غموض يواكبه جمود ونسيان كالعادة من العرب والمسلمين، في كل ما يتعلق بالروايات التي تصر عليها المؤسسات الحقوقية الغربية، حول احتجاز الصين نحو مليون مسلم من أقلية الأويغور، بمعسكرات سرية في منطقة شينغيانغ التي تُمارس السلطة فيها بالحكم الذاتي، وهي المفاجاة التي فجرتها لجنة القضاء على التمييز العنصري الحقوقية، التابعة للأمم المتحدة، خلال إحدى الجلسات الدائرة بالمؤسسة الدولية الأشهر في العالم بمقرها بجنيف، والتي انعقدت خصيصا لمراجعة قرارات بكين، وسياساتها العدائية ضد الأقليات.
وتحت شعار مكافحة التطرف الديني، والحفاظ على استقرار المجتمع، تضع الصين هذه الأعداد الضخمة، في معسكرات سرية ــ لم يتوفر لأحد طريقة لاقتحامها ومعرفة ما يدور فيها ــ حتى الآن، ولكن التقديرات تتضارب، بعضها يشير إلى احتجاز نحو مليونين من الأويغور، بهدف دمجهم مع التقاليد الصينية العتيدة، وإذابتهم سياسيًا داخل مجتمع شديد التعقيد، وهي المعلومات التي تعتقد الأمم المتحدة بصحتها، في ظل تحفظ الوفد الصيني الذي حضر المناقشات على الخوض في ما طرح أمامه من معلومات، والاكتفاء بالرفض فقط، وإصدار بيانات تنفي القضية برمتها، وتشجب الحديث فيها بدعوى «السيادة»، وهي الكلمة التي ساءت سمعتها في دول العالم أجمع بسبب الاستخدام المفرط لها، على نحو مغاير للحقائق، بما أفقدها هيبتها واحترامها.
الحقيقة والوهم في احتجاز الصين للأويغور
حسب الإحصاءات الرسمية، يقيم في «شينغيانغ» حوالي 23 مليون مسلم، وهي أكبر منطقة يتمركز فيها مسلمين بالصين، بينما يتفرق حوالي 7 مليون آخرين في أماكن مختلفة بالبلاد، هذا إذا ما أعتمدنا على الإحصاءات الرسمية للحكومة الصينية، رغم وجود مراكز مستقلة، تنفي تمامًا هذا العدد الهزيل، وتصدر من جانبها إحصاءات غير حكومية، تؤكد أن المسلمين يتخطون 100 مليون نسمة، ينتمي حوالي 10% منهم إلى قبائل الأويغور.
بحسب العديد من المراجع التاريخية الموثقة، يعود أصل الإيغور إلى تركيا، وهم يعتبرون أنفسهم دائما في تبعية عرقية وثقافية لآسيا الوسطى
من وقت لآخر، تثار قضية طوائف الإيغور المسلمين، الذين سكنوا إقليم تركستان الشرقية، الخاضع للسيطرة الصينية الكاملة منذ عام 1949، ومنذ ذلك الوقت وهو يخضع لعمليات «تصيينه» بشكل مكثف، أي جعله ذو هوية صينية، لدرجة أن الصين غيرت من إسمه، وأطلقت عليه إسم «شينغيانغ»,
بحسب العديد من المراجع التاريخية الموثقة، يعود أصل الإيغور إلى تركيا، وهم يعتبرون أنفسهم دائما في تبعية عرقية وثقافية لآسيا الوسطى، المنطقة التي تنخرط بشكل كامل في الهوية الإسلامية، ودولها الخمس تعرف باسم الجمهوريات الإسلامية، وتشمل قيرغيستان وطاجيكستان وتركمانستان وأوزباكستان وكازخستان، وغالبية هؤلاء من أتباع المذهب السني، لذا يغلب على الإيغور النزعات النضالية، التي دائما ما تحركها هويتهم الثقافية والدينية التي تستعصى على الذوبان داخل الهوية الصينية.
تمكن الإيغور من تحقيق استقلال مؤقت بداية القرن الماضي، ولكن الصين استطاعت إعادة المنطقة لسيطرتها عام 1949، وفي محاولة شكلية منها لحل الازمة المستعصية وتهدئة أو مهادنة الرأي العام الدولي في ذلك الوقت الذي شهد حروبا عالمية كانت الصين أهم الأطراف فيها، منحت الإقليم حكمًا ذاتيا، ورغم ذلك لم يأمن الإيغور للصين في أي وقت، لذا لن نجد في محطات التاريخ بينهما أي تقارب، بل سنجده دائما كان حافلا بالندية والصراع الذي تطور في أغلب الأحيان إلى صراع مسلح.
منذ سنوات مضت والسلطات الصينية تعتمد على خطة ممنهجة لنشر أعمدة خرسانية لايمكن إزاحتها، ترسخ الهوية والثقافة الاقتصادية الصينية في الإقليم المتمرد
يتهم الإيغور بكشل مستمر، السلطات الصينية بمعاملتهم بطريقة تمييزية مقيتة، وعلى نحو مضاد، تكيل سلطات بكين ألوانًا من النقد الجارح للقبائل المسلمة، وتتهمها بالتمرد والقيام بعمليات عنف وتخريب متعمدة تستفز الكرامة الوطنية للصين، آملا في تفجير حالة متقدمة من العصيان المدني، الذي قد يقودهم في النهاية إلى إعلان دولة مستقلة، وهو الوهم بعينه من وجهة نظر بكين التي لن تسمح بذلك.
إبعاد الدين.. الطريق إلى زرع الهوية الصينية
منذ سنوات مضت والسلطات الصينية تعتمد على خطة ممنهجة لنشر أعمدة خرسانية لايمكن إزاحتها، ترسخ الهوية والثقافة الاقتصادية الصينية في الإقليم المتمرد، وطرحت بكين استثمارات كبرى بالمنطقة ووطنت الصناعة والطاقة، وجرفت في طريقها مصادر دخل الإيغور من مزارع ومشروعات كانت تعترض طريق التنمية الحكومية، وجعلتهم تدريجيا يلجأون للوظائف في الاستثمارات الجديدة، حتى تضمن السيطرة على أرزاقهم، بما يجعلهم تحت رحمة قوتهم.
الجزء الثاني من الخطة الصينية، شمل خطوات شاسعة نحو تجريف الهوية الثقافية للإيغور، وطبقت الحكومة عبر عدة معايير صارمة منذ العام الماضي القوانين العامة، التي تفرضها في باقي ولاياتها، وتشمل قائمة من التعليمات حول كيفية التعامل داخل المؤسسات المملوكة للدولة، مثل القطارات ومحطات الأتوبيس والشركات العامة، بما يعني منع النساء المسلمات من ارتداء الحجاب والنقاب، وغيرهما من المظاهر والتقاليد الإسلامية، وطالبت المواطنين المساعدة في فرض الهوية الصينية، بضرورة إبلاغ الشرطة عن جميع المخالفين لقراراتها.
دشنت بكين حملة كبرى هدفها الخفي اقتلاع نبتة الإسلام من الحياة الصينية، ووضعت لها إسمًا يثير لعاب المجتمع الدولي وهو «ضد التطرف»
لم تكتف السلطات الصينية بذلك، بل شرعت في البدء بسلسة إجراءات لعمل إبادة للهوية الدينية والثقافية للمسلمين، وبحسب تقارير حقوقية نقلتها الشبكة الدولية للاخبار التحليلية، وهي مؤسسة عالمية لا تبحث إلا عن الأخبار الصادقة والموثوق فيها بدرجة كبيرة، هاجمت السلطات الصينية الإيغور، وداهمت منازلهم بحثًا عن المصاحف، وسجاجيد الصلاة، وأي متعلقات دينية لها علاقة بالإسلام، وهي الأنباء التي اكدتها صحيفة الإندبندنت البريطانية، نقلا عن مصادر إيغورية، تعيش في منفى إجباريا بالعاصمة الإنجليزية لندن.
في مرحلة لاحقة، دشنت بكين حملة كبرى هدفها الخفي اقتلاع نبتة الإسلام من الحياة الصينية، ووضعت لها إسمًا يثير لعاب المجتمع الدولي وهو «ضد التطرف»، واعتمدت في ذلك على تسريب أسماء الأويغوريين الدواعش، الذي انضموا لصفوف الدولة الإسلامية في سوريا والعراق، لتثبت شيوع التطرف في الإقليم، ثم بدأت إجراءات قاسية، تمنع من خلالها إطلاق اللحى وارتداء النقاب في الأماكن العامة ومعاقبة من يرفض مشاهدة التلفزيون الرسمي، والمتمرد منهم يتم إخفاءه قسريًا، ويتم ضبطه عبر إشاعة الاعتقالات، وتعزيز القبضة الأمنية القاسية للشرطة على إقليم شنغيانغ.
تلى ذلك إقامة مراكز كبرى لإعادة تأهيل الإيغور فكريًا وأيديولوجيًا، وتُخضع السلطات لهذه المراكز قسريا، أي أشخاص مهما كان عددهم ويحملون نوايا عدوانية بحسب تعبير الحملة، وهؤلاء لا تكتفي بتتبعهم داخل الإقليم، بل والهرولة خلفهم خارج البلاد، وكانت قضية طلبة الأزهر الإيغور، الذين تم قبض عليهم العام الماضي في القاهرة، وتم ترحيلهم إلى الصين بطلب من حكومة بكين، أحد الأمثلة الصارخة على ذلك، خصوصا أن مصير هؤلاء معلق حتى الآن، بعدما اعتقلتهم السلطات الصينية واقتادتهم دون محاكمة إلى المراكز سالفة الذكر فور عودتهم مكبلين بالأغلال والقيود، وتم إخضاعهم لعملية أدلجة جديدة داخل تلك المراكز، ونحتهم بالفكر والهوية الصينية، بحسب العديد من التقارير الحقوقية التي تتبعتهم منذ خروجهم من القاهرة.
يعرف الإيغور أكثر من غيرهم، انه في ظل الصمت المخجل للعرب والمسلمين تجاه قضايا الأقليات الإسلامية في العالم، بما يعزز ضعفهم وهوانهم على الناس، لن يكون هناك حاجة لطلب المساعدة من أي قوة عالمية ولاطريق أمامهم إلا النضال حتى الموت
بالتأكيد من المعطيات السابقة، ستعني النوايا العداونية في عرف الحكومية الصينية أي مظاهر خارجية، توحي بإعلان التدين الإسلامي دون خوف أو تردد، بما يعني أن هؤلاء قنابل موقوتة، ومثلهم قد يكونوا قادة محتملين في أي عمليات شغب، أو إثارة للجماهير، وتعتمد بكين في مراقبة المتدينين الذي يعلنون هويتهم ولايخفونها مهما العقاب المنتظر، على رجال الحزب الشيوعي وأعضاءه من أصحاب العقيدة السياسية المتطرفة في تبعيتها للهوية الصينية، وهؤلاء يتولون مراقبة السكان المسلمين بشكل عام في هذه المنطقة، بجانب حواجز الشرطة وكاميرات المراقبة.
يعرف الإيغور أكثر من غيرهم، انه في ظل الصمت المخجل للعرب والمسلمين تجاه قضايا الأقليات الإسلامية في العالم، بما يعزز ضعفهم وهوانهم على الناس، لن يكون هناك حاجة لطلب المساعدة من أي قوة عالمية ولاطريق أمامهم إلا النضال حتى الموت، فالغرب إن قدم المساعدة للضعفاء والمهمشين سياسيًا، سيرهن حريتهم وقراراهم السياسي والاقتصادي أمامها، مما يعني أنهم سينتقلون من كفيل شيوعي، إلى آخر لايؤمن إلا بقاعدة المصلحة المادية المجردة، حتى وإن قدمت له في وعاء يمتلء بالثعابين، في النهاية سيكسب والكل خاسر.