“لا حقوق في هذه المنطقة”، ربما لم تصادفك تلك اللافتة في أي منطقة ببلدك أو حتى في البلاد الأخرى، حتى لو كانت تلك المناطق تعيش أسوأ أيامها في حرب دموية أو صراع سياسي مستمر، إلا أن هناك منطقة تعاني أسوأ أيامها بسبب هويتها الدينية التي تعتبر جزءًا مهمًا جدًا من منظومة حياتهم، ولأنهم لا ينتمون ثقافيًا أو عرقيًا للدولة الموجودين فيها، وصاروا جزءًا تحت الحكم السيادي لها في القرن الثامن عشر بعد تمتعهم لفترة ليست بالهينة بالحكم الذاتي من آن للآخر، لا يوجد هناك على أرض الواقع لافتة مكتوب عليها “لا حقوق في هذه المنطقة”، إلا أن الأمم المتحدة صنفتها كذلك بخصوص الوضع الحقوقي فيها.
اتهمت لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة الصين بتحويل منطقة “شينجيانغ” في شمال غرب الصين، على حدود منغوليا وكازخستان، إلى منطقة احتجاز كاملة لسكانها من أقلية الإيغور المسلمة في الصين، حيث انتهى اجتماع الأمم المتحدة باتهام واضح للحكومة الصينية باحتجازها نحو مليون شخص ينتمي عرقيًا إلى الإيغور المسلمين في معتقلات “إعادة التأهيل” أو إعادة التعليم لأهداف خفية من بينها أهداف ثقافية والأهم أهداف اقتصادية.
قبل بضع سنوات بدأت الحكومة الصينية إجراءات غير إنسانية في إقليم الإيغور، حيث فرضت قوانين جديدة فريدة من نوعها مثل المنع التام لاستخدام الأسماء العربية والإسلامية لكل المواليد الجدد واستخدام الأسماء الصينية بدلًا منها، بالإضافة إلى منعهم من استخدام حروف لغتهم التي تستخدم الحروف العربية وعدم الكتابة بها على واجهات الأماكن العامة والمحلات، واستخدام اللغة الصينية وحروفها فقط، بالإضافة إلى عدم التعبير عن معتقداتهم الدينية في الأماكن العامة، بما فيه الالتزام بالزي الديني أيضًا، كان آخرها فرض الحكومة الصينية عليهم في شهر رمضان الماضي بيع الكحوليات ولحم الخنزير في كل مكان وعرض الخمور في واجهة المحلات وعدم إخفائها في الداخل.
لم يكن هذا آخر ما وصلت إليه الحكومة الصينية مع الأقلية المسلمة، بل كان المشروع مستمرًا بشكل ممنهج للتأثير على الهوية الإسلامية لدى الإيغور بأي وسيلة ممكنة، فاتبعت الحكومة حملات زواج قسري لفتيات من أصل إيغوري من شباب شعب “الهان”، من يشكلون أغلبية الشعب الصيني، من خلال عرض مكافآت مالية على الأهل لتحفيزهم على تزويج ابنتهم قسريًا من رجل صيني من شعب الهان.
تعتقل الحكومة الصينية أغلب رجال الأيغور المسلمين في معسكرات “إعادة التهذيب” وتجبر فتيات الأيغور على الزواج قسرًا من رجل من شعب الهان
الأغراض الخفية هي اقتصادية في الأساس
يُلقن الأيغور في الصين المبادئ الشيوعية داخل معسكرات إعادة التأهيل ويُطلب منهم تسليم أي ممتلكات دينية في حوذتهم حتى لو كانت زيًا إسلاميًا أو كتبًا دينية واستبدالها بكتب خاصة بالمبادئ الشيوعية
أعضاء من منظمة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة أفادوا بأن لديهم مصادر موثوقة تؤكد احتجاز الصين لمليون مسلم من الأيغور في معسكرات تصفها الصين بمعسكرات إعادة التعليم، وتصفها الأمم المتحدة بأنها معسكرات إعادة تهذيب تحتجز المسلمين دونًا عن رغبتهم وتمنعهم من الخروج حتى يتم غسيل أدمغتهم كليًا من أجل التأثير على هويتهم الإسلامية وتحويلهم للاندماج في المجتمع الصيني بهوية شيوعية تؤمن بنموذج الدولة الملحدة التي يكون الإله فيها هو النظام الحاكم.
خرج المتحدث الرسمي لوزارة الخارجية برد على اتهامات الأمم المتحدة باحتجاز الصين لمليون مسلم داخل معسكرات إعادة التعليم وأنكر الرقم الذي أشارت إليه الأمم المتحدة، كما أشار أنه لا يوجد للصين أهداف خفية من شأنها أن تتخذ إجراءات غير إنسانية ضد مسلمي الأيغور، إلا أنهم في الوقت نفسه عليهم أن يحذروا من الخطر الإرهابي المتمركز من “المتطرفين” من المسلمين، وبالتالي عليهم أخذ الإجراءات الواجبة ضده للحد من احتمالية ظهور حركات متطرفة في المنطقة.
في الواقع لم يكن المتحدث الرسمي لوزارة الخارجية الصيني على صواب بشكل كامل، فقد صدق في حديثه عن التدخلات التي تقوم بها حكومته ضد أقلية الإيغور المسلمة، إلا أنها ليست بالضرورة لتساعد الحكومة على قمع أي “حركات متطرفة” تخرج من الإقليم، وإنما تكون لأغراض مستقبلية تبدأ من إقليم الأيغور نفسه، وهو ما قد أعلنها الرئيس الصيني “شي جين بينغ” عام 2013، ليعيد إحياء تاريخ قديم جدًا من طريق تجاري جديد لم يساعد على وجود تجارة بين القبائل والأمم فحسب بل ساعد على توسيعها وانتشارها وسرعتها بشكل خيالي.
“طريق الحرير“، طريق تجاري قديم غيّر من شكل التجارة بين إفريقيا وآسيا وأوروبا، جمع بين الشرق الأوسط ووسط آسيا، وما بين وسط آسيا وحتى الصين، بالإضافة إلى وجود طريق تجاري عبر البحار والمحيطات جمع بين موانئ الرمان وموانئ البحر المتوسط كلها وبين الأخيرة وصولًا إلى موانئ اليابان، ولهذا لا يجب علينا اعتبار طريق الحرير بمثابة طريق فحسب بل شبكة كاملة من السكك الحديد والموانئ والطرقات تجمع شبكة تجارية ضخمة.
سُمي طريق الحرير بهذا الاسم لأن أول ما تاجر فيه الناس من خلال ذلك الطريق هو الحرير الذي كان يخرج من الصين فقط في ذلك الوقت
عام 2013 قرر الرئيس الصيني إعادة طريق الحرير إلى الحياة مجددًا بعد أن استمر منذ عام 114 قبل الميلاد وحتى عام 1450 ميلاديًا، لتعود الصين إلى واجهة الهيمنة على الاقتصاد الدولي من جديد، وهذه المرة تبدأ من إقليم “شينجيانغ” لتحقيق أكبر مشروع جيوسياسي في التاريخ، عُرف باسم مشروع طريق الحرير أو مشروع “Belt and Road Initiative” المتوقع أن يشمل 68 دولة حول العالم، وأن يضم 65% من الكثافة السكانية حول العالم و50% من الناتج المحلي الدولي.
الخطوط الحمراء والصفراء تشير إلى طريق الحرير ضمن مشروع الصين الاقتصادي
يبدأ حلم الصين في السيطرة على العالم من إقليم الأيغور المسلمين، ويمتد طريق الحرير من جديد من ذلك الإقليم مارًا بكازخستان ووسط آسيا وجنوبها مرورًا بباكستان وإندونيسيا ووصولًا إلى إفريقيا من شرقها وحتى شمالها ومن ثم إلى دول البحر المتوسط وأوروبا وصولًا إلى لندن بعد موافقة كثير من الدول الأوروبية عليه.
ظهر الرئيس الصيني عام 2013 في باكستان ملقيًا خطابًا يتحدث فيه عن قوة اقتصادية في شكل “حزام اقتصادي” يضم البلدين من أجل أهداف مستقبلية لإعادة طريق الحرير للعمل من جديد، ليظهر مرة أخرى بعدها بشهر في إندونيسيا متحدثًا عن عودة طريق الحرير من خلال الموانئ البحرية مع الصين وإندونيسيا في خطة اقتصادية ذكر فيها الأخير نيته العمل على طرق رئيسية تربط الصين بالعالم من وإلى الصين، مثل السكة الحديد التي تربط الصين بلندن، أو أنابيب الغاز التي تربط الصين ببحر قزوين، وخط السكك الحديد للقطارات السريعة في جنوب شرق آسيا لتصل إلى الصين، وهذا كله سينطلق من حدود الصين الغربية الشمالية وتحديدًا من إقليم الأيغور.
خصصت الصين مؤسستين ماليتين لدعم مشروع طريق الحرير من جديد وهما بنك الاستثمار الآسيوي للبنية التحتية وصندوق دعم طريق الحرير
كما أعلن الرئيس الصيني في خطته إعادة طريق الحرير من جديد عبر البحار والمحيطات من خلال موانئ بحرية تمتد من جنوب شرق الصين إلى الجزر الآسيوية الجنوبية ومنها إلى سواحل إفريقيا الغربية والبحر الأحمر في مصر وصولًا إلى البحر المتوسط، كما يتضمن المشروع حقول البترول ومحطات الطاقة والمناجم، كل هذا من أجل تسهيل تجارة العالم مع الصين تحديدًا.
طريق الحرير لا ينقل المنتجات فحسب بل ينقل الأفكار أيضًا
فيديو يشرح مخطط الصين الاقتصادي “طريق الحرير”
وقّعت أكثر من 60 دولة على المشروع الصيني بعد تسويق الصينيين له على أنه مشروع مربح للجميع وليس فقط الصين، خصوصًا بعد صعود شركات الإنشاء الصينية على قمة أفضل شركات الإنشاء في العالم متقدمة بمراحل على الشركات الأمريكية، ولكن لماذا لا تستطيع الصين تحقيق حلمها الاقتصادي وإعادة طريق الحرير للعمل من الجديد دون المس بحقوق الأيغور الإنسانية ودون وضعهم في معسكرات تحاول غسل أدمغتهم وتحويلهم عن الديانة الإسلامية؟
يستطيع طريق الحرير نقل المنتجات في رحلة تستغرق 17 يومًا، بدلًا من 6 أسابيع بالبحر
يجب الذكر هنا بأن طريق الحرير لن ينقل المنتجات فحسب، بل سينقل الأفكار والتوجهات أيضًا، وبداية مشروع طريق الحرير أو “حزام اقتصادي واحد، طريق واحد” من إقليم مسلم بدرجة أولى ينافي بشكل كامل ما تحاول الصين تصديره عن صورتها عالميًا ببنائها نموذجًا مخالفًا تمامًا للدولة الحديثة الرأسمالية، حيث تحاول الصين بناء نموذج الدولة الملحدة أو في سياق آخر دولة الإله.
الدولة الملحدة ببساطة هي التي تتمركز حول التخلص من العبادات، والسيطرة على كل المؤسسات الدينية واستخدامها في نشر تعاليم تنافي الدين وتُنكر وجوده من الأساس، إلا أنها في الوقت نفسه تعمل جاهدة على تحقيق نموذج خاص بها وحدها لا يعتمد على الدين، حيث تعتبر الصين أكثر دولة تحتوى على ملحدين في العالم، ولا يعتمد على الرأسمالية ولا الأنظمة الدولية، وهذا بعدما صارت الصين أكثر دولة ذات هيمنة اقتصادية وعسكرية في آسيا، ومنافس قوي للولايات المتحدة الأمريكية، مما سهل عليها الآن التفكير في نموذج قوي لم تعرفه الدولة الحديثة من قبل.
التعرض المؤذي للأقليات المسلمة لا يخدم الأهداف الدينية فحسب بل يكون له في الأساس أهداف اقتصادية وسياسية تخدم الصالح العام للدولة، ولأن الدولة الصينية ترى منذ قرون أنه لا تجتمع الإنتاجية والإسلام في مكان واحد، أو في سياق آخر لا ترى احتمالية جيدة للمسلمين أن يكونوا أمة منتجة بسبب تركيزهم على العبادات التي تخالف المبادئ الشيوعية في الأساس، كان على الحكومة اتباع نظام غير مباشر لغسيل دماغ مسلمي الأيغور، المتوقع خروج المشروع الاقتصادي الأكبر في التاريخ من عندهم.
لا يمكن للصين أن تسمح باقتران اسم مشروعها الأكبر باسم المسلمين، ولا يمكن لها أن تساعد على ترويج أفكارهم من خلال طريق الحرير، وعليه كان الحل بالنسبة إليهم معسكرات للتهذيب وإعادة التعليم، حيث تعمل جاهدة من خلال كل الوسائل العنيفة منها وغير العنيف لتحويل المسلمين عن عقيدتهم الإسلامية ليكونوا مهيئين للمشروع الأضخم من نوعه على الاقتصاد الحديث وعلى نموذج الدولة الملحدة الذي ستقدمه الصين من خلال المشروع الجديد، ولهذا وقع الأيغور ضحية نموذج الدولة الجديدة لتقدم الصين لهم خيارين: إما أن يتخلوا عن عقيدتهم ويبقوها سرًا في قلوبهم أو يتعرضون للتصفية العرقية كما حدث مع الكثيرين.