جرّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب العلاقات التركية الأمريكية إلى منعطفٍ حاد، ما دفع تركيا إلى تبادل الضربات الاقتصادية مع الحكومة الأمريكية حفاظًا على كبريائها الدبلوماسي، فلقد دعا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الشعب التركي إلى مقاطعة المنتجات الإلكترونية الأمريكية، والاعتماد في المقابل على سلع شركة سامسونغ الكورية وفيستل التركية، وكالعادة، تأثر الأتراك بنبرة أردوغان الواثقة وتفاعلت الشركات التجارية مع هذا النداء ضمن حملة شعبية واسعة أكدت دعمها للموقف الحكومي.
في اليوم التالي، قررت الحكومة فرض ضرائب بنسبة 100% على الواردات الأمريكية ومنها مواد غذائية ومشروبات كحولية وأنواع من التبغ، إضافة إلى مستحضرات التجميل والخشب والسيارات، جاءت هذه الخطوة المدروسة ودقيقة التوقيت بعد أن ضمنت تركيا الدعم الروسي والصيني والقطري والفرنسي لها.
تتخوف ألمانيا من وصول وباء الحرب التجارية إليها، إذ أن أي خلل في الاقتصاد التركي واستقراره قد يؤثر مباشرةً على سوقها المحلي
المثير للاهتمام أن ألمانيا كانت من أوائل الدول التي اتخذت موقفًا مساندًا للحكومة التركية، فلقد عبرت بشكل صريح عن أهمية ازدهار الاقتصاد التركي بالنسبة للسوق الألمانية، ليس تعاطفًا مع الجانب التركي وإنما خوفًا من وصول وباء هذه الحرب إليها، إذ أن أي خلل في الاقتصاد التركي واستقراره قد يؤثر مباشرةً على السوق الألمانية، حيث يبلغ حجم التبادل التجاري بين الدولتين نحو 36.4 مليار دولار أمريكي (عام ٢٠١٧)، كما يوجد نحو 6 آلاف شركة ألمانية في تركيا.
والأسوأ من ذلك، أن تتحمل ألمانيا تبعيات التراجع الاقتصادي خاصةً أنها تمثل الوجهة الأمثل بالنسبة للأتراك في أوقات الحرب والسلم، ولا شك أن هذا الدعم جاء أيضًا بناءً على توجس ألمانيا من خوضها لنفس الحرب مع أمريكا في المستقبل القريب.
منذ عامين ونصف كانت تركيا تستورد الطائرات وآلات حربية أمريكية الصنع، لكنها اليوم تصنع وتصدر هذه المعدات بنفسها
أكد على ذلك رئيس قسم الأخبار الخارجية في صحيفة “خبر تورك” أوزجان تيكيت، في حوار خاص له مع “نون بوست”، قائلًا إن “تركيا وأوروبا في المركب نفسه، ولا داعي للتذكير بأن أمن أوروبا يبدأ من الحدود التركية الملاصقة للعراق وإيران وسوريا، ومن المهم الإشارة إلى أن الموقف التركي في قضايا كثيرة مثل أزمة اللاجئين وداعش حافظ على الاتحاد الأوروبي من التزعزع”.
دللت على ذلك أيضًا المحللة الاقتصادية التركية سلوى تور، قائلةً إنه “ليس من المرجح أن يحدث تقارب تركي أوروبي سريع ولكن أوروبا تعي أن تراجع الاقتصاد التركي أو انهياره قد يفتح ملف أزمة اللاجئين مجددًا ويعيده إلى الصف الأول بما أن تركيا تستضيف وتنفق على أكثر من 4 ملايين لاجئ”.
أردوغان يعلن عن عزم تركيا تحقيق الاكتفاء الذاتي
بعيدًا عن المواقف الدولية تجاه هذه الأزمة، قال أردوغان منذ أيام معدودة “سوف نحقق الاكتفاء الذاتي، سننتج ما ليس لدينا، وسنصدر جميع المنتجات التي نشتريها من خلال إنتاج نسخ أفضل”، هذا التصريح فتح أبوابًا من الأسئلة عن إمكانية تركيا تحقيق هذه الغاية، وما إذا كانت هذه الخطوة ردة فعل مستعجلة على العقوبات الأمريكية لا أكثر.
ويقصد بذلك اعتماد دولة ما على إمكاناتها الخاصة في تأمين احتياجاتها من السلع الاستهلاكية والاستثمارية إلى حدٍ تكون فيه الواردات أقل من الصادرات بفارق كبير، من أجل تحقيق مستوى عالٍ من الاستقلالية المالية والرفاهية الاقتصادية، وبالتالي التخلص من التبعية الاقتصادية والتدخلات أو الابتزازات الأجنبية في الملفات الداخلية.
من الصعب تحقيق هذه الغاية دون توفر منتجات مساوية تقريبًا في الجودة والكم مقارنة مع السلع المستوردة حتى تكون قادرة على مجاراة متطلبات السوق والمستهلكين خاصة في وقت الأزمات والحروب
من جهة أخرى، قد يعني هذا الانعزال عن العالم الخارجي وقطع جميع العلاقات التجارية مع البلدان الأخرى، أو استغلال أفضل للقوى العاملة المحلية وتحسين مضاعف للصناعات الوطنية كمًا ونوعًا، وغالبًا ما تسمى هذه السياسة بـ”الاقتصاد المغلق” أو Closed Economy.
ومن الصعب تحقيق هذه الغاية دون وجود مناخ ديمقراطي وشفاف في البلاد على المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، إضافة إلى ضرورة توفر منتجات مساوية تقريبًا في الجودة والكم مقارنة مع السلع المستوردة حتى تكون قادرة على مجاراة متطلبات السوق والمستهلكين خاصة في وقت الأزمات والحروب.
في هذا الشأن، تتميز عدة دول ببنية اقتصادية متينة مثل النرويج وفرنسا وأمريكا، ولكن المصادر تتضارب بين أيهما الأكثر اكتفاءً ذاتيًا، على سبيل المثال تتمتع النرويج بالاكتفاء الذاتي من ناحية اللحوم والخضراوات والأغذية البحرية، وتنتجها وتصدرها أيضًا لكن معدلات الإنتاج والتصدير تختلف من سنة إلى أخرى بحسب الظروف المناخية، ولكنها مع ذلك تحافظ على نسب عالية من الاكتفاء.
لا يعد الاكتفاء الذاتي دومًا إنجازًا إيجابيًا، فهناك مقاييس وحسابات أخرى قد تقلب المعادلة، على سبيل المثال، قد تكون تكاليف المواد المستوردة أقل من تكلفة تصنيعها في البلاد
بالنسبة إلى إحصاءات عام 2014، تعتبر فرنسا الدولة الأوروبية الوحيدة في العالم التي يمكنها أن تدعي أنها مكتفية ذاتيًا بالكامل من الناحية الزراعية في الاتحاد الأوروبي، أما أمريكا فمن المرجح أن تحقق هذا الهدف خلال عامين من الآن، وذلك في قطاع الطاقة.
ومع ذلك، لا تعد هذه الخطوة دومًا إنجازًا إيجابيًا، فهناك مقاييس وحسابات أخرى قد تقلب المعادلة، على سبيل المثال، قد تكون تكاليف المواد المستوردة أقل من تكلفة تصنيعها في البلاد، كما قد تزيد الضغوط على الحكومة لدعم هذا المنتج، لذلك لا تعتبر هذه السياسة مؤشرًا حاسمًا على متانة الدولة الاقتصادية.
وهذا ما بينه الباحث الاقتصادي عبد الحافظ الصاوي في حوار له مع “نون بوست”، والذي أشار إلى أن “مفهوم الاكتفاء الذاتي هو مفهوم نسبي، فلا يمكن لأي دولة في العالم أن تصل إلى اكتفاء ذاتي بنسبة 100%، فلا بد أن يكون هناك بعض المجالات التي تمثل لها جانب من العجز”، وأضاف “وإذا وصلت إلى 100% من الاكتفاء الذاتي في جميع المجالات، قد يكون ذلك مكلفًا لها اقتصاديًا لأن هناك بعض السلع تكون تكلفتها الاستيرادية أرخص من إنتاجها في السوق المحلية”.
المحللة تور: “الظروف القاسية والدقيقة التي مرت بها تركيا في الخمس سنوات الأخيرة وإحداها محاولة الانقلاب الفاشل عطلت البرامج الاقتصادية”
من جهة أخرى، قالت المحللة الاقتصادية تور إن “هذا الإعلان كان عبارة عن إجراءات احتياطية لتقليل معدل التضخم والسيطرة على الليرة التركية، ولم تكن خطوة مستعجلة بل كانت متأخرة”، مشيرةً إلى أن الظروف القاسية والدقيقة التي مرت بها البلاد في الخمس سنوات الأخيرة وإحداها محاولة الانقلاب الفاشل عطلت البرامج الاقتصادية، كما تابعت: “عندما قال أردوغان اكتفاء ذاتي لم يكن يعني ذلك بنسبة 100%، بل كان يقصد أن تكون الصادرات أعلى من الواردات”، هذا ونوهت إلى أهمية هذا التصريح الحماسي الذي يحتاج الشارع التركي لسماعه.
كم تبعد تركيا عن ضفة الاكتفاء الذاتي؟
لم تقرر تركيا هذه الخطوة على إثر أزمتها الدبلوماسية والاقتصادية مع الولايات المتحدة، فلقد أشارت إلى ذلك منذ 3 سنوات عندما بدأت الحكومة تتطلع إلى زيادة طموحها وتوقعاتها بشأن إمكاناتها الاقتصادية المحلية، إذ أعلنت أن عام 2023 سيكون المرحلة الأخيرة في تحقيق الاكتفاء بنسبة 100% في مجال الصناعات الدفاعية.
في هذا الخصوص قال تيكيت أن “القوى العاملة والبعد الجيوسياسي يمكنه تأمين احتياجات تركيا الدفاعية، فمنذ عامين ونصف كانت تركيا تستورد الطائرات وآلات حربية أمريكية الصنع، لكنها اليوم تصنع وتصدر هذه المعدات بنفسها”، وأضاف أن العجز الاقتصادي التركي يكمن في موارد الطاقة لكن الاتفاقيات التجارية الجارية مع أذربيجان وروسيا وقطر وإيران قادرة على إشباع هذا النقص.
اعتبارًا من عام 2014، كانت تركيا قادرة بالفعل على تلبية 60% من احتياجاتها العسكرية من خلال الإنتاج المحلي وبلغت حصة صادراتها نحو 1.68 مليار دولار عام 2016، لكن ما زالت معداتها متوسطة المستوى من الناحية التكنولوجية ولا تضمن لها مواجهة خصومها بهذه الآليات المتواضعة.
تركيا وضعت خطة لزيادة حصة الاستثمارات إلى 3% من إجمالي الناتج المحلي بحلول عام 2023، لكن هذه النسبة لا تسمح لتركيا بعد باللحاق بالدول المتقدمة الأخرى
من الناحية الغذائية، تعتبر تركيا واحدة من الدول المعدودة التي تتمتع باكتفاء شبه ذاتي في هذا الجانب، ويكمن الفضل في ذلك إلى طبيعتها المناخية والجغرافية التي توفر لها تنوعًا مختلفًا من المنتجات؛ ما ساعدها على إنتاج 80 نوعًا من أصل 140 من الخضراوات والفواكه في العالم.
وبذلك تكون واحدة من أكبر 10 منتجين ومصدرين للفاكهة والقمح والقطن في العالم، ومن بين أفضل 5 منتجين للخضراوات والشاي، وذلك وفقًا لتصنيف “الإيكونوميست” العالمي، كما يشير الصاوي إلى أن الفائض الزراعي في تركيا يصل إلى 16 مليار دولار سنويًا.
يمكن معرفة مدى جدية الحكومة في هذه الخطوة من خلال قياس حجم الإنفاق على مراكز البحث والتطوير، فنجد أن تركيا وضعت خطة لزيادة حصة الاستثمارات إلى 3% من إجمالي الناتج المحلي بحلول عام 2023، لكن هذه النسبة لا تسمح لتركيا بعد باللحاق بالدول المتقدمة الأخرى.
خطوة مدروسة أم ردة فعل مستعجلة على العقوبات الأمريكية؟
أجاب الخبير الاقتصادي الصاوي على هذا التساؤل قائلًا إن “تصريح تركيا كان عبارة عن ورقة ضغط على الحكومة الأمريكية، فإذا نظرنا إلى الصادرات التركية لعام 2017 نجد أنها تبلغ نحو 175 مليار دولار، ونلاحظ أن السلع الإلكترونية منها لا تتجاوز سوى 2.8 مليار دولار، وهذا الرقم شديد التواضع”، مضيفًا “ينبغي على تركيا أن تخطو خطوة كبيرة حتى يكون لها قيمة مضافة وعوائد أكبر وحتى تستطيع تفادي الكثير من المشكلات وعلى رأسها مشكلة انخفاض قيمة العملة التركية التي تعرضت لها مؤخرًا”.
ومن جهة الركائز المطلوبة لتحقيق اكتفاء ذاتي في قطاع التكنولوجي، ذكر الصاوي عدة مفاتيح يمكنها تحقيق الهدف ومنها “الاستثمار في قطاع التعليم والبحث العلمي وإعطاء مزايا استثمارية في مجال الإنتاج التكنولوجي مثل الإعفاء الضريبي وتقديم المعونات وتقييد الرسوم الجمركية على المعدات المستخدمة في مجالات البحث والدراسة والإنتاج”.
الصاوي: “إذا نظرنا إلى الصادرات التركية لعام 2017 نجد أنها تبلغ نحو 175 مليار دولار، ونلاحظ أن السلع الإلكترونية منها لا تتجاوز سوى 2.8 مليار دولار، وهذا الرقم شديد التواضع”
هذا وتابع الصاوي أن “الحرب الاقتصادية التي يقودها ترامب ضد الصين واليابان وروسيا والاتحاد الأوروبي وغيرها من الدول ستجعل نسبة التكامل بين هذه الدول متقاربةً جدًا، وخاصةً بعد تصريحات ميركل، لذلك من المتوقع أن تفتح أمام تركيا أبوابًا واسعة من التعاون مع الدول الأوروبية أو الصين أو دول البريكس، وستجد منافذ لتحقيق نمو في القطاع التكنولوجي”.
في النهاية، قد لا تستطيع تركيا -على المدى القريب- أن تحقق الاكتفاء الذاتي التام، وخصيصاً التكنولوجي، لكنها من جهة أخرى استطاعت أن تصيغ علاقات جديدة مع دول جديدة لم تكن يومًا ما على قائمة اهتمامات أو أولويات تركيا، حيث بدت تركيا تتوسع شيئًا فشيئًا على خارطة القارات والدول، واستطاعت وبكل ذكاء الاستفادة من الجميع، والاختيار لنفسها أفضل الخيارات، مع عدم حصر ذاتها في خيار معين وبالتالي لا تستطيع القوى الأخرى وضعها في الزاوية أو الإملاء عليها كما ترد ، كما أنها بشكل ما أظهرت متانة مبادئها واستعداد حكومتها وشعبها في احتواء هذه الأزمة وغيرها من الأزمات الجسيمة خلال السنوات الماضية.