بدأ في سن مبكرة مسيرة البحث عن الذات والهوية في مجال الفن التشكيلي، تنقل بين الانطباعية والتجريدية والخط العربي، معارضه تزيد على الأربعين معرضًا، لوحاته تحكي غنى التنوع وتمزج بين الثقافتين الأمازيغية والعربية، ساهم بخبراته في تنظيم مهرجانات وملتقيات دولية للفن التشكيلي بمدينته إمزورن، إضافة لتأطيره لعشرات الورشات وإنجازه لمئات الجداريات بأكثر من 23 مؤسسة تعليمية رفقة فريق جمعية أونلاين.
في هذا الحوار، يتحدث الفنان الكاليغرافي “عماد أعروص” عن بداياته الأولى ومسار نجاحه في العمل الفني والجمعوي، محاولاً من زاويته تشخيص واقع ومستقبل العمل الجمعوي عامة والفن التشكيلي خاصة بمنطقة الريف.
– كيف نشأت وكيف كانت بداياتك مع هذه الفنون؟
– أعروص: ولدت في 10 من فبراير 1997 بمدينة الحسيمة، التحقت بمدرسة وادي الذهب الابتدائية بأمزورن ثم تابعت دراستي بثانوية القدس الإعدادية، كنت كمثل زملائي تلميذًا نشيطًا مجتهدًا رغم أن مساري الدراسي عرف تعثرات وربما إخفاقات مرحلية.
كنت شغوفا بمادة اللغة العربية حتى إنني كنت أفكر بمسار مستقبلي فيها، مادة التربية التشكيلية لم تكن بداية تعني لي الشيء الكثير، لا أدري لماذا وكيف؟ لكن ما أود الإشارة إليه هنا، أن الأستاذ باعتباره إطارًا موجهًا ومحفزًا وحتى ربما ملهمًا يمكن له أن يلعب دورًا في تحبيب المادة للمتعلمين أو نفورهم منها، معي أنا حصل العكس، درست مادة التربية التشكيلية مع نفس الأستاذ طيلة أربع سنوات، بدأت متحمسًا جدًا لاكتشاف عالم الفن التشكيلي وسبر أغواره إلا أنني لم أجد في طريقي من يعينني، انخرطت في مسار التعلم والاكتساب الذاتي إيمانًا مني بأن العلم لا حدود له وأن التعلم ليس حكرًا على فئة دون أخرى.
– من ساهم في تشجيعك وتوجيه مسارك للفن التشكيلي، وماذا حدث حتى انقطعت عن دراسة شعبة الفنون التطبيقية؟
– أعروص: المصدر الأول لتشجيعي طبعًا هما والداي الحبيبين أطال الله في عمرهما، فمنذ بدايتي في هذا المجال لم أسمع منهما إلا الكلام الطيب والحث الدائم على مواصلة المشوار، فالبيئة الحاضنة للفرد تساهم بدرجة معينة في تكوينه وتوجيهه لأفق معين، هذا ما حصل معي بالضبط، فأنا أنتمي لأسرة علمتها تجارب الحياة الشيء الكثير، لم تعمل أبدًا على تحطيمي بل وقفت جاهدة على تنمية أماني وقدراتي، أسرة اقتنعت بأفكاري وأعجبت من البداية بفني الهادف وساهمت بإبراز إبداعاتي في مجال الفن التشكيلي للوجود.
أعروص: تأثرت بفناني الانطباعية ثم التجريدية، بعدها لفت انتباهي جمال وبهاء الخط العربي الذي أضحى الآن حضوره شبه دائم في لوحاتي
موازاة مع دراستي، كنت أنجز أعمالاً تشكيلية عبارة عن جداريات في بعض المؤسسات التعليمية، صادف مرة أن اطلع حارس عام إعداديتي، الأستاذ حسن، على بعض أعمالي المنجزة، الأمر الذي لقي إعجابًا واستحسانًا وتنويهًا منقطع النظير منه، فثناؤه وتقديره لي واستشرافه لي بمستقبل زاهر وسط الأطر الإدارية وزملائي التلاميذ، شجعني وحفزني على البذل والعطاء في هذا الميدان.
من أعمال الفنان أعروص
إلى جانب الأستاذ حسن هناك الأستاذة غزلان الصغير، لا زلت أتذكر يومًا أنها قالت لي: ”إذا انقطعت عن الدراسة، سيكون الأمر أكبر خطأ وجريمة ستقترفها في حقك وحق المحيطين بك”، أمدتني بالكثير من الأمل والحقيقة والوضوح، ساهمت بمعلوماتها النيرة في نجاحي وتوجهي لشعبة الفنون التطبيقية بثانوية مولاي علي الشريف التأهيلية.
كنت أول المقبولين من أصل دفعة فوجي، درست عامًا واحدًا هناك، حدث أنه بعد اجتيازنا للامتحانات وصلتنا رسالة من الإدارة بقرار إيقافنا بدعوى حدوث حالات غش كنا نحن طرفًا فيها حسب ما جاء في بيان تبريرهم للقرار، بعدها مباشرة تلقينا اتصالات لعدد من أساتذتنا يستنكرون ما حدث في حقنا.
الفن الكاليغرافي، يمزج بين واقع المجتمع والخط العربي ويقرّب قضايا الشعوب
قرار الإيقاف لم يؤثر شبرًا واحدًا في مواصلة طموحنا وآمالنا في مجال الفن التشكيلي، على العكس من ذلك تمامًا، حفزنا وزادنا إيجابًا وإصرارًا على شق طريق النجاح ولو تطلب الأمر ذلك أن نقطع المسار منفردين.
– الكثير من لوحاتك تحكي غنى التنوع والتسامح.. ما النوعية أو الأسلوب الذي تشتغل به في مجال الفن التشكيلي؟
– أعروص: بداية تأثرت بفناني الانطباعية ثم التجريدية، بعدها لفت انتباهي جمال وبهاء الخط العربي الذي أضحى الآن حضوره شبه دائم في لوحاتي.
أشتغل بالضبط على فن الكاليغرافي الذي يمزج بين واقع المجتمع والخط العربي، هذا الأمر اقتنعت به في مسيرة البحث عن الهوية والتوجه في الفن التشكيلي، لوحاتي تمزج بين الثقافة الأمازيغية والثقافة العربية، محاولاً فك تلك الحدود المتشعبة والمتشابكة بين الثقافتين ولو برسالة الفن، لإيصال مبدأ لا محيد عنه، بكوننا شعب واحد، أصيل ومتسامح ومنسجم بأعراقه وأجناسه المختلفة.
– أقمت عشرات المعارض الفنية محليًا وجهويًا ووطنيًا، تحدث لنا عن هذه التجربة وعن لوحة ربما استثنائية، أبدعتها ولقيت تنويهًا من العامة؟
– أعروص: شاركت في إقامة العديد من المعارض الفنية منذ سنة 2013، فيما يزيد على 40 معرضًا، خلال السنتين الأخيرتين نظمت بتنسيق مع عدة فعاليات أكثر من 10 معارض احترافية، أسعدتني كثيرًا وارتحت لها، لأنني بفضلها استطعت أن أتحدث عن واقع منطقتي بلغة الفن التشكيلي، وهذا في حد ذاته شرف عظيم.
عرضت لوحاتي في مدن، الحسيمة وتارجيست وإمزورن وتطوان وبني بوعياش ووجدة والناظور وكاسيطة وطنجة، جميع اللوحات التي أنجزتها تطلبت مني الكثير من الوقت والجهد والتفكير والتأمل، أورد هنا لوحة لسيدة أمازيغية، أنهيت العمل بها خلال العام الماضي من اليوم العالمي للمرأة.
قطاع الفن التشكيلي في المغرب يعيش لحظات عصيبة وظروفًا خانقة ومريرة، والسبب ربما غياب ثقافة الفن والاعتراف بالفنان مؤسساتيًا ومجتمعيًا، في ظل وجود فئات وأطراف تحاول أن تحتكر المجال لنفسها دونًا عن غيرها
اللوحة تجسد تاريخ سيدة متمسكة بثقافتها وهويتها رغم ما عانته وما تعانيه ليومنا هذا من مختلف أشكال الظلم والتهميش، ربما جزء من ثقافة الذاكرة أو مجموع أحاسيس الذات من وجه يداي لتحكم بشكل بارز على ملامح تلك السيدة الأمازيغية.
أستحضر هنا أن مسؤولاً كبيرًا زارنا يومها في المعرض، وقال لي: “أحسنت عماد، لخصت في هذه اللوحة تاريخ مجتمع وأمة”.
– الفنان التشكيلي عماد أعروص أيضًا فاعل بارز في مدينة إمزورن من خلال مبادرات غير مسبوقة مع مجموعة ألوان ثم مجموعة أونلاين، تحدث لنا عن هذه التجربة؟
– أعروص: انطلقت مسيرتي في العمل الجمعوي مع فريق ألوان للثقافة والفنون كمنخرط في بداياتهم الأولى، ساهمت من موقعي إلى جانب الفريق الذي كنت معه في تنظيم مهرجانات وملتقيات دولية للفن التشكيلي في الكثير من النسخ والمحطات.
بدأنا تجربة جديدة مع فريق مجموعة أونلاين منذ ما يزيد على سنتين، بإيمان ومجهود جماعي، لا زلت أتذكر أن أول عمل تطوعي قمنا به جاء صدفة، كان في أول أيام عيد الأضحى قبل سنتين، حين لاحظنا الوضع السيء للكثير من الأحياء، حيث يغيب عمال النظافة في تلك الفترة لقضاء إجازة العيد وتتكدس القمامة والجلود.
الفنان أعروص يرسم رمز الحراك في الريف المغربي ناصر الزفزافي
هذا المجال يمنح للفرد شخصية وتجارب إنسانية لا يمكن أن تنمحي أو تغيب، نضحي بالكثير من وقتنا وجهدنا ومالنا، لكن حين تقدم عملاً أو فكرة أو منتجًا معينًا للعامة وتحس فعلاً بأن الرسالة وصلت وبأن الكثيرين استحسنوا عملك وينظرون إليك بعين الرضا فهذا أمر مشجع ويدفعك لبذل المزيد من الجهد والعطاء رغم كل شيء.
– ماذا عن المشاكل والإكراهات؟ وكيف تشخص لنا وضعية الفن التشكيلي بصفة خاصة في منطقة الريف؟
– أعروص: قطاع الفن التشكيلي بالمنطقة يعيش لحظات عصيبة وظروفًا خانقة ومريرة، والسبب ربما غياب ثقافة الفن والاعتراف بالفنان مؤسساتيًا ومجتمعيًا، في ظل وجود فئات وأطراف تحاول أن تحتكر المجال لنفسها دونًا عن غيرها.
هذا القطاع يعاني من عبثية وغياب رؤية وقرارات أحادية تتسم بعدم الإشراك، إذ إنني في أثناء إقامتي للكثير من المعارض التشكيلية كان العديد من المسؤولين الكبار في الكثير من القطاعات يفدون تباعًا لمشاهدة لوحات المعرض، القاسم المشترك بين غالبيتهم أنهم يتفننون في إبداع الكلام المعسل، الكثير منهم يحسنون بيع الوهم للأسف، والدليل على ذلك أنني حين جهزت لإقامة معرض جديد للوحاتي، بجهدي الفكري والمالي والزمني لم أجد حتى قاعة مناسبة للعرض بمدينة إمزورن ولذلك اتجهت صوب دار الثقافة بالحسيمة ثم إلى مدينة تطوان.
البعض يعدد مصطلحات كثيرة من قبيل أننا نفتقر لرؤية ومرجعية وإستراتيجية وخريطة طريق واضحة المعالم فيما يخص الفن بجميع فروعه وطنيًا
وجب كذلك، إعطاء الفرصة للفنانين التشكيليين ودعمهم لإظهار إبداعاتهم والتعريف بها مع سن قانون واضح لحماية الفنان وضمان شروط أمثل لاستقراره الاجتماعي والنفسي ضمانًا لاستمراريته في ترسيخ قيم الثقافة وتبليغه لهموم ورسائل المجتمع بلغة الريشة، إضافة إلى ضرورة تحييد وتجاوز منطق التمييز واستحضار مبادئ المساواة وتكافؤ الفرص.
لوحة بعنوان: المانوليزا الأمازيغية
رسالتي للشباب هي العمل ثم العمل والعمل، مع الانخراط بشكل جاد ومسؤول في طرح الفكرة وأخذ المبادرة والقيام بالفعل لأنهم جزء محوري ومفصلي في المجتمع، لا يمكن أن ننفي أو نتجاوز وجودهم، أحثهم أيضًا على المساهمة في العمل التطوعي، لما له من دور في بناء شخصية الفرد وإكسابه لقيم الأمانة والعدل والتسامح والتضامن.
في النهاية أقول إن الوصول للنجاح يلزمه المحاولة لمرات ومرات، فشل المحاولة الأولى لا يعني أبدًا وبتاتًا شيئًا اسمه النهاية، النجاح يولد من قلب المعاناة أو كما يقال “من ذاك الألم يولد الأمل”.