا رئيسيًا في داغستان من خلال نشر الإسلام في المنطقة، وخضعت داغستان للحكم العربي، ثم خلف العرب السلاجقة الأتراك في القرن العاشر، وتلاهم في القرن الثالث عشر المغول ثم القبيلة الذهبية والتيموريون، إلى أن سيطرت الدولة العثمانية على المنطقة في القرن السادس عشر، والفرس في القرن الثامن عشر.
لقد كانت داغستان في طور الأسلمة منذ السنوات الأولى للفتوحات الإسلامية في القرن السابع، وبحلول نهاية القرن الخامس عشر أصبح جميع شعوب داغستان مسلمين، وبسبب ذلك كانت داغستان تعتبر المركز الإسلامي الفكري في شمال القوقاز، لأن الداغستانيين كانوا على دراية بالإسلام وقاموا ببناء المدارس والمساجد في المنطقة قبل المجموعات الأخرى.
كما كان لعلماء داغستان اتصال بالعالم العربي، واكتسب العديد منهم شهرة في المدن الإسلامية. ومن خلال مراجعة أسماء الشيوخ والعلماء في شمال القوقاز، سنجد أن جُلّهم داغستانيون، والواقع أن العرقيات الأخرى في المنطقة والتي أسلمت بعد الداغستانيين، كانت ترسل أبناءها إلى مدارس داغستان، ولعلّ ذلك هو سبب شعور الداغستانيين اليوم بالتفوق وأحقيتهم بالريادة بحكم أنهم أقدم مرجعية دينية بالمنطقة.
ورغم خضوع الداغستانيين ظاهريًا لحكام أجانب، إلا أنهم احتفظوا دائمًا بقدر كبير من الحكم الذاتي، وكان قادتهم المحليون أقوياء للغاية، فبين أوائل القرن الثالث عشر إلى العام 1864 تأسّست الخانية الأفارية على أراضي داغستان، ثم دخلت أراضيها في حكم إمامة القوقاز فترة 1829-1859. ومع اكتمال احتلال روسيا لداغستان في عام 1868، سقطت الخانية الآفارية.
داغستان تحت الحكم الروسي القيصري
بدأ النفوذ الروسي ينتشر مع توطيد الإمبراطورية الروسية لقوتها وتوسيع نفوذها في القوقاز منذ مطلع القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، لقد حدث تغيير هام في القرن الثامن عشر، عندما بدأ القيصر الروسي بطرس الأكبر في إيلاء اهتمامه لهذه المنطقة ضمن الطموحات الاستعمارية لروسيا.
وخلال الحرب الروسية الفارسية (1722-1723) المعروفة باسم حملة بطرس الفارسية، هزمت الإمبراطورية الروسية القوات الفارسية، وبتوقيع معاهدة سانت بطرسبرغ في عام 1723 ضمّت روسيا رسميًا مناطق كبيرة من القوقاز، بما في ذلك أجزاء من أراضي داغستان الحالية وكذلك أذربيجان.
ثم بعد انتصار روسيا مرة أخرى في الحرب الروسية الفارسية (1804-1813)، تنازل القاجاريون ببلاد فارس رسميًا عن داغستان لروسيا بعد توقيع اتفاقية هولستن عام 1813، ثم معاهدة تركمانشاي في العام 1828، وأصبحت داغستان تحت الهيمنة الروسية بما فيها قسم كبير من أراضي شعب الآفار.
وكجزء من الجهود المبذولة لإخضاع شعوب داغستان، دمّرت القوات الروسية العديد من القرى الزراعية، وأخلت بعض القرى من سكانها وقامت ببناء القلاع والحصون، كما حاولت أيضًا فرض ثقافتها، لكن رغم أن قوات القيصر هزمت القوى التقليدية في المنطقة، العثمانيين والفرس، إلا أنها سرعان ما اكتشفت أن السيطرة الحقيقية كانت في أيدي الشعوب الجبلية.
أثار الاحتلال الروسي وبناء الحصون (بما في ذلك محج قلعة) استياء سكان الجبال، وانتفض الداغستانيون بقيادة غازي محمد وحمزات بك، وقد ساهم الآفاريون بشكل كبير في انتفاضات شعوب القوقاز، وأطلقوا على أنفسهم اسم المريدين، وتحت قيادة سلسلة من القادة، وأشهرهم الإمام شامل، حوّل المريدون داغستان والشيشان إلى مقبرة لعشرات الآلاف من الجنود الروس.
كانت الحرب القوقازية (1816-1864) الأكثر شهرة في تاريخ داغستان، خاصة في تاريخ الآفار تحت قيادة زعيمهم الأسطوري الإمام شامل، الذي قاوم التقدم الروسي في حرب دامية وبطولية لمدة ربع قرن كامل من عام 1834 حتى عام 1859، ويشعر الآفار اليوم بفخر كبير بالدور القيادي الذي لعبه شامل وأسلافهم الآخرون في حرب القوقاز.
لم تصبح داغستان جزءًا من الإمبراطورية الروسية إلا بعد عام 1859 عندما استسلم شامل للقوات الروسية في جونيب، وعلى الفور تلا ذلك تطهير عرقي هائل من قبل الروس، فبحلول نهاية القرن التاسع عشر قتل الآلاف من القوقازيين، وأجبر العديد منهم على الهجرة إلى الدولة العثمانية، كما أدّت الهجرة اللاحقة للروس وغيرهم من الشعوب المسيحية إلى تغيير التوازن الديموغرافي بين الأعراق في معظم المناطق القوقازية.
القمع السوفيتي
انتفضت داغستان مرات أخرى في أوقات مختلفة طوال أواخر القرن التاسع عشر، ثم في 21 ديسمبر/ كانون الأول 1917 أعلنت إنغوشيا والشيشان وداغستان وبقية شعوب شمال القوقاز استقلالها عن روسيا، وشكّلت دولة واحدة أطلقت عليها جمهورية شمال القوقاز الجبلية.
خلال الثورة الروسية، دعمت شعوب داغستان البلاشفة بعد وعود لينين بالحكم الذاتي، لكن لم يصل البلاشفة إلى السلطة في داغستان إلا من خلال معارك دامية وطويلة ضد العديد من المعارضين السياسيين المحليين.
ففي داغستان، بدأ أكبر تمرد ضد السوفيت في صيف عام 1920 على يد عدد من المشايخ، أشهرهم نجم الدين الحزي الأواري (1859- 1925)، ويُعرف في الكتابات الروسية بنجم الدين غوتسينسكي، وقد عارض البيض والبلاشفة الشيوعيين وأولئك الذين تحالفوا مع البلاشفة.
خاض نجم الدين عدة معارك مع الجيش الأحمر في جبال شمال داغستان والشيشان لعدة سنوات، حتى تم القبض عليه وإعدامه من قبل المخابرات السوفيتية في سبتمبر/ أيلول 1925، ونجح الجيش الأحمر في هزيمة فلول هذا التمرد بعد معارك انتصر فيها بشقّ الأنفس.
مع هزيمة البيض على يد الجيش الأحمر، حلَّ السوفيت جمهورية الجبل وأسّس جمهورية داغستان الاشتراكية السوفيتية عام 1921. وقبل عام 1917 كان هناك حوالي 2000 مدرسة دينية تضمّ 40 ألف تلميذ يدرسون اللغة العربية والأدب والشريعة، وشكّل الآلاف من العلماء المسلمين، المعروفين باسم “المستعربين”، طبقة واسعة ومتعلمة جيدًا (5% من السكان في عام 1917).
سعى النظام السوفيتي إلى تدمير هذه النخبة الإسلامية التقليدية، وتدمير الشكل التقليدي للبنية العشائرية، وتقويض الروابط الاجتماعية والاقتصادية بشكل أساسي، ففي 18 أبريل/ نيسان 1927 تمّ إلغاء جميع المحاكم الإسلامية رسميًا، ثم في عام 1928 تمّ إعدام واعتقال أكثر من 800 من شيوخ المدارس والقضاة، وبحلول عام 1936 تمّ إغلاق 915 مسجدًا، ثم في عام 1941 تمّ إغلاق جميع المؤسسات الإسلامية.
بعد أن هزم الروس آخر الانتفاضات المسلحة في شمال داغستان في فترة 1934-1936 وفترة 1941-1942، لم تحدث محاولات أخرى للإطاحة بالسلطة السوفيتية في داغستان. وبسبب الهندسة الاجتماعية والسياسة الاقتصادية السوفيتية، انخفض النمو الاقتصادي في داغستان بشكل كبير، وأصبحت البلاد واحدة من أفقر مناطق الاتحاد السوفيتي خلال القرن العشرين.
ورغم الاضطهاد الشديد لرجال الدين، وخاصة الحركات الصوفية من قبل السلطة السوفيتية، تاريخ داغستان خلال الحقبة السوفيتية يختلف نوعًا ما عن تاريخ الشيشان في عدد من النواحي، فلم يتم تهجير الداغستانيين، وكانت علاقتهم مع السلطة السوفيتية في آخر عهدها أقل تصادمية من علاقة الشيشان.
وبشكل عام، لم ينطفئ الإسلام بأي حال من الأحوال في داغستان خلال الحقبة السوفيتية، فقد تمكّن الصوفيون من تأسيس ما يشبه “المجتمعات الموازية”، وكان الدين والتقاليد يعاشان من خلال الطقوس اليومية والعائلية، وكذلك في شبكة سرّية من أماكن العبادة.
النظام التوافقي: ما بعد العهد السوفيتي
بعد تفكُّك الاتحاد السوفيتي، تزايدت أسلمة الوعي العام وأعداد المساجد والمؤسسات الإسلامية في داغستان بسرعة مهولة، وبحلول منتصف التسعينيات ظهرت عشرات الصحف الإسلامية باللغتين الروسية والآفارية، كما شارك الآلاف من المسلمين الداغستانيين في رحلات الحج إلى مكة بأعداد أكبر من المسلمين بآسيا الوسطى.
لم تشكّل داغستان النوع نفسه من التحدي الاستقلالي الذي شكّلته الشيشان، وبدرجة أقل تتارستان، فحافظت القيادات الداغستانية على علاقات جيدة مع موسكو، ولم تثر موضوع الاستقلال مطلقًا، وعلى هذا وافقت داغستان على التوقيع على معاهدة الاتحاد التي رعاها يلتسين في مارس/ آذار 1991، وهي المعاهدة التي رفضتها كل من تتارستان والشيشان.
ومنذ تسعينيات القرن العشرين، أنشأت داغستان مؤسسات سياسية لتناسب تنوعها العرقي، وكانت تعمل جنبًا إلى جنب مع نفوذ المجتمعات العشائرية، ونجحت بالفعل في عدم جرّ البلد إلى حرب أهلية.
ففي عامي 1992 و1993، رُفض استفتاءان في داغستان بشأن إنشاء منصب رئيس منتخب بشكل مباشر، حيث رأى الداغستانيون أن النظام الانتخابي المباشر سيجعل تقاسم السلطة بين الأعراق مستحيلًا. وفي أعقاب هزائم الاستفتائين، تمّ اعتماد دستور داغستاني جديد في 26 يوليو/ تموز 1994، والذي رسّخ رسميًا التزام الجمهورية بالتعددية القومية والتوازن العرقي.
وانعكس الالتزام بالتعددية على المستوى المؤسساتي في إنشاء هيئة تنفيذية جماعية تسمّى “مجلس الدولة”، والتي تضمّ ممثلين من 14 قومية مختلفة، ويتم انتخاب أعضاء المجلس من قبل جمعية دستورية خاصة.
ومثل المناطق الأخرى في شمال القوقاز، شهدت داغستان الكثير من عدم الاستقرار والقتال بين الحكومة والمتمردين، ورغم أنها تمكنت من البقاء بعيدًا عن الصراع والحرب في الشيشان المجاورة، لكنها تأثرت سلبًا بامتداد القتال إلى أراضيها.
وعلى مدى العقدين الماضيين، كانت قوات الأمن الروسية تقاتل تمردًا مسلحًا شنّته مجموعة من الجماعات الإسلامية المسلحة في داغستان، وفي عام 2015 دخل تنظيم ولاية القوقاز التابع لـ”داعش” على الخط، وأعلن مؤخرًا مسؤوليته عن عدد من الهجمات في داغستان.
واليوم ينجذب الشباب الأصغر سنًّا في داغستان إلى التيار السلفي الجهادي، وتشير التقارير إلى أن ما يصل إلى 5 آلاف داغستاني انضموا إلى صفوف تنظيم الدولة الإسلامية. وإلى اليوم ما زالت موسكو غير قادرة بما فيه الكفاية لضمان الأمن والاستقرار، ويمكن اعتبار الهجمات الأخيرة هذا العام بداغستان مثالًا رئيسيًا على هذا العجز.
ورغم أن داغستان بالنسبة إلى روسيا العمود الفقري للنفوذ في المناطق الاستراتيجية في بحر قزوين والقوقاز والمفتاح إلى العالم الإسلامي، لكن بحسب أستاذ التاريخ وعالم الاجتماع في جامعة كاليفورنيا فرانز شورمان، فإن داغستان قد تكون الهزة التي ستسقط الاتحاد الروسي، كما يمكن أن تنتشر هذه العدوى وتزعزع استقرار منطقة شمال القوقاز بالكامل.