قبل الانتخابات، تعمل الأحزاب والقوائم المترشحة على صياغة برامج انتخابية، تعد بتنزيلها أرض الواقع وتطبيقها حال نجاحها، معتمدة في ذلك على أساليب اتصالية مختلفة خلال الحملة الانتخابية التي تمتد لأيام قبل الموعد الانتخابي، إلا في موريتانيا فالأمر لا يستحق كل ذلك.
هناك، في ذلك البلد العربي الذي يقع غرب القارة السمراء، ما زالت القبيلة تتحكم بمختلف مناحي الحياة في موريتانيا، بدءًا من زواج الشباب، حتى اختيار المرشحين للانتخابات، وصولاً إلى التدخل في تسيير الشؤون العامة وتعيين الوزراء والمسؤولين، لذلك فإن كسب ولاء القبيلة يمثل انتصارًا مسبقًا في الانتخابات.
الانتماء القبلي هو الانتماء الأقوى
عقب الاستقلال من المستعمر الفرنسي، لم تتمكن الدولة الموريتانية من بسط نفوذها على كامل أنحاء البلاد، ما ترك الفرصة سانحة للقبائل المنتشرة هناك لإحكام سيطرتها على مختلف أوجه الحياة في موريتانيا بمساعدة المتنفذين في الدولة.
هذا الوضع تواصل إلى اليوم، فالأنظمة السياسية التي حكمت البلاد منذ الاستقلال إلى الآن متمسكة بهذه القيم والعادات والممارسات الموروثة عن الاستعمار، فقد ساهمت في ترسيخ حكم القبيلة وجعلت من المحاصصة والتوازنات القبلية والفئوية أداة استقرار للأنظمة ومحاربة خصومها السياسيين، بدل اعتماد آليات وأساليب في الحكم تفضي إلى استقرارٍ أساسه التنمية والعدالة.
هذا الدور الكبير للقبيلة في موريتانيا، جعل منها جماعة ضغط قوية ونافذة في البلاد
فضلاً عن استفادتها من ضعف الدولة وفشل الأحزاب، يرى المهتمون بالقبيلة في موريتانيا أن ثقل القبيلة يزداد أكثر بالاستفادة من سيطرة التراتبية الاجتماعية، وتمسك المجتمع بالأعراف القبلية، وعدم رغبتهم في الإقلاع عنها.
كل هذه الأسباب أدت إلى تعاظم دور القبيلة وسيطرة نفوذها على حساب قيم المواطنة، حتى إنها أصبحت المدافع عوض الدولة عن مصالح أفرادها، والراعية لحقوقهم، فالقبيلة هي شريان الحياة في موريتانيا.
ويعد الانتماء القبلي هو الانتماء الأقوى لدى الفرد الموريتاني، وينقسم المجتمع الموريتاني منذ القديم إلى مجموعات قبلية عديدة، ظلت طيلة تاريخها محتكمة إلى العرف القبلي، في ظل غياب شبه كامل من السلطة المركزية وعدم الخضوع أو التبعية الفعلية لها.
جماعة ضغط قوية
رغم التطور النسبي والحداثة التي يشهدها المجتمع الموريتاني في السنوات الأخيرة، ما زال للقبيلة دور كبير، فالتوازن القبلي في موريتانيا شرط غير معلن في أي تشكيلة حكومية بموريتانيا منذ الاستقلال حتى الآن، كما أنها المتحكم الأول في التعيينات الحكومية، فأصبحت القبيلة سلمًا يلجأ إليه كثيرون رغبة في خدمة مصالحهم الذاتية.
هذا الدور الكبير للقبيلة في موريتانيا، جعل منها جماعة ضغط قوية ونافذة في البلاد، فهي من تصنع الحدث دون أن تتبناه، وتؤثر في القرار دون أن تعلن نفسها، الجميع هنا يعلم قوتها ولكن لا يصرح بذلك، خشية منها، فالأمر من المسكوت عنه والمتعارف عليه في الوقت نفسه بين الجميع.
ويدرك معظم الموريتانيين أن القبيلة في بلادهم من تتحكم في مفاصل الدولة والحكم وحتى المعارضة، وإن كان ذلك بصورة غير علنية، فلها أن تعين وأن تقيل من تريد، حتى إن اسم القبيلة الذي تنتمي إليه له أن يعوض الدراسة في كبرى الجامعات العالمية، فالقبيلة تغلب الكفاءة.
يحظى شيوخ القبائل بمكانة مميزة لدى الحكام والمسؤولين في البلاد، وتجري استشارتهم بشكل مباشر وغير مباشر في تسيير الشؤون المحلية والوطنية، وتعيين كبار المسؤولين واختيار زعماء الأحزاب والمنظمات المدنية.
توزيع القبائل.. زنوج وبربر وعرب
يتألف المجتمع الموريتاني من ثلاث مجموعات سكانية رئيسية هم الزنوج والبربر والعرب، وقد أسهمت عوامل متعددة في تكوين ملامح المجتمع الموريتاني وتركيبته السلالية وأهم هذه العوامل هي الموقع ودخول الإسلام ونزوح القبائل العربية إلى هذه البلاد.
وتضم دولة موريتانيا خمس قوميات تأتي في مقدمتها القومية العربية التي تزيد نسبتها على 76% من مجموع السكان، بينما تتوزع نسبة 24% على القوميات الزنجية الأربعة وهى: التوكلور والساراكولي والوولف والسونينكي، إلا أن هذه الاحصاءات غير دقيقة.
نظام ولد عبد العزيز ساهم في تكريس القبلية في البلاد
لا توجد بموريتانيا إحصاءات دقيقة وثابتة عن حجم الإثنيات بهذا البلد لاعتبارات سياسية، فأصحاب السلطة في البلاد يحرصون دائمًا على سرية البيانات المتعلقة بالحجم العددي والديموغرافي للإثنيات، ذلك أن العرب “البيضان” الماسكين بالسلطة لا يريدون أن تكون هناك إحصاءات دقيقة.
وتتوزع هذه المجموعات وظيفيًا إلى قبائل ذات شوكة تحتكر السلطة، وأخرى قائمة على العلم وتقاليده تحتكر الوظيفة الدينية، ثم قبائل أخرى وظيفتها اقتصادية تنموية، وفي كنف هذه المجموعات الثلاثة تعيش فئات وفية تابعة تؤدي وظائف وأعمال محددة.
وتتحكم القبائل العربية في البلاد سياسيًا وثقافيًا بعد هجرة قبائل بني حسان العربية مع نهاية القرن السابع الهجري، بينما حمل السكان الأصليون من البربر الذين يعرفون باسم قبائل الزاويا، اللواء الديني والمعرفي كنوع من التعويض عن فقدانهم للنفوذ السياسي الذي اختص به العرب.
مثلا تتحكم قبيلتا “اسماسيد” (قبيلة الرئيس الأسبق معاوية ولد سيدي أحمد الطايع)، وقبيلة “أولاد بالسباع” (ينتمي إليها الرئيس الحاليّ محمد ولد عبد العزيز)، في الجانب المالي، ويعدان أطرافًا فاعلة في السوق، فهما يشكلان، إضافةً إلى حلفائهما في القطاعات المالية والبيروقراطية والعسكرية، كتلة مهيمنة تتمتع بسلطة قائمة على احتكار السوق.
قوة انتخابية مهمة
هذه القوة التي تتمتع بها القبيلة نلمسها في الانتخابات والتحالفات السياسية التي نعيش هذه الأيام حمى مراحلها المتقدمة في أفق استحقاق الثاني من سبتمبر/أيلول الذي سينتخب أعضاء البرلمان والمجالس المحلية، في البلاد.
رغم مُضِي نحو عقدين من الزمن على ما يوصف بالتجربة الديمقراطية في موريتانيا، ووجود قرابة 80 حزبًا سياسيًا مسجلاً لدى السلطات الإدارية، ونحو 2000 منظمة غير حكومية تعمل في بلد يبلغ عدد سكانه 3 ملايين نسمة، فإن القبلية تبقى المحدد الأول لنتائج هذه الانتخابات لذلك عمل النظام والمعارضة على كسب ود شيوخ كبرى القبائل المنتشرة في البلاد.
تتشبث بعض الأحزاب بمعيار الجاه القبلي في اختيار المرشحين بحجة أن هؤلاء هم الأقدر على تمثيل المنطقة
يجمع الموريتانيون على أن التحالفات القبلية أقوى تأثيرًا من نظيراتها السياسية، فهي المحرك الأساسي للأحداث السياسية، والفاعل في الصراعات الدائرة بين الأقطاب السياسية في الوقت الحاضر، أما الأحزاب فهي الغطاء للدور الخفي والأساسي للقبائل في صناعتها للأحداث.
ويبقى تأثير القبائل في موريتانيا متفاوتًا بحسب وزنها المالي وامتدادها الجغرافي وحجمها العددي، لذلك فإن للقبائل العربية النفوذ الكبير على المستوى الوطني فهي تنتشر في معظم أنحاء البلاد، وتشكل أكثر من ثلثي عدد سكان موريتانيا.
قبل بداية الحملة الانتخابية، أرسل نظام محمد ولد عبد العزيز عديد من الوزراء وكبار المسؤولين الحكوميين إلى مناطقهم القبلية، محملين بوعود كثيرة بتحسين أوضاع السكان المحليين، لضمان تصويت هذه القبائل لمرشحي الحكومة، وقبل ذلك أصر حزب ولد عبد العزيز في اختيار المرشحين على أساس قبلي، لما لهم من تأثير على الخزان القبلي الانتخابي.
يشكل نظام القبيلة أحد أبرز العوائق أمام تقدم موريتانيا
تتشبث بعض الأحزاب بمعيار الجاه القبلي في اختيار المرشحين بحجة أن هؤلاء الأقدر على تمثيل المنطقة والتعبير عن رغبات أفرادها وتعتبر الانتخابات الفرصة التي تجدد فيها القبيلة سطوتها وسيطرتها في مفاصل الدولة، فخلال أيام الانتخابات يعود للقبيلة زخمها وتستقبل رجالات السياسة والإعلام والثقافة محملين بالهدايا والوعود بامتيازات وتعيينات قادمة، لكسب ودهم وضمان أصواتهم في الانتخابات.
وحددت الحكومة الموريتانية، الثاني من شهر سبتمبر/أيلول المقبل موعدًا لأوسع انتخابات تشهدها البلاد وهي انتخابات تشمل النواب وعمد البلديات وأعضاء المجالس الجهوية، كما حددت شهر مارس/آذار من العام المقبل لانتخابات الرئاسة التي سينتخب خلالها رئيس جديد غير الرئيس الحاليّ الذي يمنعه الدستور من الترشح لأكثر من ولايتين.
يحذر العديد من الموريتانيين من خطر تغول القبيلة على مؤسسات الدولة، واستمرار تأثير سلطتها على مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فقد أصبحت عائقًا أمام تقدم الدولة وتحولها إلى المؤسسية والمدنية ودولة القانون، وبروز ديمقراطية حقيقية.