القرار الذي أصدره مجلس شورى الحزب الحاكم في السودان الأسبوع الماضي باعتماد الرئيس عمر البشير كمرشح باسم الحزب في انتخابات 2020 لم يكن مفاجئًا لكثير من المراقبين، رغم النكسة التي ألمّت بالمجموعة التي تدعم البشير في الحزب الحاكم مطلع العام الحاليّ إثر سحب أعضاء المجلس ذاته مقترحًا بإعادة ترشيح الرئيس من أجندة الاجتماع السابق.
تصريحات مفاجئة
لكن المستغرب في تلك الجلسة أن البشير أدلى بتصريحات مفاجئة في ختام الجلسة حيث نفى أن يكون حزبه الحاكم حزبًا علمانيًا قائلًا “نحن حركة إسلامية كاملة الدسم، وليس لدينا عصبية لاسم، من جبهة الميثاق وحتى حزب المؤتمر الوطني”.
بينما أوضح الأمين السياسي للحزب الحاكم عمر باسان أن البشير رفض عرضًا ماليًا من إحدى دول الجوار يكفل حل المشاكل الاقتصادية كافة بسبب اشتراطات فيها ملامح انقلاب على ما أسماه “منظومة الكيان الإسلامي”، لم يحدد باسان الدولة المجاورة ولكن من الواضح أنه كان يقصد مصر ويشير إلى زيارة السيسي الأخيرة للخرطوم التي تردد أنه حمل خلالها مبادرة للرئيس البشير بالتنحي وتسليم السلطة لنائبه بكري حسن صالح بما يضمن إبعاد الإسلاميين مقابل دعم مالي مغرٍ من السعودية والإمارات.
المؤشرات التي سبقت انعقاد مجلس الشورى كانت تدل كلها على أن الرجل لا يريد مغادرة السلطة رغم وعوده المكررة
المهم أن تصريحات البشير الجديدة تأتي متناقضة كليًا مع تصريحات أخرى غير مسبوقة أدلى بها لصحيفة إماراتية رسمية واعتبر فيها أن الإخوان يهددون استقرار الدول العربية! وقد أثار حديث البشير في حينه صدمة شديدة لدى قطاع عريض من إسلاميي السودان واعتقدوا حينها أن البشير “باع” التنظيم في زيارته لدولة الإمارات.
وبالعودة إلى اجتماع مجلس الشورى الأخير نجد أن المؤشرات التي سبقت انعقاده كانت تدل كلها على أن الرجل لا يريد مغادرة السلطة رغم وعوده المكررة ومن بينها تصريحاته لصحيفة الراية القطرية قبل أعوام خلت عندما تعهد بعدم الترشح لانتخابات 2015 في حوارٍ كان “المانشيت” الأول للصحيفة ذاك اليوم.
ورغم ذلك ترشّح استجابة لما أسماها “ضغوطًا شعبية” واعدًا الشعب بالرخاء وتحسين الأوضاع الاقتصادية والسياسية، مضت قرابة 4 سنوات وذهبت الوعود كالعادة أدراج الرياح، ليجزم مرة أخرى بمغادرة الحكم قبل العام 2020 في حوارٍ شهير مع الإعلامية بقناة الجزيرة خديجة بن قنة، إذ أكد لها أنه “لا دستور الحزب ولا دستور الدولة يسمح لي بخوض الانتخابات مرة أخرى”.
وهذا ما ظل يردده حتى مطلع العام الحاليّ 2018 لكن بدأت النغمة تتغير عندما أقال مدير جهاز الأمن السابق محمد عطا المولى وأتى بصلاح قوش من جديد ليدير جهاز الأمن في خطوة أثارت ذهول حتى المقربين منه، ذلك لأن قوش تعرض للاعتقال قبل 5 سنوات بتهمة التخطيط لانقلاب عسكري ضد البشير وانعقدت له جلسات محاكمة لم تكتمل نسبة لصدور قرار رئاسي بالإفراج عنه.
حزب المؤتمر الوطني “الحاكم” انقسم إلى قسمين: جزء يدعم البشير بقوة وهم الأعلى صوتًا رغبةً منهم في التقرب من مراكز السلطة، والجزء الآخر يعارض ترشحه
وعندما تمت إعادة صلاح قوش لجهاز الأمن بقرار جمهوري مطلع العام الحاليّ تفاءل الناس بأنه سيشن حملةً على أوكار الفساد في البلد المصنف ضمن أسوأ دول العالم في معدل الفساد ولكن كان الغرض الخفي من وراء تعيينه هو إزاحة الرافضين للتجديد للبشير وعلى رأسهم المدير السابق لجهاز الأمن محمد عطا المولى الذي يتهم بأنه مقرب من نافع علي نافع نائب رئيس الحزب الحاكم سابقًا وهو من يقود مناهضة ترشح البشير إلى جانب الوزير السابق برئاسة الجمهورية أمين حسن عمر وولاة سابقين نجحت المجموعة الداعمة لعمر البشير في إزاحتهم.
آراء الإسلاميين في التجديد للبشير
انقسمت آراء الإسلاميين الذين تفرقت جموعهم بشأن ترشيح البشير ويمكن أن نلخص أبرز المواقف فيما يلي:
أولًا: حزب المؤتمر الوطني “الحاكم” انقسم إلى قسمين: جزء يدعم البشير بقوة وهم الأعلى صوتًا رغبةً منهم في التقرب من مراكز السلطة، والجزء الآخر يعارض ترشحه منهم نفع علي نافع إلى جانب أمين حسن عمر والأخير هو الوحيد الذي لا يجد حرجًا في التعبير عن رأيه المناهض لدعوات التجديد.
ثانيًا: حزب المؤتمر الشعبي: حزب معارض يشارك في الحكومة أسسه الراحل حسن الترابي بعد الانشقاق الشهير الذي ضرب الحزب الحاكم أواخر تسعينيات القرن الماضي، والحزب نأى بنفسه عن دعم ترشح البشير، فقد صرح أمينه العام علي الحاج بأن الشعبي لم يتخذ بعد قرارًا بخصوص المسألة ما يشير إلى رفض مبطن لخطوة التجديد.
ثالثًا: حركة الإصلاح الآن، حزب آخر منشق من المؤتمر الوطني يقوده غازي صلاح الدين، المستشار السابق للرئيس ويناهض بشكل صريح ترشيح البشير الذي اعتبره مخالفًا للدستور وتعهد الحزب في بيان له بمقاومة التجديد لعمر البشير.
رابعًا: الإخوان المسلمون، وهي الجماعة الأم التي انشقت منها الجماعات الأخرى بما فيها الحزب الحاكم، لم تعلق على الخطوات الأخيرة لترشيح البشير لكنها طالبت في مايو/أيار الماضي الرئيس بعدم الترشح لدورة رئاسية جديدة، وشددت على أن ترشحه سيعيق عمليات التغيير.
التصريح المفاجئ للبشير في ختام الشورى كان مفاجئًا حتى للإسلاميين أنفسهم لأنه جاء في وقتٍ كان الرئيس عمر البشير وقيادات الحزب الحاكم يجتهدون في إنكار الصبغة الإسلامية على حكمهم
خامسًا: منبر السلام العادل، حزب سياسي منشق من المؤتمر يترأسه الطيب مصطفى “خال” البشير، لم يعلق هو الآخر على خطوة تعديل النظام الأساسي للحزب الحاكم وتبنِّي توصية التجديد للرئيس لكن زعيم المنبر الطيب مصطفى كتب قبل يومين مقالًا شديد اللهجة بعنوان “أأيقاظ أمية أم نيام؟” حذّر فيه من تدهور الأوضاع الاقتصادية كما تبنَّى رؤية المعارضة باعتقاده قُرب سقوط النظام
استطلاع رأي.. 92% ضد ترشح عمر البشير
هذه أبرز مواقف الإسلاميين في السودان من ترشح عمر البشير لرئاسة الجمهورية، حيث يتضح أن الغالبية العظمى منهم لا تدعم استمراره رئيسًا بعد عام ونصف من الآن، كما تؤكد استطلاعات الرأي أن السواد الأعظم من السودانيين لا يرغبون في التجديد للبشير وخير دليل على ذلك نتيجة الاستطلاع الذي أنشأته صفحة “القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية” وهي صفحة غير رسمية لكن يديرها ضباط جيش ومتطوعون لهم علاقة بالحزب الحاكم، أكد 92% من عينة المستطلعين “43 ألف شخص” أنهم لا يرغبون في ترشح البشير لانتخابات 2020.
كما يتداول عدد من كوادر الحركة الإسلامية من طلاب الجامعات والأجهزة الأمنية وثيقة تدعو إلى الالتزام بلوائح الحزب الحاكم واحترام الدستور الذي ينص على عدم التجديد للبشير وإفساح المجال لشخص جديد يتولى قيادة البلاد.
لماذا قال البشير: “نحن حركة إسلامية كاملة الدسم”؟
التصريح المفاجئ للبشير في ختام الشورى كان مفاجئًا حتى للإسلاميين أنفسهم لأنه جاء في وقتٍ كان الرئيس عمر البشير وقيادات الحزب الحاكم يجتهدون في إنكار الصبغة الإسلامية على حكمهم ويقولون لدول الخليج التي تعادي الإخوان “السعودية والإمارات” أن الإخوان المسلمين في السودان ليسوا إلا جزء صغير من تحالف عريض يحكم البلاد تحت مسمى “حكومة الحوار الوطني”.
كما أن التلميحات التي أوردها البشير في خطابه بأنه رفض حلولًا لكل المشكلات التي يعاني منها الاقتصاد السوداني مقابل اشتراطات بإبعاد عناصر الحركة الإسلامية قد تكون صحيحة ولكنها لم تكن وليدة اللحظة بل قيل إنها طُرحت عام 2015 عندما اتخذ السودان قرارًا بالمشاركة في حرب اليمن.
ولذلك يُنظر أن البشير أطلق هذه التصريحات ليأمن جانب كوادر الحركة الإسلامية الذين لا يزالون في السلطة خوفًا من تكتلهم ضده لإسقاطه في الانتخابات المقبلة، رغم أن تكلفة التصريح ستكون عالية خارجيًا لحلفائه في “عاصفة الحزم”، فقد تتوتر علاقاته مع الإمارات والسعودية خلال الفترة المقبلة.
لا يخفى على كثيرين أن عمر البشير اعتمد اعتمادًا كاملًا على أبناء الحركة الإسلامية في تجميع الحشود الداعمة له بالمركز والولايات وتسليمه وثيقة “عهد ومبايعة” في كل مكان يذهب إليه
وربما أراد البشير قطع الطريق أمام من يروجون داخل الحزب الحاكم إلى أن الرئيس أبعد الكوادر الإسلامية التاريخية مثل علي عثمان طه ونافع علي نافع عن مراكز القرار وأتى بكوادر ضعيفة تمرر له قراراته دون مناقشة.
كذلك لا يخفى على كثيرين أن عمر البشير اعتمد اعتمادًا كاملًا على أبناء الحركة الإسلامية في تجميع الحشود الداعمة له بالمركز والولايات وتسليمه وثيقة “عهد ومبايعة” في كل مكان يذهب إليه، رغم أن يعرف تمامًا كيفية صناعة الحشود الجماهيرية التي تهتف باسمه وأنه يتم تعطيل عمل الدواوين الحكومية وإيقاف الدراسة بالمدراس والجامعات وجلب عامة الناس من أماكن بعيدة حتى يعتقد الجميع أن للرجل شعبية طاغية!
كما يواجه البشير لأول مرة معارضة شديدة حتى داخل الحزب الحاكم على الرغم من أنه بدا منتشيًا بعد قرار اعتماده مرشحًا من داخل مجلس الشورى، فهو يعلم أن المعركة لن تكون سهلة هذه المرة فيتعين عليه الحصول على موافقة المؤتمر العام للحزب الحاكم الذي ينعقد مطلع العام القادم، إلى جانب المعركة الأشرس التي ستكون داخل قبة البرلمان وهي تعديل الدستور الحاليّ الذي يمنع ترشحه، لذلك يريد أن يحصل على دعم الإسلاميين لمواجهة تلك التحديات.
بخلاف ما ذكرناه من سخطٍ عامٍ على الأوضاع الاقتصادية المتردية وفقدان ثقة عامة الشعب فإن هناك خطرًا آخر يواجه ترشح البشير وهو تكتل الإسلاميين المعارِضين وتقديم مرشح آخر في مواجهته، غالب الظن أن القيادات الإسلامية التي فقدت الثقة نهائيًا في الرئيس قد تدفع برئيس حركة الإصلاح غازي صلاح الدين العتباني أو وزير الخارجية المقال إبراهيم غندور للترشح للرئاسة والاثنين يتمتعان بشعبية جارفة وسمعة طيبة في أوساط الإسلاميين، إذا حدث ذلك مؤكد أن حسابات البشير وداعميه ستختل اختلالًا كبيرًا.