خطوة وصفت بالشجاعة وإن كانت محفوفة بالمخاطر، حزمة إجراءات قطرية لدعم تركيا في أزمتها الراهنة إثر الحرب الاقتصادية التي تشنها الولايات المتحدة الأمريكية ضد الأتراك، وذلك خلال زيارة الشيخ تميم بن حمد آل ثان لأنقرة، وهي الزيارة التي تعد الأولى لرئيس دولة منذ اندلاع الأزمة.
أمير قطر عقب لقائه بنظيره التركي في المجمع الرئاسي بأنقرة أمس الأربعاء، أعلن من خلال تغريدة نشرها عبر صفحته الرسمية على موقع “تويتر”: “في إطار المباحثات المهمة التي أجريتها في أنقرة مع فخامة الرئيس رجب طيب أردوغان، أعلنا حزمة ودائع ومشاريع استثمارية بقيمة 15 مليار دولار في هذا البلد الذي يملك اقتصادًا منتجًا قويًا ومتينًا”، مضيفًا أن بلاده تقف إلى جانب الأشقاء في تركيا التي وقفت مع قضايا الأمة ومع قطر.
تحرك وإن كان متوقعًا في إطار العلاقات القوية التي تجمع بين البلدين منذ الحصار المفروض على قطر في يونيو/حزيران2017، غير أنه أثار عددًا من التساؤلات بشأن مستقبل العلاقات القطرية الأمريكية، لا سيما أن خطوة كهذه لا شك أنها ستثير غضب الرئيس دونالد ترامب الذي يمارس ضغوطه على النظام التركي لإطلاق سراح القس أندرو برونسون الذي يحاكم بتهمة دعم بعض المنظمات الإرهابية في تركيا، ما يمهد الطريق أمام دول الحصار لصب الزيت على نار هذا الغضب.
الدوحة ترد الجميل
لم ينس القطريون الموقف التركي الداعم لهم في أزمتهم حين تعرضوا لحملة حصار هي الأسوأ في تاريخهم على أيدي أشقائهم الخليجيين والعرب (السعودية – الإمارات – البحرين – مصر)، وهو التحرك الذي ساهم بشكل كبير في عبور الدوحة لمحنتها وتجاوزها لكل الفخاخ التي زرعها جيرانها للإيقاع بها وإجهاض استقلالية قرارها.
ما فعلته قطر اليوم هو نوع من رد الجميل وعرفان بالدور الذي لعبته تركيا حين أقامت جسرًا جويًا قبل عامين لتزويد الشعب القطري بكل احتياجاته من البضائع والمواد الغذائية، فضلًا عن الدعم العسكري بتدشين قاعدة عسكرية مجهزة بالعتاد البشري والتسليحي دفاعًا عن قطر في مواجهة المؤامرات التي كانت تحاك ضدها من أبو ظبي والرياض.
إعلان ضخ مثل هذه الاستثمارات في السوق التركية كان له أثر إيجابي في دعم الثقة في الاقتصاد ومن ثم سعر صرف الليرة التي ارتفعت اليوم إلى 5.7 مقابل الدولار بعد أن تخطت حاجز الـ7 قبل يومين
السفير القطري لدى أنقرة سالم بن مبارك آل شافي أكد أن بلاده لن تتردد في تقديم الدعم اللازم للجمهورية التركية، لافتًا في تصريحات له إلى أن كثيرًا من المواطنين القطريين توجهوا إلى محال الصرافة لشراء الليرة التركية بعشرات الملايين من الدولارات، بهدف دعم وإنعاش العملة التركية، لكون تركيا حليفًا إستراتيجيًا لبلاده.
رغم أنه لم يرد رسميًا كيفية ضخ الـ15 مليار دولار قيمة الاستثمارات القطرية المعلنة لدعم الاقتصاد التركي، فإن تقديرات الخبراء تشير إلى حزمة من صور وأشكال الدعم منها اتفاقيات وتسهيلات ائتمانية متبادلة، وربما يتم الاتفاق على شراء أوراق خزينة أو غيرها من الأدوات التي تضمن توفير الأموال المطلوبة التي يناقشها وزيرا مالية البلدين.
مجرد إعلان ضخ مثل هذه الاستثمارات في السوق التركية كان له أثر إيجابي في دعم الثقة في الاقتصاد ومن ثم سعر صرف الليرة التي ارتفعت اليوم إلى 5.7 مقابل الدولار بعد أن تخطت حاجز الـ7 قبل يومين، وسط توقعات بمزيد من التحسن خلال الساعات والأيام القادمة بفضل حزمة الإجراءات التي اتخذها البنك المركزي التركي والدعم المقدم، سياسيًا واقتصاديًا، من بعض الدول والحكومات.
وفي المقابل وجه الرئيس التركي الشكر للشعب القطري لوقوفه إلى جانب بلاده، مضيفًا في تغريدة نشرها باللغتين العربية والتركية عبر حسابه في تويتر: “أتقدم باسم الشعب التركي بالشكر الجزيل إلى الشيخ تميم والشعب القطري لوقوفهم إلى جانب تركيا”، وتابع: “لا شك أن علاقاتنا المتينة مع دولة قطر الصديقة والشقيقة ستشهد تطورًا في العديد من المجالات بشكل مستمر”.
جدير بالذكر أنه رغم أن الدوحة واحدة من أهم المستثمرين العرب بالنسبة إلى تركيا، وكثفت من استثماراتها في السنوات القليلة الماضية داخل الاقتصاد التركي في قطاعات مختلفة، مثل المصارف والعقار والسياحة والصناعة إلى حد ما، فإن حجم استثماراتها لا يزال ضئيلًا مقارنة ببعض الدول الخليجية الأخرى.
إعلان استثمارات قطرية في تركيا ساهم في تحسين سعر صرف الليرة
استقلالية القرار القطري
بينما تتابع الدول العربية والإسلامية الأزمة التركية عن كثب دون ردود فعل تعكس المواقف الرسمية لها، خشية إغضاب واشنطن التي تفتح نيران حربها الاقتصادية على عدد من الدول المغردة خارج سربها، في مقابل إدانات إعلامية صدرت عن بعض العواصم الأوروبية، كان القرار القطري الأكثر جرأة وشجاعة.
زيارة الشيخ تميم لأنقرة في هذا الظرف إعلان رسمي لاستقلالية قرار الدوحة التي ارتأت أن تقف بجوار حليفها الخصم العنيد لأكبر دولة في العالم، مهما كانت النتائج المترتبة على هذا الموقف، وهو ما دفع البعض إلى وصف الزيارة بأنها “محفوفة المخاطر” كونها تثير غضب ترامب شخصيًا وتُحبط خططه لتقويض الاقتصاد التركي، لخلق مصاعب للرئيس أردوغان وحكومته وحزبه، وإجباره على تسليم القس الأمريكي المعتقل والمتهم بالإرهاب دون مقابل.
ورغم تأكيد السفير القطري لدى أنقرة دعم بلاده الكامل ووقوفها إلى جوار حليفتها في معركتها الاقتصادية فإن ذلك لا يعني معاداة واشنطن، خاصة أن الأخيرة بمثابة حليف إستراتيجي – كما تركيا – للدوحة التي لا تريد على الإطلاق أن تخسر أي منهما، وليست مستعدة للتضحية بأي طرف على حساب الآخر.
الحفاوة بالموقف القطري أثارت – بلا شك – حفيظة دول الحصار بصورة عكستها وسائل إعلامها الحكومية والخاصة، حتى إن لم يصدر أي موقف رسمي عنها
هل أغضبت واشنطن؟
لم تكن الزيارة استفزازًا للولايات المتحدة كما يحلو للبعض أن يصب الزيت على النار، في إطار حرص الدوحة على عدم خسارة أي من حليفيها كما تم ذكره، إذ يذهب الكثير من المحللين إلى أن الهدف الرئيسي منها بحث ما يمكن تحقيقه لتخفيف حدة توتر الأزمة ومحاولة تقريب وجهات النظر بين أنقرة وواشنطن.
البعض هنا أشار إلى احتمالية أن تكون الزيارة استجابة لرغبة الدوحة في القيام بجهود الوساطة لإعادة الثقة بين الدولتين، عبر عدد من الإجراءات المتفق عليها التي قد يكون من بينها الإفراج عن القس المعتقل بشروط وضوابط تضمن تحقيق العدالة دون أن تنضح في استقلالية وسيادة الدولة التركية.
ولقطر تجارب ناجحة في ملف الوساطة، إذ نجحت خلال العقود الأخيرة الماضية في إنهاء العديد من الأزمات بفضل جهودها الدبلوماسية، منها التوسط بين الأمريكان والأفغان والنجاح في إطلاق سراح مساجين أمريكان في 2010 و2013 و2014، كذلك دورها في دارفور السودان، وفي الإفراج عن راهبات معلولا في سوريا، بخلاف وساطتها بين الرئيس اليمني الراحل علي عبد الله صالح والحوثيين خلال الفترة بين 2004 و2010.
حديث عن تغذية دول الحصار للغضب الأمريكي حيال قطر
ماذا عن دول الحصار؟
من المؤكد أن الخطوة القطرية ستعزز من شعبية الدولة وأميرها سواء داخل تركيا أم في أوساط قطاعات عريضة من الشعوب العربية والإسلامية التي تتعاطف مع أنقرة في حربها ضد الولايات المتحدة، وهو ما يعني المضي قدمًا نحو استعادة الدوحة مكانتها مرة أخرى بين المجتمع الدولي رغم الحصار المفروض عليها منذ 14 شهرًا.
الحفاوة بالموقف القطري أثارت – بلا شك – حفيظة دول الحصار بصورة عكستها وسائل إعلامها الحكومية والخاصة، حتى إن لم يصدر أي موقف رسمي عنها، ومن هنا فإن زيارة أمير قطر ستزيد الملح الملقى على جرح الأزمة الخليجية الملتهب، ما يرفع من منسوب العداء لدى هذه الدول خاصة بعدما أثير بشأن اتهامات “مبطنة” وجهها أردوغان لبعضها بالضلوع خلف الحرب الاقتصادية التي تتعرض لها بلاده.
التقارب التركي القطري في الفترة الأخيرة الذي كان حائط صد أمام مؤامرات أبو ظبي والرياض على وجه التحديد، لا يمكن أن يمر مرور الكرام هكذا على المحمدين (محمد بن سلمان ومحمد بن زايد) الطامعين في توسيع نفوذهما في المنطقة على حساب القوى الأخرى.
وعليه لا يستبعد محللون توظيف كلتا الدولتين لنفوذهما السياسي والإعلامي في أمريكا – استغلالًا لزيارة تميم لأنقرة – لسكب المزيد من الزيت على نار غضب ترامب في محاولة لتأجيج الخلاف الأمريكي القطري الذي يصب في نهاية الأمر في مصلحة أجندتهما الإقليمية، إلا أن هذه الجهود ستكون مرهونة بقدرة دبلوماسية الدوحة على تحقيق التوازن في علاقاتها بين حليفيها، تركيا وأمريكا، وقدرتها على تحقيق الوساطة لتقريب وجهات النظر بينهما لحلحلة الأزمة.