تقع سيبيريا التي تغطي معظم شمال آسيا وأجزاء من أوراسيا، على امتداد المحيط الهادئ في الشرق إلى جبال الأورال في الغرب، ويحدها كازاخستان ومنغوليا والصين من الجنوب، وروسيا من الشمال والجنوب، لكنها لا ترتبط بموسكو إلا ببضع طرق وخط سكك حديد، وهي أقرب كثيرًا إلى الصين وغيرها من بلدان حافة المحيط الهادئ من روسيا.
تحتل سيبيريا مساحة ضخمة من الأراضي تزيد على 13 مليون كيلومتر مربع، وتشكل أكثر من ثلاثة أرباع مساحة روسيا، لكن يعيش في هذه المساحة الشاسعة جزء صغير من البشر وصل تعدادهم عام 2021 إلى ما يزيد على 37 مليونًا، 90% منهم يقطنون في الجنوب، ومعظم من الروس والأوكرانيين والبيلاروسيين.
إن أعظم أصول سيبيريا هي وفرة أراضيها ومواردها الاستراتيجية، وامتلاكها ثروة مذهلة من جميع المعادن القيمة، مثل الكوبالت والزنك والنحاس والرصاص والقصدير والزئبق والنيكل وخام الحديد والفحم والفضة والذهب والماس، فضلًا عن الجبال والغابات الطبيعية والأنهار، وكذلك امتلاك أكبر احتياطيات العالم من النفط والغاز الطبيعي.
ساعدت هذه الموارد روسيا على أن تكون دولة عظمى، إذ تذهب معظم العائدات إلى خزائن موسكو وليس إلى السكان المحليين، ما يجعل 70% من ثروة روسيا تأتي من سيبيريا دون أن يكون لشعبها الحق في استغلال تلك الثروات بشكل مستقل.
نستكشف هذه المنطقة ضمن ملف “ديار الإسلام في روسيا” الذي يسرد تاريخ سيبيريا إلى جانب جمهوريات شمال القوقاز التي تضم الشيشان وإنغوشيا وداغستان وقبردينو بلقاريا وقره شاي شركيسيا، وجمهوريتي تتارستان وبشكيريا، وهي أقاليم روسية تقطنها غالبية مسلمة، يقدر عددها بنحو 25 مليونًا، الأكثرية من سُنّة المذهبين الحنفي والشافعي، أما الشيعة فغالبيتهم في داغستان، وينحدر القسم الأكبر منهم من أصول أذربيجانية وطاجيكية.
نستعرض في كل جمهورية أهم خصائصها الاجتماعية والدينية، ونمر على التحديات والمنعطفات التي شكلت تاريخها وطبيعتها وموقعها في العالم على جميع الأصعدة، ونبين طبيعة العلاقات بينهم وبين أنظمتهم الحاكمة، وكل ذلك داخل إطار النفوذ الروسي.
المجتمع السيبيري: التكوين العرقي والديني
سيبيريا متعددة الأعراق والثقافات للغاية، لكن يشكل الروس الجزء الأكبر من السكان، ويعيشون في الغالب في المدن الكبرى القريبة من الحدود مع كازاخستان ومنغوليا والصين. كما يوجد بالمنطقة سكان أصليون، أهمهم تتار سيبيريا والمجموعات العرقية التركية في ياقوتيا، وتوفا، وألتاي، وخقاسيا، إضافة إلى مجموعات أخرى أصغر.
توجد مجموعة متنوعة من المعتقدات في جميع أنحاء سيبيريا، بما فيها البوذية واليهودية، ويعد الإسلام ثاني أكبر ديانة في سيبيريا بعد المسيحية. وتهيمن ثلاث مجموعات عرقية على المشهد الديموغرافي الإسلامي في سيبيريا، التتار السيبيريون (أكثر من 180 ألف شخص) والكازاخستانيون السيبيريون (أكثر من 160 ألف شخص) وتتار الفولجا والأوراليون (60 ألف شخص).
غالبية مسلمي سيبيريا سنّة على المذهب الحنفي ويتحدثون اللغة التترية السيبيرية، وهي مختلفة عن لغة تتار الفولغا وتتار القرم رغم تشابهها معهما، وكانت تكتب بالأبجدية العربية منذ أن اعتنق التتار السيبيريون الإسلام، وهناك أيضًا العديد من اللغات الأصلية التي يتحدث بها المجموعات العرقية الأخرى، وخاصة في المناطق الريفية.
ينقسم المسلمون الذين يعيشون في سيبيريا إلى مجموعتين كبيرتين، الأولى تضم السكان الأصليون الذين عاشوا في سيبيريا منذ القرنين السادس والتاسع، أما المجموعة الثانية فتضم المسلمين الذين هاجروا من آسيا الوسطى والقوقاز إلى سيبيريا منذ تسعينيات القرن العشرين وحتى يومنا هذا للعمل في حقول النفط والغاز.
خلال آلاف السنين الماضية، سكنت مجموعات مختلفة من البدو الرحل أجزاء من سيبيريا، ثم في أعقاب حقبة استمرت قرونًا من الهجرات الجماعية منذ القرن السابع، استوطنت مجموعات متنوعة من القبائل التركية الأراضي السيبيرية الشاسعة، وجميع شعوب سيبيريا آنذاك كانوا يدينون بالوثنية.
بحلول عام 1206، احتل جنكيز خان معظم أراضي الشعوب والقبائل التركية في جنوبي سيبيريا، ثم في عام 1207، أخضع جوجي خان الابن الأكبر لجنكيز غالبية شعوب سيبيريا، وقسم الأخيرة إلى 3 وحدات، وعندما مات جنكيز عام 1227، قسمت أراضي الإمبراطورية المغولية بين أبنائه، وكانت الأراضي الواقعة في الشمال الغربي تسمى القبيلة الذهبية، والتي أصبحت إمبراطورية شاسعة بعد أن هزمت دولة البلغار عام 1236.
خضع كل من شعوب البلغار وسيبيريا والفولغا والروس والأتراك وغيرهم لحكم القبيلة الذهبية من القرن الثالث عشر إلى القرن الخامس عشر، وخلال الربع الأول من القرن الرابع عشر تحديدًا، لم يعتنق أوزبك خان الحاكم القوي للقبيلة الذهبية الإسلام فحسب، بل رفعه أيضًا إلى مرتبة دين الدولة.
مع صعود الإسلام إلى المرتبة الرسمية، ازدهرت هذه الدولة القوية والواسعة، وانتشر الإسلام بصورة أوسع، كما تميزت فترة أوزبك الطويلة (1282-1341) بكثرة بناء مدن جديدة، وإنشاء المساجد والمدارس التعليمية والمكتبات في أنحاء مناطق القبيلة الذهبية.
مع ذلك، يختلف الباحثون في تحديد التاريخ الذي وصل فيه الإسلام إلى سيبيريا، لكن حسب دراسات علماء الآثار، فإن الإسلام تغلغل في سيبيريا في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، وبالفعل توجد مدافن إسلامية تعود إلى هذه الفترة. فيما يذهب بعض المؤرخين إلى أن الشعوب السيبيرية عرفت الإسلام في القرن العاشر بسبب إعلان حاكم مملكة البلغار في منطقة الفولجا الوسطى الإسلام دينًا رسميًا لهذه الدولة.
كما يعتقد أن شعوب سيبيريا اعتنقت الإسلام بعد أن نشأت طرق تجارية جديدة في سيبيريا، والتي عبرها التجار المسلمون من الأوزبك والطاجيك والكازاخ والأويغور، ووفقًا لرواية مسلمي سيبيريا التي لا تزال حية حتى اليوم في ذاكرتهم الجماعية، فقد قدم 366 شيخًا نقشبنديًا من آسيا الوسطى إلى أراضي سيبيريا في عامي 1394 و1395 من أجل الدعوة للإسلام بين القبائل التي كانت تعيش هناك، وكان هؤلاء الدعاة من تلاميذ الشيخ بهاء الدين نقشبند (1318-1389).
خاض هؤلاء الـ366 شيخًا معركة مع الوثنيين والتتار في سيبيريا، ولقي 300 منهم حتفهم، مع ذلك استقر 3 منهم في سيبيريا لتعليم السكان المحليين مبادئ الإسلام، وعاد الـ63 إلى بخارى. جدير بالذكر أن هناك مخطوطات قديمة محفوظة في متحف مدينة توبولسك تدعم هذه الرواية، واليوم يحتفل مسلمو سيبيريا بالذكرى السنوية لهذا الحدث الذي صار عيدًا وطنيًا.
من الممكن القول إن الإسلام وصل إلى سيبيريا في عدة فترات، في البداية كان مرتبطًا بتأثير دولة البلغار والدعاة والتجار المسلمين، وكان الإسلام في تلك الفترة هو دين النخبة، ثم مع قدوم القبيلة الذهبية، انتقل الإسلام تدريجيًا إلى تشكيل المجتمعات الإسلامية الأولى، مرورًا بخانات التتار السيبيريين الذين تبنوا الإسلام في فترات زمنية مختلفة إلى أن أصبح الإسلام راسخًا منذ القرن السادس عشر.
خانية سيبير: كيف نشأت ولماذا اختفت؟
في أوائل القرن الخامس عشر ونتيجة لأزمة سياسية عصفت بالقبيلة الذهبية، تفككت الأخيرة إلى عدة خانات مستقلة (خانية القرم، وخانية قازان، وخانية أستراخان، وقبيلة نوجاي، وخانية سيبير). غطت هذه الخانات كل الأجزاء المركزية من الأراضي الروسية الحديثة، باستثناء مدينتي موسكو وكييف، حيث اعتاد الروس العيش فيهما.
عقب تفكك القبيلة الذهبية، نشأ صراع كبير في سيبيريا بين سلالتي التيبوغيد والشيبانيين، انتصر فيه الشيبانيون وأنشأوا في عام 1420 خانية تيومين، ثم في عام 1495 أسقط تايبوغا خان حكم الشيبانيين ونقل عاصمة حكمه إلى مدينة سيبير الواقعة على نهر إرتيش، ومنذ ذلك الحين أصبح التايبوغيون حكام الخانية الجديدة التي عُرفت آنذاك بخانية سيبير، وسميت المنطقة بأكملها باسمها بعد ذلك.
ضمت خانية سيبير معظم أراضي سيبيريا الحالية، ولم يطلق سكان خانية سيبير على أنفسهم اسم التتار، بل “النوغاي” و”الألتاييين”. وكما هو الحال بالنسبة لغالبية خانات التتار، كان الإسلام هو الدين الرسمي لخانية سيبير، وعمل سكان هذه الخانية في رعي الماشية وصيد الأسماك بجانب صناعة الفخار والنسيج، كما لعب المسلمون السيبيريون دورًا فعالًا في دعم طرق التجارة بين سيبيريا وآسيا الوسطى والصين.
وكذلك كان لتتار الفولجا دورًا رئيسيًا في انتشار الإسلام بين شعوب سيبيريا، وعقدت خانيتا قازان وسيبير تحالفات سياسية، وحافظوا على علاقاتهم الاقتصادية مع بعضهم البعض، كما كان العديد من الشيوخ والمعلمين في المدارس الإسلامية في قرى سيبيريا من خريجي المؤسسات التعليمية في قازان وأوفا وأورينبورغ.
أصبحت منطقة غرب سيبيريا، التي بلغ عدد سكانها منذ القرن الرابع عشر نحو 300 ألفًا من الأتراك والتتار وعددًا كبيرًا من المجموعات العرقية الصغيرة، واحدة من أهم الأماكن الإسلامية الرائدة، وكانت المدرسة الفقهية الحنفية منتشرة على نطاق واسع في سيبيريا.
لكن تغير الوضع السياسي للإسلام بشكل كبير في المنطقة بعد زوال القبيلة الذهبية في أواخر القرن الخامس عشر، وخضوع هذه الخانات المجزأة للقيصر إيفان الرهيب، وقد مهد غزو الروس لخانيتي قازان (1552) ثم أستراخان (1556) الطريق للتوسع الاستعماري الروسي شرقًا إلى سيبيريا وآسيا الوسطى في وقت لاحق.
ورغم أن خانية سيبير كانت منفصلة عن موسكو بجبال الأورال التي يصعب عبورها، فإنها كانت ممزقة داخليًا، وعلى مدار تاريخها، شهدت نزاعًا بين أفراد سلالتي الشيبانيين والتايبوغيين، وكانت كلتا القبيلتين المتنافستين من نسل جنكيز خان.
وحين سقطت خانية قازان في يد إيفان الرهيب، وافق خان سيبير “ياديغار” على دفع جزية سنوية لإيفان في هيئة فراء، لكن انتفض الشيباني “كوشوم خان” على خان سيبير، وبعد عدة سنوات من القتال أصبح هو الخان، ورفض دفع الجزية إلى الروس، كما حاول مواجهة التحدي الروسي من خلال دفع مسيرة المد الإسلامي في كل أنحاء سيبيريا، واستقدم علماء من بخارى وخوارزم.
لكن حكمه لم يدم طويلًا، ففي عام 1582، قاد أمير الحرب القوزاقي يرماك، الحملة الأولى للغزو الروسي لسيبيريا في عهد إيفان الرهيب، وعبر الجبال مع عدة مئات من المقاتلين، واستولى على العاصمة القديمة لخانية سيبير.
وبعد عدة معارك طاحنة استمرت لمدة 14 عامًا بين جيشي كوشوم زعيم المسلمين السيبيريين وجيش القوزاق، انهارت خانية سيبير واستطاع الروس احتلال أجزاء من أراضي سيبيريا في عام 1598، وقد رفض كوشوم الاستسلام وقال مقولته الشهيرة: “لا أقبل عيش الأسير ولا موت الذليل، ولستُ أحزن لفقد أملاكي، وإنما حزني من أجل أولئك التعساء الذين وقعوا تحت الاستعباد الروسي”.
واجهت القوات الروسية مقاومة شرسة من القبائل التركية والتترية، ولم تستطع التوسع في احتلال كامل سيبيريا لمدة قاربت قرنين من الزمن، إذ قام مسلمون سيبيريا بعدة ثورات ضد الحكم الروسي في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وفي منتصف القرن التاسع عشر انتهت روسيا من احتلال كامل سيبيريا، وأنشأت عام 1860 قلعة عسكرية على ساحل بحر اليابان عرفت باسم فلاديفوستوك.
التنصير في الحكم القيصري
كان للنصر الروسي على خانية سيبير تأثير مدمر على سكانها المسلمين، فعلى مدى القرون الثلاث التي أعقبت احتلال سيبيريا، واصلت روسيا توسعها في الأراضي التي يسكنها المسلمون في سيبيريا وآسيا الوسطى، وانتهجت سياسة متعمدة لتدمير العلاقات والروابط التقليدية وتقليص حقوق المسلمين.
ومباشرة بعد أن أكمل الروس غزوهم لأجزاء من سيبيريا، صدر أول مرسوم عام 1590 بشأن إعادة توطين السكان الروس في سيبيريا، وأصبحت أراضي سيبيريا مركزًا لإعادة توطين الفلاحين الروس، وبفضل ذلك أصبح أغلب سكان سيبيريا اليوم من أصل روسي.
كذلك عمل القياصرة على إبادة التراث الإسلامي الوفير بعد احتلالهم سيبيريا، وأمر فيودور الأول ابن إيفان الرهيب، بتدمير جميع المساجد والمدارس الإسلامية، وهي سياسة استمرت لقرون. على سبيل المثال، في عام 1742 أصدرت الإمبراطورة إليزابيث مرسومًا آخر بتدمير جميع المساجد، وفي غضون 7 سنوات فقط (1738 إلى 1745) تم هدم 98 مسجدًا من أصل 133 مسجدًا في سيبيريا، كما صودرت ممتلكات الأوقاف.
الأسوأ من ذلك، تبني الكنيسة الأرثوذكسية سياسة تنصير مسلمي سيبيريا قسرًا، فقد اشتدت الحملة التبشيرية في الفترة من 1718-1758 إلى أن وضعت يكاترينا الثانية حدًا لهذا القمع الأرثوذكسي للمسلمين، مع ذلك ظلت فكرة تحويل مسلمي سيبيريا إلى الأرثوذكسية حية في القرن التالي.
تأسست الجمعية التبشيرية الأرثوذكسية التي افتتحت فروعًا لها في جميع أنحاء سيبيريا في عام 1870، وبحلول بداية القرن العشرين، كانت هناك ثماني بعثات أرثوذكسية تعمل على تنصير مسلمي سيبيريا، ثم في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فشلت سياسات الكنيسة في تغيير دين المسلمين، وهنا فرض الروس سياسة التعليم وتعزيز اللغة الروسية من أجل القضاء على أولئك الذين أصروا على وفائهم لإسلامهم.
الحريات الدينية: ما الحدود المسموح بها؟
بسبب وصف لينين للإمبراطورية الروسية بأنها “سجن الأمم”، ثم وعود البلاشفة المبكرة بالحرية، توقع مسلمو سيبيريا من البلاشفة إلغاء القيود التي فرضها القياصرة عليهم، لكن مصيرهم في ظل السوفييت كان أقسى من السابق.
خلال عشرينيات القرن العشرين، استبعد السوفيت الدين من الحياة المجتمعية وحظروا أي شكل من أشكال النشاط الإسلامي، وهدمت المساجد وأحرقت الكتب بلا رحمة، وتعرض رجال الدين للإرهاب. ورغم أن مسلمي سيبيريا كانوا دائمًا أمة متعلمة نسبيًا، إلا أن السوفيت نجح في تفكيك نظامهم التعليمي، وتراجعت اللغات الأم بسبب تصفية المدارس وفرض التدريس باللغة الروسية.
وحسب العديد من الباحثين، فقد أدي تغيير الروس الأبجدية العربية في اللغتين التترية والبشكيرية السائدتين بين مسلمي سيبيريا إلى الأبجدية السيريلية في عام 1936، إلى خسارة شبه كاملة للتعليم الإسلامي.
ورغم أن الاتحاد السوفييتي نجح في القضاء على الدور المهم الذي لعبه الإسلام في المجتمعات الإسلامية بسيبيريا، فإن تسعينيات القرن العشرين غيرت كل شيء ولا تزال تبعاتها مستمرة إلى اليوم، فإلى اليوم لا توجد إحصائيات دقيقة لعدد المسلمين في سيبيريا، لكن تشير بعض التقديرات إلى أن عددهم بلغ أكثر من مليونين و700 ألف نسمة، بينما ترفع التقديرات الإسلامية السيبيرية العدد إلى أكثر من 4 ملايين.
بالنسبة لحياة مسلمي سيبيريا اليوم، فهي عادة حياة حديثة، وتتشابه ظروف معيشتهم مع ظروف القوميات الأخرى، لكنهم ما زالوا يحتفظون بخصوصية حياتهم الاجتماعية والثقافية، وعادة ما يعمل مسلمو سيبيريا في تربية الماشية وصيد الأسماك وصناعة الجلود والأعمال الخشبية والحرف اليدوية، بجانب مجالات النفط والغاز والتجارة.
إن العدد الدقيق للمهاجرين من آسيا الوسطى غير معروف لأن معظمهم يدخلون البلاد بطريقة غير شرعية، وبعض التقارير تقدر عدد الداغستانيين والشيشان والإنغوشيين بنحو مائتي ألف شخص، كما توجد أعداد أكبر من الأوزبك والطاجيك والقرغيز.
ساعد هؤلاء المهاجرون في خلق مساحات جديدة من التفاعل الإسلامي، وأثروا على أوضاع المجتمع المسلم المحلي، خاصة في تشكيل الحياة اليومية للمسلمين في سيبيريا، وما زالوا يلعبون دورًا نشطًا وبطرق مختلفة في الفضاء الإسلامي والاقتصادي والثقافي بسيبيريا، حيث قاموا بإنشاء متاجر البقالة الحلال والمقاهي، ومنافذ بيع الملابس الدينية، إلى جانب تقديم تبرعات لبناء المساجد، وفتح مدارس لتدريس اللغة والتاريخ التركيين، ونشر وتوزيع الصحف والمجلات والكتب.
ورغم أن الإسلام السيبيري يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالطرق الصوفية المتشابكة بعمق مع التقاليد العرقية، فإن اليوم النفوذ الديني يذهب في كثير من الأحيان إلى شخصيات شبابية وزعماء غير رسميين، ومؤخرًا انتشرت الحركة السلفية وجماعة التبليغ في العديد من مجالات الحياة في سيبيريا.
لكن هذا لا يعني أن مسلمي سيبيريا لا يواجهون قمعًا من السلطات فيما يتعلق بأنشطتهم الدينية، فسيبيريا منطقة مثالية للنشاط التنصيري، إذ تضلع الهيئات التنصيرية فيها بأنشطة عدة في القرى والمدن التي ينتشر فيها المسلمون، وتستغل صعوبة الظروف الاقتصادية التي يعيشها المسلمون هناك، لذلك، يكافح مسلمو سيبيريا في بيئة علمانية أرثوذوكسية، على سبيل المثال كانت هناك معارضة قوية من غير المسلمين لبناء مساجد جديدة في سيبيريا، مع العلم أن أول مدرسة إسلامية بدأ بناؤها في سيبيريا في عام 2013.
وفي مدينة تشيتا السيبيرية، عززت السلطات إجراءاتها الأمنية التي تستهدف المجتمع المسلم، كما تتم مداهمة بعض المساجد واستجواب المسلمين باستمرار، بجانب هدم بعض المساجد بذريعة محاربة الإرهاب، مما أثار استياء مسلمي سيبيريا، وطرح الكثير من التساؤلات عن حقيقة حرية العبادة.
خاصة أن العديد من المناطق الإسلامية بسيبيريا تفتقر إلى المساجد، ومن المتوقع أن تتفاقم هذه المشكلة مع زيادة أعداد المهاجرين، لكن لا يتعرض جميع مسلمي سيبيريا للقمع فيما يتعلق بأداء الشعائر الدينية، ففي مقاطعة تيومين غرب سيبيريا تتوافر ظروف أفضل لممارسة الشعائر.
كذلك شرعت موسكو مؤخرًا في الانخراط في تكتيكات فرق تسد ضد سكان سيبيريا الأصليين، من خلال إعادة تقسيم مناطقهم إلى وحدات أصغر لمنع ظهور هوية موحدة، وقد كتبت رادغانا دوغاروفا، وهي ناشطة من مقاطعة بورياتيا في جنوب سيبيريا، أن روسيا تحولت إلى “سجن استعماري للأقليات القومية”.
أما بالنسبة للتعليم، فقد أدت هيمنة الروس على المجالات الصناعية والاجتماعية إلى ارتفاع مكانة اللغة الروسية، التي تستخدم اليوم بين مسلمي سيبيريا في شتى مناحي حياتهم الاجتماعية، وخاصة التعليم.
واليوم لم يتبق سوى 57 مدرسة فقط من أصل 119 مدرسة تتيح للأطفال إمكانية تعلم لغتهم الأم، ويُحرم 70% من صغار التتار المسلمين من دراسة لغتهم الأم، واعتبارًا من عام 2018 تم اعتماد التدريس بمدارس المسلمين المحلية باللغة الروسية.
وعقب حربها بأوكرانيا، حثت موسكو مسلمي سيبيريا على التطوع بجيشها، فأصبحت مناطق المسلمين بسيبيريا من ضمن أعلى معدلات التعبئة والتجنيد التي تقوم بها موسكو، ما أدى إلى اندلاع احتجاجات في سيبيريا تنديدًا بهذه السياسة، وهو ما فتح المزيد من الشقوق الملموسة للأقلية المسلمة بسيبيريا حين انضم العديد من المسلمين السيبيريين إلى صف أوكرانيا في مواجهة الأطماع الروسية.