في عام 2005 استحوذت الصين على 75٪ من إنتاج الحرير الخام في العالم، كما استحوذت تقريبًا على 90٪ من صادراته في الاقتصاد الدولي، استفادت الصين من تاريخها القديم جدًا مع الحرير لكي تكون على قائمة الدول المُصنعة والمُصدرة له في العالم، حيث كانت الصين في التاريخ هي المكان الوحيد الذي يوجد فيه دودة القز، وأول مكان في العالم يتم فيه تصنيع الحرير قبل 4500 سنة، ربما كان بقاء طريقة ترويض دودة القز من أجل صناعة الحرير وأساليب الصينيين الأولى في صناعته سرًا حُكم بالموت على من أفشاه سببًا في احتفاظ الصين بتلك المكانة في صناعة الحرير لسنوات طويلة.
لم تتعلم الدولة البيزنطية سر صناعة الحرير إلا بعد 3000 سنة من إتقان واستمرار الصينيين في صناعته، حينها فقط بدأ الحرير في اتخاذ طريقًا له نحو الغرب، إلا أن الصين وقتها كانت قد تربعت على العرش في احتكار الصناعة لنفسها، حتى ذُكر الحرير في السجلات التاريخية للطقوس الإمبراطورية، وأنه كان جزءًا لا يتجزأ من الإمبراطورية الصينية وقتها، وحان الوقت بالنسبة لها أن تحمي منتجاتها دوليًا وأن تحافظ على مكانتها في تصدير الحرير.
بدأت الصين في السبعينات من القرن التاسع عشر بدأت الصين تسيطر بشكل واضح على تجارة الحرير مع كثير من البلاد كان من بينها الهند والجزء الجنوبي والغربي لأواسط آسيا، ومنها إلى السواحل القريبة من إفريقيا ومنها إلى أوروبا، حينها أطلق العالم الجغرافي الألماني “فرديناند فون ريتشهوفن” على الطرق التي تتبعه الصين لتجارة الحرير مع تلك الدول “طريق الحرير”، الطريق الذي قدمت الصين به نفسها إلى دول العالم.
هو طريق ليس من حرير، ولا يعتبر طريقًا أصلًا بمفهومنا المعروف عن الطرق البرية التي تصل بين المدن أو الدول، بل كان مصطلح “طريق الحرير” نفسه يعبر عن شبكة متكاملة من التواصل، تشكلت تلك الشبكة في شكلها الأكثر فعالية منذ قرن قبل الميلاد، استطاعت من خلالها الصين التجارة بأكبر كمية من الحرير مع العالم واستطاع الآخرون بالتبعية اكتشاف العالم وغرائبه ومعالمه.
ماركو بولو هو أشهر تاجر إيطالي أرّخ رحلاته التجارية على مدار “طريق الحرير” واستكشافه للصين وعادات أهلها قبل قرون
لم يكن طريق الحرير كل شيء
https://www.youtube.com/watch?v=WtLg5mVmnco
فيلم وثائقي عن طريق الحرير تاريخيًا
لا يمكننا تخيل طريق الحرير على أنه طريق ممتد من نقطة في الشرق إلى نقطة معينة في الغرب بشكل مباشر، ولكن يجب علينا تخيل التجارة في هذا الطريق من خلال مجموعات ضخمة من المجتمعات، حيث تقوم الصين بالبيع لأحد من تلك المجتمعات ولتكن الهند، ويقوم التجار في الهند بنقل التجارة إلى موقع آخر تنتقل منه المنتجات إلى سواحل إفريقيا ومنها إلى سواحل البحر المتوسط في أوروبا.
ولأن طريق الحرير عبارة عن شبكات متصلة ببعضها من خلال كثير من الطرق والموانئ والبحار والمحيطات، فكان هناك طريقًا منه جنوبًا يصل إلى أفغانستان وأوزبكستان وإيران غربا والطريق الآخر يمر عبر باكستان وكابول الأفغانية حتى رأس الخليج ويمكن الوصول منه إلى إيران وروما أيضًا من خلال شبكة طرق معقدة سهلت على الغرب التجارة مع الشرق، بدأت تلك التجارة بالحرير ومن ثم تنوعت ما بين البهارات والأواني الزجاجية والأطعمة والطيور والحيوانات النادرة ومن ثم إلى المجوهرات والأزياء، ومن ثم تحوله إلى أكبر سوق تجاري دولي بين الغرب والشرق.
تم تقديم الورق المصنوع في القرن الثالث قبل الميلاد في الصين إلى العالم من خلال طريق الحرير
يرتبط طريق الحرير ارتباطًا وثيقًا بشعب الهان، ممن يشكلون الأغلبية الصينية الحالية، وارتباطه تاريخيًا بهم يعزز من فكرة إيحاء سلالة الهان الصينية الحالية لمشروع الصين الأضخم اقتصاديًا ضمن خطتها في إحكام سيطرتها على الاقتصاد الدولي الحديث، ومن المعروف أن طريق الحرير يبدأ من شمال غرب الصين من إقليم “شينجيانغ” ذو الأغلبية المسلمة من أقلية الإيغور حاليًا، وهو ما يؤثر على الخلفية التاريخية التي تربط شعب الهان بطريق الحرير مما أدى إلى اتخاذ إجراءات غير إنسانية تجاه الأقلية المسلمة من أجل خدمة أهداف مستقبلية للصين من ضمنها المشروع الاقتصادي لإعادة إحياء طريق الحرير.
ماركو بولو هو أشهر تاجر إيطالي أرّخ رحلاته التجارية على مدار “طريق الحرير”
على الرغم من مرور أكثر من 600 سنة على آخر استخدام لطريق الحرير في التجارة، إلا أن أثره على الاقتصاد والسياسة والثقافة والمجتمعات دوليًا لم يكن هينًا أبدًا، لم يكن طريق الحرير خاص فقط بنقل المنتجات بين قبائل وأخرى، بل استخدم في نقل الأفكار أيضًا، حيث كان أهم فكرة نقلها طريق الحرير بين الشرق والغرب هو انتشار البوذية ووصولها إلى الصين وتحديدًا إلى إقليم “شينجيانغ”، الإقليم صاحب الأغلبية المسلمة اليوم، حيث عُرفت البوذية حينها بدين جديد أضيف لما كان يعرفه العالم في ذلك الوقت.
الكلمة اليونانية القديمة “سيريس” تعني الصين، ومعناها الأصلي في اليونانية القديمة “أرض الحرير”
وصل التجار العرب إلى التجار الصينيين من خلال طريق الحرير، حيث ربط الأخير بين الشرق الأقصى وبين ما تعرف حاليًا بالعراق وسوريا وشبه الجزيرة العربية، حيث لم تترك الصين المحيطات إلا وجابتها كلها، حيث قام الصينيون برحلات بحرية طويلة قبل الميلاد بقرون للسواحل الهندية في طريق آخر من طريق الحرير خاص بالموانئ البحرية والمحيطات، التقى التجار الصينيون بالتجار العرب على السواحل الهندية حيث باعهم الأخيرون العطور والبخور والتوابل وبعض من الأحجار الكريمة، كما باع الصينيون العرب منتجاتهم من الحرير وغيره وصلت إلى شبه الجزيرة العربية ومنها إلى الشام ودول البحر المتوسط وكذلك إلى الحبشة.
نقل طريق الحرارة الثقافة والأديان والأمراض أيضًا
اعتمدت القوافل التجارية في طريق الحرير على الجِمال كوسيلة أولية لنقل البضائع
ساعد طريق الحرير تلك المجتمعات على نقل ثقافتها ومعتقداتها بنقلها لبضائعها أيضًا، حيث نقلت المجتمعات ما صنعه الفن والموسيقى والرقص والشعائر والمأكولات المرتبطة بالطقوس الدينية والتقليدية مع تنقلهم على طول طريق الحرير، حيث ساعد ذلك المسلمين على نقل شعائر وتعاليم دينهم للتجار من الشرق الأقصى ومن الغرب، وساعد البوذيين على نقل الديانة والاعتراف بها عالميًا كمعتقد ديني لدى كثير من البشر في الشرق الأقصى في ذلك الوقت، كما نقل كل منهم آخر ما وصلت إليه مجتمعاتهم من العلوم والفلسفة واللغات أيضًا.
شهد طريق الحرير أربعة إمبراطوريات على طوله، منها روما في أوروبا وبارثيا في غرب آسيا (إيران القديمة ذات النظام العبودي) وكوشان في آسيا الوسطى (الدولة تسيطر على آسيا الوسطى وشمال الهند)، وأسرة هان الصينية في شرق آسيا.
خريطة طريق الحرير
ارتبط طريق الحرير ارتباطًا وثيقًا بالمال والسلطة، حاولت الإمبراطوريات الأكثر غنى فرض سيطرتها البرية والملاحية على الممالك والقبائل الأقل منها تجارة وربحًا، حيث حاول اليونانيون على سبيل المثال فرض سيطرتهم على الملاحة في البحر الأحمر وفي الخليج العربي وكانت لهم مستوطنة في جزيرة “فيلكة” الواقعة حاليًا بدولة الكويت، كما أن الفرس في العصور التالية لذلك استطاعوا فرض سيطرتهم على تجارة الصين والهند المارة بالخليج العربي، كما هو الحال تقريبًا في الاقتصاد الدولي نتيجة العولمة في أيامنا الحالية.
لم يكن تأثير طريق الحرير إيجابيًا دائمًا، فكما نقل البضائع واللغات والثقافة بين الشرق والغرب، نقل الطريق أيضًا الأمراض، حيث نقل مرض الحصبة ومرض الجدري، وأكثر الأمراض التي قضت على عدد ضخم من البشر في تاريخ الإنسانية، وهو مرض الطاعون، الذي انتقل من الشرق إلى الغرب في عام ، 1346، وهو ما عُرف بـ”الموت الأسود” وهو ما سُجل في التاريخ بأكثر الأمراض التي أهلكت البشر في التاريخ، حيث مات بسببه نصف عدد الأوروبيين في ذلك الوقت خلال 4 سنوات فقط، وهو ما لم يكن من الممكن حدوثه لولا وجود طريق الحرير.
تحاول الصين حاليًا إعادة مشروع طريق الحرير للحياة بعد مرور 600 سنة على استخدام الطريق بعد اكتشاف طريق “رأس الرجاء الصالح” وقناة السويس وكثير من الطرق البحرية الأخرى التي أبعدت كثير من التجار عن طريق الحرير، إلا أن الرئيس الصيني قرر من خلال مبادرته “حزام واحد طريق واحد” الاقتصادية على عودة المشروع الاقتصادي الذي يعد الأضخم في التاريخ عازمًا على سيطرة الصين على الاقتصاد الدولي، وناشرًا نموذج الدولة الإله المنافس للدولة الحديثة، مضطهدًا أقلية الإيغور المسلمة في سبيل تحقيق أهدافه المستقبلية، كما قدم لنا طريق الحرير الأمل في التاريخ قدم تهديد الموت أيضًا، فهل تعيد الصين الشيء نفسه الآن؟