السجن، كما أنه فضاء يعيد تشكيل الأجساد التي دخلته ومكثت في زنازينه لسنوات، فمن خلال ممارسات السُلطة تُهدم كينونة السجين، إذ تُمحى تمامًا وتبنى بدلًا منها واحدة أخرى، خاضعة لا تُعرف نفسها كما كانت من قبل على أنها كينونة إنسانية لها من الكرامة والحقوق ما هو مترسخ فيها، بل هي كينونة أخرى موجودة من أجل السخرة والمهانة والمذلة.
لكن يوجد جانب آخر من السجن، تولّده أيضًا ممارساته القمعية وحياته المرئية، لأنه، أي السجن، كما أنه مصنع لإنتاج أجساد وأفكار مشوهة وخاضعة، هو أيضًا مصنع لإنتاج أجساد وأفكار مقاومة ومبدعة، وهذا هو تاريخ إنتاج السجون بشقّيه، الهدَّام والبناء، الذي يتداخل ويتقاطع كل واحد منهما مع الآخر.
السجن أيضًا، والفترة الزمنية التي يقضيها السجناء بداخله، من خلالها يتعرّفون على مؤسسة من أعتى المؤسسات التي بنيت عليها الدول العربية الحديثة، حيث هي مقرات كبيرة وكئيبة، تبلع مئات الآلاف من المواطنين لأسباب جنائية وسياسية، ومن خلال هذه المؤسسات العتيقة يفهم السجين كيف تعمل الدولة وأجهزتها التنفيذية والأمنية، وحتى القضائية والتشريعية، لأن كل هذا لا يفهمه المواطنون بشكل جيد وواضح إلا من خلال الممارسة.
هنا يرى السجين الدولة بشكل آخر، ويفهم كيف يُدار جسده وحياته من جانب أجهزتها، وبناءً عليه يفهم العقلية السياسية للدولة، وكيف تنظر إلى مواطنيها. هذا الفهم لا يأتي من فراغ، بل يأتي مع التفكير والتأمل وملاحظة الممارسات كافة التي يختبرها وهو داخل السجن. من هنا تأتي صناعة المقاومة، لأن الخروج من تجربة السجن كما أنها مؤلمة ومحبطة للإنسان، أحيانًا أخرى تكون ملهمة ودافعة له.
توجد أمثلة كثيرة لآلاف الأشخاص عبر التاريخ الحديث، في دول كثيرة وأزمنة مختلفة، خرجوا من السجن، وكان السجن ملهمًا ومُعلّمًا ودافعًا لهم لخوض تجارب سياسية وفكرية وثقافية. في الآونة الأخيرة نُشرت تقارير طويلة عن سيرة حياة القائد السياسي والعسكري لحركة حماس يحيى السنوار، وكيف كان يمارس يومياته داخل السجن، سواء مع السجن ذاته، بما يشمل من قوانين وعمران ومرئيات خاصة، أم حتى من خلال تعامله مع الأسرى والأفكار والتنظيمات داخل السجن، فضلًا عن تعامله مع السلطات الإسرائيلية السجنّية والأمنية والإعلامية.
كل هذا التأمل في سنوات السنوار داخل السجن كان محاولة لفهم شخصيته، فكره وسلوكه وأطباعه وأنماط إدارته للأمور، وهذا بعد الهجوم الكبير والتاريخي الذي قاده على “إسرائيل” في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
ليس السنوار وحده، كقيادة فلسطينية كبيرة، كان السجن مشكّلًا له ولأنماط فكره ورؤاه للاستعمار وطرائق التحرر والسياسة، لكن حتى القيادي الأصغر، وهو قائد كتيبة طولكرم المعروف بـ”أبو شجاع”، الذي قتل مؤخرًا على يد القوات الإسرائيلية، إثر اقتحامها الواسع لمُخيمات الضفة الغربية، كان هو أيضًا سجينًا سابقًا لعدة مرات ولبضعة سنوات منذ كان ابن 17 عامًا، وخرج من السجن ليشكل ويقود كتائب وجيوب مسلحة لمقاومة الاحتلال في الضفة الغربية.
على المستوى الثقافي، كان السجن مشكّلًا للكثير من أبرز الوجوه النقدية والأدبية التي لا تحصى، وحتى بعيدًا عن السياق الفلسطيني، كان شاعر العامية المصري البارز أحمد فؤاد نجم قد دخل السجن في أواخر الخمسينيات في بدايات رحلته الشعرية، وخرج لينطلق في كتابة أبياته الشعرية، ولم تكن تجربة السجن سوى محطة تحفيز وإلهام لمزيد من الشعر القاسي والصادق الذي يصف الحالة السياسية والاجتماعية تحت حكم سُلطويات الاستبداد في أنظمة عبد الناصر والسادات ومبارك.
كذلك مر الشاعر المصري عبد الرحمن الأبنودي بتجربة السجن، وعرف من خلالها ما السجن، وكيف تُعاش اليوميات داخله، وإلا لم يكن ليخرج كلمات شعرية صادقة ومعبرة بقدر كبير، مثلما كانت في قصيدته الأحزان العادية، ناهيك الروائي المصري صنع الله إبراهيم، الذي قال عن تجربة سجنه في عهد عبد الناصر: “لو عاد الزمن إلى الوراء وخيرت سأختار خوض تجربة السجن مرة ثانية دون تردد رغم الفترة التي قضيتها”، ودونّها في روايته تلك الرائحة الصادرة عام 1966.
من مصر إلى سوريا، كان الأديب السوري محمد الماغوط من بين من اكتشفوا موهبتهم في الشعر والكتابة خلال تجربته السجنية الأولى أواخر الخمسينيات، في سجن المزة بدمشق، إذ كان شابًا فقيرًا لا يعلم من الثقافة أو السياسة أو الأدب والشعر سطرًا أو بيتًا، لكنه تعلم ورأى نفسه كاتبًا وأديبًا وشاعرًا، ودوّن خلال تجربته السجنّية الثانية في عام 1963، رسائل خرجت للنور في كتاب بعنوان “رسائل الخوف والجوع”، وقد خرج من السجن وشق طريقه ككاتب وأديب وشاعر عربي لامع، مدافع عن الحياة العادلة للناس.
حتى على المستوى الفكري والتنظيري، كتب الفيلسوف والسياسي الإيطالي أنطونيو غرامشي، في ثلاثينيات القرن الماضي، ما يعرف بـ“كراسات السجن”، وهي بمثابة مذكرات منها ما هو ذاتي، جوابات لعائلته، امرأته ووالدته وأخته، يحكي فيها عن اشتياقه لهم كما يصور يومياته داخل السجن ويطمئن هو بدوره على حياتهم، ومنها ما كان تنظيري على فلسفة الحياة الاجتماعية والنفسية للمجتمعات والأنظمة السياسية، فضلًا عن تنظيرات بشأن فلسفة انتقال الأنظمة السياسية من الرأسماليات العسكرية الفاشية إلى الاشتراكية الاجتماعية، وغير ذلك من أدبيات موجودة إلى الآن بين أيدي الباحثين للاشتباك والنقد والنقاش.
كما ذاتيًا وتأمليًا، إذ يجد السجين في عزلته، حتى وإن كانت قاسية لدرجة تصل إلى التحرك ببطء نحو الموت، لكنها أيضًا تُعيد اكتشاف الذات والمعنى، حيث يكون السجين من خلال عزلته دائم البحث والتفكر في المعنى، معنى هذه الحياة ووجوده فيها، ما ينعكس عليه في حاضره ومستقبل بعد خروجه من السجن، فيُغير واقعه من خلال تغيير دراسته أو عمله، ويبدأ مشواره في مسارات قد اكتشف ذاته فيها خلال فترة السجن.
كان وما زال السجن، مصنع ذو إنتاجين، مختلفين ومتداخلين، أحدهما دافع نحو اليأس والموت، والثاني دافع نحو التغيير وربما الموت أيضًا
وكتب الرئيس البوسني السابق على عزت بيغوفيتش، في زنزانته (1983-1988)، قبل أن يخرج ويقود البوسنة كرئيس لها، رؤاه عن الحياة والوجود والأيديولوجيا، في كتاب عُنون فيما بعد بـ”هروبي إلى الحرية”، ويدل هذا العنوان على قيد السجن الشديد الذي كان يحاول بيغوفيتش الهروب منه عبر الكتابة والتدوين.
ويسترجع الطبيب والكاتب النمساوي فيكتور فرانكل أيام اعتقاله في معسكر أوشفيتز، في أربعينيات النازية الماضية، فكان يبحث عن الطرق التي يخرج بها من الضغط النفسي في مواجهة الموت داخل معسكر الاعتقال، فلا يجد سوى إجبار نفسه على التوجه نحو الخيال، فيرى نفسه واقفًا على منصة في إحدى المحاضرات وأمامه حشد من الناس يستمعون إليه بانتباه، بينما هو يُلقي محاضرة عن سيكولوجية معسكرات الاعتقال. رأى فرانكل في كتابه “البحث عن المعنى”، الذي نشره بعد خروجه من المعسكرات (1946) أن هذا الخيال يمثّل هروبًا جيدًا من مأساة الاعتقال والموت القادم.
حتى الموهبة لدى السجناء العاديين، الذين لم يبرزوا كوجوه ثقافية وفكرية وسياسية بعد تجربة السجن، كان السجن محطة لهم لاكتشاف أو تنمية هذه المواهب، إن كانت حالة السجون تسمح بذلك، في الكتابة والرسم والشعر والتصميم، ومواهب أخرى يمكن ممارستها داخل السجون. وخرجت بضعة تقارير وتحقيقات صحافية توثق مواهب داخل السجون أعادوا اكتشاف ذواتهم داخل السجن، بل وقاوموا سياسات محو الذات من خلال مواهبهم المتعددة.
هكذا كان وما زال السجن مصنع ذو إنتاجين، مختلفين ومتداخلين، أحدهما دافع نحو اليأس والموت، والثاني دافع نحو التغيير وربما الموت أيضًا.