ترجمة وتحرير: نون بوست
بينما تستعد كاليدونيا الجديدة لتنظيم استفتاء بخصوص استقلالها عن فرنسا في الرابع من تشرين الثاني/ نوفمبر القادم، عاد موقع “ميديابار” إلى المشروع الاستعماري الذي أعده الفرنسيون لهذا الأرخبيل الواقع في المحيط الهادئ. وقد تمثلت أولى مراحل هذا المشروع في إصدار نابليون الثالث قرارا يقضي بجعل كاليدونيا الجديدة سجنا يُنقل إليه المحكومون عليهم بالأشغال الشاقة.
في التاسع من أيار/ مايو من سنة 1864، وصلت فرقاطة “إيفيجينيا” الفرنسية إلى ميناء نوميا بعد قضائها 123 يوما في عرض البحر، وكان على متنها قرابة 250 سجينا محكوما عليهم بالأشغال الشاقة الذين كانوا يُنقلون داخل أقفاص. وقد تم استغلال هؤلاء المساجين لبناء المستعمرة الفرنسية الجديدة، التي تبعد حوالي 18 ألف كيلومتر عن العاصمة الفرنسية باريس.
بين سنتي 1864 و1897، تم إرسال نحو 22 ألف سجين إلى “المستعمرة الجديدة”. وعلى امتداد 30 سنة، كانت فرنسا تأمل في تحويل هذه المنطقة النائية إلى مستوطنة، من خلال استغلال المزارعين المسالمين الذين يُثمنون الأرض التي لم تستطع “الشعوب البدائية” الاستفادة منها. أما بالنسبة لهؤلاء الذين أدانهم الحق العام، فإن أغلبهم كانوا متهمين بجرائم سرقة، وقد باتت تلك الأرض منفاهم.
قال فرانسوا جيزو، الذي شغل منصب رئيس وزراء في عهد الملك لويس فيليب إن “هذه النقاط المنتشرة في العالم قد تصبح مراكز هامة للتجارة والملاحة ومحطات بحرية آمنة وقوية تضطلع بوظيفة مراكز الدعم بالنسبة لتجارتنا، ويمكن استغلالها للتزود بالوقود والإيواء”
لم تكن فرنسا، التي ضمت كاليدونيا الجديدة سنة 1853، تعرف كيف تتصرف مع هذا الأرخبيل الواقع في المحيط الهادئ الذي فرط فيه الإنجليز بعد اكتشافه من قبل جيمس كوك. وفي سباق محموم لتأسيس إمبراطورية مع منافستها برطانيا، أعطت فرنسا أهمية لهذا الأرخبيل الذي يمكن أن يشكل مستقبلا “نقاط دعم” في المحيط الهادئ.
في هذا السياق، قال فرانسوا جيزو، الذي شغل منصب رئيس وزراء في عهد الملك لويس فيليب (الذي حكم فرنسا بين سنة 1830 و1848)، إن “هذه النقاط المنتشرة في العالم قد تصبح مراكز هامة للتجارة والملاحة ومحطات بحرية آمنة وقوية تضطلع بوظيفة مراكز الدعم بالنسبة لتجارتنا، ويمكن استغلالها للتزود بالوقود والإيواء”.
لكن ما الذي يمكن أن يوفره أرخبيل كاليدونيا أكثر من ذلك؟ هل يمكن لفرنسا أن تجعله مستعمرة تابعة لها؟ في الحقيقة، لقد أثارت إمكانية استغلال موارد الأرخبيل الطبيعة على عين المكان جدلا واسعا، حيث كان البعض يرى أن هذا الأرخبيل مجرد أرض نائية ومعزولة عن العالم.
بغض النظر عن بعض الموارد البحرية المحلية على غرار خيار البحر، لا يوجد شيء آخر يمكن لفرنسا الاستفادة منه. ومع ذلك، اعتقد البعض أنه إذا لم يعرف شعب الكاناك كيف يستغل ثروات أرضه، فإنه بالاعتماد على العلوم الأوروبية يمكن جعل أراضي هذا الأرخبيل مصدرا لإطعام المعمرين الجدد لكاليدونيا عبر استغلال ما يزخر به باطن الأرض.
في بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لم يشهد الأرخبيل تدفقا كبيرا للمستوطنين، لأنه يبدو أن هذا النوع من المستعمرات لم يكن جذابا. وعموما، لم يكن الفرنسيون منجذبين كثيرا للهجرة نحو كاليدونيا الجديدة، التي كانت أقل المستوطنات التابعة للإمبراطورية الفرنسية التي تغري الفرنسيين.
في مذكرة أرسِلت تحت وصايته سنة 1861، دعا شارل غيلان الذي أصبح الحاكم الأول لكاليدونيا الجديدة إلى “نقل المُدانين بالأشغال الشاقة في فرنسا” مؤكدا أن “امتلاكنا لأوقيانوسيا لن يكون له فائدة كبيرة في كل الأحوال”
صور المستكشفون الأوائل شعب الكاناك على أنهم من الشعوب البدائية الآكلة للحوم البشر، الأمر الذي أثار مخاوف الفرنسيين. وظل الوضع مضطربا في كاليدونيا حتى بعد ضمها من قبل فرنسا، حيث رد شعب الكاناك على العمليات العسكرية الفرنسية على أرضهم بهجمات عنيفة أعقبتها موجة جديدة من القمع. ولم تكن قوات البحرية الفرنسية التي تدير هذه المستعمرة ممثلة على عين المكان سوى عبر مجموعة من الممثلين المستقرين في ميناء نوميا.
سنة 1858، أعد أحد العسكريين الفرنسيين تقريرا مرعبا يصور الوضع في الأرخبيل، ورد فيه “ليس هناك أي مستوطنة آمنة في كاليدونيا إلى حد الآن، ولا يوجد سوى أصحاب محلات تجارية وكباريهات”. وفي ذلك الوقت، قدم الضابط في البحرية العسكرية الفرنسية، شارل غيلان، الذين كان من بين الضباط المتحمسين المحسوبين على الحركة السيمونية، مشروعا لإنقاذ هذه الملكية الفرنسية.
في مذكرة أرسِلت تحت وصايته سنة 1861 بعنوان “مقال عن الاستعمار الجزائي في كاليدونيا الجديدة”، دعا شارل غيلان الذي أصبح الحاكم الأول لكاليدونيا الجديدة إلى “نقل المُدانين بالأشغال الشاقة في فرنسا” مؤكدا أن “امتلاكنا لأوقيانوسيا لن يكون له فائدة كبيرة في كل الأحوال”. وقد مثلت مذكرته ردا على قلق السلطات الفرنسية من أوضاع السجناء المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة والمسجونين في ميناء بريست، وتولون وروشفور الخاضعة لإدارة البحرية الفرنسية. وقد رأت الحكومة أن هؤلاء المساجين يشكلون عبء على البلاد وتهديدا أمنيا دائما.
بعد ثور سنة 1848، لُقّب هؤلاء السجناء بالطبقة الخطيرة وباتوا يشكلون تهديدا متناميا على الأمة، خاصة بعد فشل الحكومة في إيجاد حل للتعامل مع هذه الفئة المنحرفة. في هذا الصدد، أصدر لويس نابليون بونابرت سنة 1850 بيانا جاء فيه “يشكل ستة آلاف سجين عبئا كبيرا يثقل كاهل الميزانية، حيث أضحوا منحرفين أكثر فأكثر، كما أنهم يمثلون تهديدا مستمرا على مجتمعنا. ومن هذا المنطلق، أتطلع لجعل عقوبة الأشغال الشاقة أكثر فاعلية وأخلاقية وإنسانية وأقل تكلفة عبر استغلالها في تحسين الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية”.
من بين أبرز الأمثلة على هذا النظام المستعمرة البريطانية في “بوتاني باي”، التي أنشئت خلال سنة 1788 في أستراليا من قبل البريطانيين، وهي لا تزال “أكبر مؤسسة تستقبل المنفيين في التاريخ”
في البداية، وقع الاختيار على غويانا، التي تعد الأقرب لفرنسا من حيث المسافة، لجعلها “الأرض التي سيقضي فيها السجناء العقوبة”. ولكن تغيرت الوجهة بسرعة نظرا لأن الظروف المناخية وانتشار الأمراض يمكن أن يجعل من سجن غويانا أشبه بمركز موت في الهواء الطلق. وهذا يعني أن المحكومين عليهم بالأشغال الشاقة لن يكونوا الوحيدين المعرضين للهلاك، بل حراس السجن أيضا. وانتهى المطاف بتوقيع نابليون الثالث على مرسوم يعتبر كاليدونيا الجديدة أرضا تحتضن هذه الفئة من السجناء.
“سلوكك هنا يمكن أن يجعلك تنسى الأخطاء الفادحة التي ارتكبتها في الماضي”
كان العلماء المختصون في علم الجريمة يثبتون مراحل “إعادة تأهيل المجرمين”. ففي نهاية فترة العقوبة، أجبر السجناء على تنفيذ “أكثر أعمال الاستعمار قسوة”، قبل أن يتم التخفيف من معاناتهم بصفة تدريجية. بعد ذلك، يكون هؤلاء مؤهلين للعمل من أجل المستوطنين الأحرار الذين سيأتون للاستقرار في الأرخبيل ويضمنون لهم امتلاك قطعة أرض، وبذلك يتحول المجرمون إلى فلاحين شرفاء.
من بين أبرز الأمثلة على هذا النظام المستعمرة البريطانية في “بوتاني باي”، التي أنشئت خلال سنة 1788 في أستراليا من قبل البريطانيين، وهي لا تزال “أكبر مؤسسة تستقبل المنفيين في التاريخ”، ويبدو أن هذه التجربة أذهلت الفرنسيين. ففي غضون بضعة عقود، تحولت مستعمرة كاليدونيا الجديدة من أرخبيل نائي وغير مرغوب فيه إلى مستعمرة مزدهرة، وبذلك استفاد كلا الطرفان؛ السجناء والحكومة الفرنسية. وقد تحولت الأشغال الشاقة إلى أداة لخدمة هذا المشروع الحضاري الجديد.
نظرا للضرورة الملحة لإغلاق السجون، تبنت الحكومة الفرنسية قانون الترحيل سنة 1854. وتم الاتفاق على عدم ترحيل النساء إلا على أساس “الخدمة التطوعية”، ويستثني قانون الترحيل إلى كاليدونيا الجديدة الأطفال والطاعنين في السن (فوق الستين سنة). ويختلف قانون الترحيل أو النفي الفرنسي عن نظيره البريطاني في أن المدانين بأكثر من ثماني سنوات من السجن لن يسمح لهم بالعودة من جديد إلى فرنسا بعد قضاء عقوبتهم.
نظرة على سجن كاليدونيا الجديدة
لقد اتخِذت هذه القرارات بعد سنوات من الجدل حول السياسة الجنائية المتبعة في فرنسا، وقد انقسم الرأي العام بين مدافعين عن فكرة بقاء السجون مفتوحة، على غرار دو توكفيل، وبين مؤيدين لفكرة “نقل” السجناء خارج البلاد، مثل لامارتين. وفي السادس من أيار/ مايو من سنة 1844، ألقى لامارتين خطابا قال فيه “إنها الغريزة المتأصلة في العالم تدفعنا إلى لفظ المجرمين خارج بلداننا، لنمنع هذه الفئة المنحرفة أولا وقبل كل شيء من التأثير على بقية السكان”.
في حين رأى بعض النواب أن هذه السياسة قاسية في حق المساجين لأنها تحرمهم من جذورهم الفرنسية، أكد نواب آخرون أن الحكومة قدمت لمنحرفيها جنة استوائية مقابل جرائمهم. ولكن، لماذا يجب على باقي قارات العالم أن تحتضن المنحرفين الفرنسيين؟
بالنسبة للبعض، كانت عملية “نقل المنحرفين” بمثابة خيار “إنساني” وحكيم من الناحية السياسية، لأن ذلك يوفر للمُدانين فرصة للتكفير عن أخطائهم عبر مشاركتهم في خدمة المشروع التوسعي الاستعماري. وقد حققت عملية ترحيل السجناء لكاليدونيا الجديدة ثلاثة أهداف، تطهير المجتمع الفرنسي، وخلاص المنحرفين، وردع الجريمة. ولن يكون لهؤلاء المُدانين أي مستقبل في فرنسا، ولكنهم سيكونون أشخاصا جددا وأحرارا من جرائم الماضي في كاليدونيا الجديدة، التي من المؤكد أن قسوة الطبيعة فيها ستساهم في إخضاع هذه الفئة من الأشخاص.
لن يعرف أحد شيئا عن الظروف القاسية التي كانوا يعملون فيها هؤلاء المحكومين، على الرغم من الخطابات الإنسانية التي لطالما تشدق بها المسؤولون الوطنيون في فرنسا
استقبل الحاكم غيلان أول المُدانين الذين وصلوا على متن فرقاطة “إيفيجينيا”، وقد أدلى بخطاب واعد قال فيه “أيها العمال الذين تم نقلهم، لقد أرسلتم إلى هنا للمشاركة في الأشغال التي سيتم تنفيذها في هذه المستعمرة، لقد انتظرتكم بفارغ الصبر(…) وقد يساعدكم العمل هنا على نسيان الأخطاء الفادحة التي ارتكبتموها في الماضي”.
في كاليدونيا الجديدة، بدأ المحكومون عليهم بالأشغال الشاقة ببناء جدران سجنهم بأنفسهم، عوضا عن التمتع بما ظن بعض النواب أنه سيكون “جنتهم الاستوائية”. لن يعرف أحد شيئا عن الظروف القاسية التي كانوا يعملون فيها، على الرغم من الخطابات الإنسانية التي لطالما تشدق بها المسؤولون الوطنيون في فرنسا. لن يكتشف الفرنسيون ذلك، إلا في حال عودة موجة جديدة من المرحلين إلى فرنسا ليدلوا بشهادتهم حول الجحيم الذي عاشوا فيه في السجن الكاليدوني. وسيركزون على تفصيل مرّ مرور الكرام، ألا وهو حقيقة أن التواجد الفرنسي في كاليدونيا لم يرق لشعب الكاناك الذين لم يتخلوا بسهولة عن أراضيهم.
المصدر: ميديابار