على بعد أمتار من صالات معرض الكتاب في إدلب، التي حظيت باهتمام إعلامي واسع وزارتها شخصيات بارزة في المعارضة السورية بعضها جاء من تركيا، خرجت مظاهرة مناهضة لهيئة تحرير الشام التي تحكم المنطقة، تصدى لها عناصر الأمن وفرقوها بالقوة والضرب واعتقال عدد من الأشخاص.
لم تنل هذه المظاهرة اهتمام الناشطين البارزين العاملين في إدلب، الذين غطوا بكثافة فعاليات معرض الكتاب الذي حضر افتتاحه زعيم الهيئة، أبو محمد الجولاني، الأمر الذي عرّض هؤلاء الناشطين لحملة انتقاد جديدة من مناهضي الهيئة.
ويحمّل المنتقدون الناشطين والإعلاميين الذين يحظون بشهرة وجماهيرية واسعة على وسائل التواصل الاجتماعي، جزءًا كبيرًا من المسؤولية عن تصرفات “جهاز الأمن العام” التابع لـ”هيئة تحرير الشام”، بسبب “صمتهم عن ممارساته القمعية”، وبالتالي “تغول الهيئة كسلطة أمر واقع تسعى لتكميم الأفواه والهيمنة على كل مفاصل الحكم والإدارة والمجتمع”، معتبرين أن “هذه نتيجة طبيعية للدعم الذي قدمته تحرير الشام لهذه الفئة من الناشطين على مدار السنوات الماضية”.
ويقول أصحاب هذا الرأي: “بينما منعت الهيئة عمل مؤسسات إعلامية وصحفيين وناشطين مستقلين، أو قيدت نشاطهم في مناطق سيطرتها، بسبب رفضهم التماهي مع سياساتها، شرّعت الأبواب أمام المؤسسات والشخصيات الإعلامية التي قبلت بالعمل معها أو لصالحها، أو هادنتها على الأقل، لتحظى هذه الفئة بدعم على مختلف الصعد، مكنها في النهاية من تصدر المشهد الإعلامي، الأمر الذي قطفت “تحرير الشام” ثماره خلال الانتفاضة الشعبية الأخيرة ضدها”.
استنساخ التجارب الديكتاتورية؟
في الوقت الذي منحت فيه الهيئة تسهيلات ودعمًا كبيرًا للإعلاميين الذين أيدوها أو تجنبوا انتقادها، اعتقلت أجهزتها الأمنية العديد من الصحفيين والناشطين الذين عارضوها، إلى جانب ذلك استخدمت أساليب ترهيب أخرى مثل توجيه التهديدات لهم، أو الاعتداء على بعضهم من قبل مجموعات تابعة لها بلباس مدني، الأمر الذي وصفه أحد الصحفيين الموجودين في إدلب، في حديثه لـ”نون بوست”، بأنه “استنساخ لأساليب نظام الأسد وغيره من الحكومات الديكتاتورية ضد معارضيها”.
ويقول صحفي آخر يعمل في مناطق نفوذ الهيئة، طلب عدم الكشف عن اسمه: “أصواتنا أصبحت مكتومة، وعدساتنا تتجه نحو الأسفل خشيةً على حياتنا.. ما حدث في مظاهرة يوم الثلاثاء بإدلب، وخلال ثوانٍ قليلة، أعادني بالذاكرة إلى عام 2011 عندما كان شبيحة الأسد يقمعون المتظاهرين”.
وأضاف: “اليوم كنت شاهدًا على مشاهد القمع الوحشية بحق المتظاهرين. أنا، كصحفي، لم أجرؤ على رفع كاميرتي لتغطية الحدث، ولم أستطع أن أتحدث عما حصل، بسبب حجم الإجرام الذي وصل إلى اقتحام منازل المدنيين الذين كانوا يصورون مشاهد القمع من شرفات منازلهم”.
وتابع: ما حدث كان على بعد أمتار قليلة من معرض الكتاب، وهذه التشديدات الأمنية في إدلب لم تكن لحماية من يحضرون المعرض، بل لمنع وصول المتظاهرين إليه.. الطريقة الوحشية التي استخدمها شبيحة الجولاني نسفت كل تضحيات الشعب السوري، ولا تدل على أننا نعيش يومًا لدينا فيه حرية الرأي، أو أن كرامة الإنسان معتبرة.
معرض الكتاب.. ليس مجرد معرض!
حظي معرض إدلب للكتاب، الذي أقيمت نسخته الأخيرة في مطلع سبتمبر/أيلول، بتغطية إعلامية واسعة من وسائل إعلام محلية وعربية، واللافت في الأمر هو تزامن المعرض مع حملة ترويجية لصالح “حكومة الإنقاذ” التابعة لهيئة تحرير الشام، قادتها شخصيات بارزة في التيار الإسلامي العربي خلال الأيام الأخيرة.
ورغم الخلافات مع “تحرير الشام”، لم يتردد معارضون سياسيون في التوجه إلى إدلب لحضور فعاليات المعرض إلى جانب عدد من الصحفيين العاملين في وكالات إعلامية كبرى.
وبينما يقول هؤلاء إن تغطية معرض الكتاب يعتبر من صميم العمل الإعلامي، ولا يتعارض مع الوقوف بوجه تجاوزات السلطة القائمة في إدلب، يرى مناهضو الهيئة أنه يمثل “خيانة” لقيم الحرية والمهنية الصحفية، خاصة عندما يتم تجاهل المظاهرات المندلعة خارج صالات المعرض، والقمع الذي يتعرض له المشاركون فيها.
ميلاد الشهابي، مدير وكالة الصحافة السورية، اعتبر أن “ما حدث يوم الثلاثاء في إدلب، هو وصمة عار على الصحفيين وعلى كل من حضر معرض الكتاب”.
وقال في تصريح لـ”نون بوست” عن ذلك: “لا يمكن القول إن تغطية فعاليات ومعرض الكتاب، بل وسفر بعض الإعلاميين من تركيا إلى إدلب للقيام بهذه المهمة، مع تجاهل المظاهرات والتعامل الأمني مع المشاركين فيها، أمرًا طبيعيًا، بل يندرج في إطار تلميع سلطة الجولاني وخيانة السكان الذين يقبعون تحتها”.
وأضاف: “على الزملاء والزميلات في تركيا، وتحديدًا من يذهب لتغطية الفعاليات الرسمية في الشمال السوري على العموم، وليس إدلب فقط، أن يتذكروا أن هناك شعبًا مكلومًا لم يحقق حتى الآن أبسط المطالب التي خرج من أجلها عام 2011″.
الشهابي ذكّر المشاركين في تغطية مثل هذه النشاطات بـ”أن هناك من يتعرض للظلم، وأن هناك جرائم تُرتكب بحق الناس من سلطات الأمر الواقع، ومنها هيئة تحرير الشام”، كما طالبهم بـ”ألا يكونوا شركاء في الترويج لأنشطة لا قيمة لها مقابل صوت إنسان مغيّب في سجون الظلام”.
الحكومة المؤقتة مستهدفة؟
لكن الكثيرين يرون أن ما يجري مؤخرًا تجاوز مجرد تسليط الضوء على هكذا نوع من الأنشطة، والتركيز على النجاحات الأمنية المسجلة، حيث تراجعت بالفعل أعداد التفجيرات والاغتيالات السياسية والجرائم الجنائية في مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام، وإنما تعدتها لتصل إلى الترويج لحكومة الإنقاذ التابعة لها، باعتبارها نموذجًا يرقى لأن يكون بديلًا، لكل سلطات الأمر الواقع في سوريا، أو على الأقل في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة شمال غرب البلاد.
أمر تشعر به الحكومة السورية المؤقتة العاملة في مناطق سيطرة الجيش الوطني المعارض بريف حلب، حيث لا يستبعد المسؤولون فيها وجود أجندات تحاول تشويه صورتها لصالح فرض حكومة الإنقاذ بديلًا عنها.
مصدر في الحكومة المؤقتة أبلغ “نون بوست” أن ما جرى خلال الأسبوع الماضي من هجوم واسع على الحكومة، وتحوير كلام رئيسها عبد الرحمن مصطفى في اجتماع غازي عنتاب، الذي ضم ممثلين عن مختلف الجهات السورية المعارضة، يعتبر جزءًا من محاولات تقويض الحكومة المؤقتة.
المصدر الذي طلب عدم الكشف عن هويته، اعتبر أن “استهداف المؤقتة بهذا الشكل وبالتزامن مع حملة تلميع حكومة الإنقاذ، مع التركيز على السلبيات في مناطق الجيش الوطني، وتحميل كل أسبابها للحكومة وتجاهل الظروف والإمكانات التي تعمل فيها، والنجاحات التي تحققها رغم ذلك، لا يمكن التعامل معه على أنه أمر بريء، بل يتوافر على كل موجبات النظر إليه كخطة ممنهجة هدفها الترويج لهيئة تحرير الشام، رغم كل التجاوزات والانتهاكات التي تحصل في مناطق سيطرتها، مع أنها الجهة الوحيدة المسيطرة ولا تعاني من العقبات التي تواجهها الحكومة المؤقتة”.
لكن الإعلامي محمد أبو النصر، يؤكد من جانبه أنه يسلط الضوء على الإيجابيات في “المناطق المحررة” سواء الخاضعة لسيطرة هيئة تحرير الشام أم الجيش الوطني على حد سواء.
ويرفض أبو النصر الاتهامات بالتبعية لهيئة تحرير الشام أو العمل وفقًا لأجندتها أو تعليماتها، مؤكدًا في حديث مع “نون بوست” أن ما يكتبه أو يسلط الضوء عليه “نابع من الإحساس بالمسؤولية تجاه المناطق المحررة التي شهدت تطورًا كبيرًا، وخاصة في إدلب، خلال السنوات الماضية”.
ويضيف: “أستطيع القول إن الوضع في هذه المنطقة جيد، وهو على عكس التصورات التي لدى الكثيرين أو التي يريد أن يكرسها البعض، وهي تصورات وصور تصب في صالح النظام، الذي يبذل كل الجهد لتصوير إدلب على أنها منطقة سوداوية غير قابلة للعيش، لذلك أنا لا أتردد في تسليط الضوء على النجاحات والإيجابيات في المنطقة التي أعيش فيها وأعرف تفاصيلها”.
تتفق وجهة النظر هذه مع وجهات نظر العديد من الإعلاميين الذين ينشطون في مناطق هيئة تحرير الشام، والذين لم يعلنوا تأييدهم للحراك المناهض لها، مع إقرارهم بمشروعية جزء من مطالبه.
لكن العديد من هؤلاء يبررون تحفظاتهم بأن الحراك لم يقتصر على أصحاب المطالب المحقة، كما أنه تجاوز الحالة الشعبية إلى الخصومة السياسية، وبالتالي فإن دعمه سيعتبر تحيزًا لصالح طرف سياسي ضد آخر.
وبطبيعة الحال ينفي أصحاب هذا الموقف أن يكونوا مرتبطين بأي شكل مع هيئة تحرير الشام، لكنهم في الوقت نفسه يؤكدون أنهم ليسوا على خصومة معها، وهو ما أتاح لهم بالفعل أريحية في العمل وتحقيق النجاحات التي يطمحون إليها.
وفي المقابل، يتهم هؤلاء الطرف المناهض لـ”تحرير الشام” بالمبالغات في تصوير أخطائها، والتركيز على السلبيات في مناطق سيطرتها، مع تضخيم هذه السلبيات، مشيرين بهذا الصدد إلى ما جرى مساء الثلاثاء الماضي، حين فشل كل من ادعى بتعامل قاس لجهاز الأمن العام مع المتظاهرين بإثبات ذلك، بينما يؤكد الطرف الآخر أن عناصر الجهاز منعوا أي شخص من التصوير بالقوة.
أبعد من حدود إدلب!
لكن العديد من الخبراء في مجال الإعلام والمراقبين يؤكدون أن ما ينبهون إليه وينتقدونه بهذا الصدد أبعد بكثير من مجرد الاصطفافات الشخصية أو السياسية للناشطين والإعلاميين في مناطق سيطرة الهيئة، بل يتعلق بجهد إعلامي منظم من قيادة تحرير الشام وداعميها من أجل تكريسها كسلطة قوة أمر واقع وجهة سياسية سورية مقبولة داخليًا وخارجيًا.
يرى هؤلاء أن “هناك منظومة إعلامية تدير عملية تلميع الهيئة والترويج لها خارجيًا، وعلى رأسها شخصيات بارزة على المستوى العربي، ولهم وصول ونفوذ في العديد من وسائل الإعلام القوية والمؤثرة، بحيث يمارس هؤلاء دور حارس البوابة الإعلامية عندما يتعلق الأمر بتحرير الشام بحيث يقررون ما ينشر وما يجب ألا ينشر عنها”.
وحسب الكاتب والمعارض السياسي يحيى العريضي، تنقسم هذه الشخصيات بين مؤيد سياسي للهيئة على أساس إيديولوجي، أو مستفيد منها، لكنهم بالنهاية يؤمّنون لها غطاء قويًا بحكم النفوذ الذي يتمتعون به، إلى درجة أنهم يحاولون التأثير على دوائر صنع القرار لدى بعض الدول، كما حصل مع تنسيقهم زيارات لإعلاميين في مؤسسات صحفية أمريكية وأوروبية إلى إدلب، وإجراء لقاءات مع زعيم الهيئة، أبو محمد الجولاني، وقادة آخرين فيها، وهذا جزء من مهمة أكبر يتصدى لها هؤلاء.
العريضي، الذي يحمل دكتوراه في الإعلام، وشغل منصب عميد كلية الإعلام في جامعة دمشق قبل انشقاقه عن النظام عام 2011، يؤكد في تصريح لـ”نون بوست” أن الجولاني ومنذ تأسيسه “جبهة النصرة في سوريا” حظي بدعم إعلامي لم تنله أي جهة أخرى في المعارضة السورية، وهو ما ساعده على تطوير الشكل والمضمون الذي كان يتنقل فيه طيلة الأعوام الماضية، كما وفرت له خبرات مكنته من إحداث مؤسسات إعلامية خاصة بالتنظيم الذي يقوده، ووضع الخطط والبرامج وفق مقتضيات كل مرحلة وظرف، وهو ما تظهر إحدى تجلياته في هذا التوقيت ونحن نشاهد الترويج لحكومته على أنها النموذج الأفضل، وأنها تمثل طموحات الشعب السوري الثائر، وهو ما يتنافى مع حقيقة الأمر والواقع.
من جانبه يعتبر الكاتب والسياسي السوري المعارض ابراهيم الجبين أن ما يجري بهذا الخصوص يحمل أهدافًا سياسية مرحلية تسعى لضم هيئة تحرير الشام للعملية السياسية النهائية في سوريا، بالتزامن مع موسم التطبيع العربي الإقليمي مع نظام الأسد.
ويقول الجبين لـ”نون بوست”: “أعتقد أن تلميع تحرير الشام وقائدها الجولاني، هو اليوم هدف مرحلي يتم لغايات معينة، أكثر منه قرار استراتيجي، فلن يراهن أحد على كيان سنّي سلفي ملتبس المنشأ لمستقبل سوريا والإقليم”.
ويضيف: “من الواضح أن جميع اللاعبين توافقوا على تحويل الجولاني وهيئة تحرير الشام إلى ورقة يتم طرحها في توقيتات معينة، ثم التخلي عنها عند بدء المساومات والتفاهمات، والآن لا ينفصل ذلك عن عملية التطبيع العربي والتركي والدولي الجارية مع نظام الأسد”.
ويرى الجبين، وهو صحفي أيضًا، أنه “شيئًا فشيئًا يتم تقديم الجولاني بصورة يمكن الحديث عن حوار معه (أو حول مستقبله)، مع إبعاده عن صورة ذلك الجهادي القاعدي الغريب عن لغة السياسة. وبقدر ما يعتقد كثيرون أن هذا المسار سيفضي إلى اعتراف بالجولاني أو تأهيل له للعب دور مستقبلي، مقابل الصورة التي وصل إليها PKK الذي تم نقله من مصاف الميليشيا المصنفة كمنظمة إرهابية من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي حتى هذه اللحظة، إلى حالة إدارة ذاتية لها واجهات مدنية بلغ طموحها إلى درجة تنظيم انتخابات محلية”.
من النشرات والإصدارات، إلى الصحف والمجلات، ومن الصوتيات إلى الظهور بلثام، ومن ثم التجول في الأسواق وبين المقاتلين بالصوت والصورة الواضحتين، ومن مكاتب دعائية صغيرة إلى مؤسسة “كرياتيف إنسبنشن” الضخمة للإنتاج الإعلامي والإعلاني، ومن الزي الأفغاني إلى البذلة الرسمية والكاجول، ومن “القاعدة” والدولة الإسلامية العابرة للحدود، إلى الإمارة ومن ثم الكيان السني، ومن معاداة المعارضة وقتال الفصائل الأخرى، إلى فتح أبواب إدلب للجميع..
مراحل ومحطات وتحولات كبيرة مرت بها هيئة تحرير الشام، كانت في كل واحدة منها تحظى بدعم إعلامي من شخصيات ومؤسسات صحفية بارزة، على أمل أن يتم تكريس زعيمها، أبو محمد الجولاني، كلاعب سياسي لا يمكن تجاوزه في الملف السوري، فهل سيتحقق ذلك بالنهاية، كما حصل مع قوى إسلامية أخرى مثل طالبان أفغانستان أو المنشقين عن حركة الشباب المسلم في الصومال، أم أن كل هذه المساعي لا يمكن أن تثمر في التربة السورية؟